عقوبة المبتدع:قد فرق سلف الأمة بين المبتدع الداعي إلى بدعته وبين المبتدع المسر ببدعته لما بينهما في واقع الأمر من الفرق، ذلك أن الداعي أظهر من المنكر ما استحق العقوبة عليه، بخلاف المسر فهو ليس شرا من المنافقين الذين قبل الرسول صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، والسر في هذا الفرق هو الإعلان والإخفاء، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده"، فالواجب تغيير المنكر بعقوبة هذا الداعي وأمثاله من أهل المنكرات بحسب الإمكان مع تحري العدل والإنصاف، قال شيخ الإسلام في المجموع: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".ومن ذلك شهادة أهل البدع، فمع اتفاق السلف على رد شهادة من عرف بالكذب، إلا أنهم تنازعوا في شهادة من عرف بالبدعة، قال شيخ الإسلام في المنهاج: "وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث، لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع، ولا شهادته، ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح والسنن والمسانيد الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة، كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية".والعلة في ذلك ليس فسقا كما يظنه البعض، وإنما القيام بواجب إنكار المنكر إذا ظهر بحسب الإمكان، قال شيخ الإسلام في المنهاج: "وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها"، ثم بين رحمه الله تعالى كيف يكون الإنكار بعد وجوبه فقال: "وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته؛ ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد".ثم بين أن هذه المعاملة لأهل الأهواء في الشهادة والرواية وأخذ العلم عنهم لها نظير في الصلاة خلفهم، فقال: "وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور منهم من أطلق الإذن ومنهم من أطلق المنع والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا وأن لا يقدموا في الصلاة على المسلمين، ومن هذا الباب ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم؛ كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهى عنه".وهذه العقوبة مشروطة بأن يكون الداعي إلى بدعته غير متأول، وكانت بدعته غليظة، بحيث يرجى من عقوبته كف شره عن نفسه وعن الناس، ولابد مع ذلك من أن تكون قد قامت عليه حجة الله تعالى التي تستوجب مخالفتها عقوبته، ومع ذلك ففي اقترافه للبدعة وتركه للسنة ما فيه من نقصانه وهوانه على الله ونقص درجته وولايته بحسب بعده عما جاء به الرسول، وفي ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي: "من قامت عليه الحجة استحق العقوبة، وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب فيها، وكانت منقصة له خافضة له بحسب بعده عن السنة، فإن هذا حكم أهل الضلال، وهو البعد عن الصراط المستقيم، وما يستحقه أهل من الكرامة، ثم من قامت عليه الحجة استحق العقوبة، وإلا كان بعده ونقصه وانخفاض درجته وما يلحقه في الدنيا والآخرة من انخفاض منزلته وسقوط حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه، والله حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة، ...".ولما كانت عقوبة أهل الأهواء من باب العقوبات الشرعية، والغاية منها دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، باستعمال الرغبة حيث تكون أصلح والرهبة حيث تكون أصلح؛ فإنه لا بد أن تتناسب مع حال صاحب البدعة؛ من حيث قلة البدعة وكثرتها وظهور السنة وخفائها وتمكن المعاقب وضعفه، فإن المشروع قد يكون هو التأليف تارة، والهجران أخرى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواما من المشركين؛ ممن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطي المؤلفة قلوبهم مالا يعطي غيرهم، كما ثبت في الحديث الصحيح: "إني أعطي رجالا وأدع رجالا، والذي أدع أحب إلى من الذي أعطي؛ أعطي رجالا لما جعل الله في قلوبهم من الهلع والجزع وأدع رجالا لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب"، وقال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله على وجهه في النار"، وكان يهجر بعض المؤمنين كما هجر الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك.ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقا من أهل البدع المتأولين فقوله ضعيف، وهكذا ما هو واقع من التطاحن بين طوائف المسلمين اليوم من إطلاق اسم المبتدع على من فعل بدعة ولو كانت صغيرة، وإلحاقه بأهل الأهواء الذين اشتد نكير السلف عليهم؛ ثم ترتيب العقوبة على ذلك بالهجر والطعن وأنواع من الاعتداء والبغي الذي يدخلهم في جنس ما فعلته اليهود مما لا يحبه الله ورسوله من أنواع من البغي والعدوان، بل ويستوجب سخط الله تعالى وعقوبته، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة ولم يكن منهم في بعضهم ما هو موجود في المسلمين اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.وفي مقابل هؤلاء من جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع؛ فقوله ضعيف أيضا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال له بمن هو خير منه مع القدرة على ذلك فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز بحال، ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف كل ذي فجور وبدعه كما يفعله بعض الغلاة فقوله ضعيف أيضا، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء لما كانوا ولاة عليهم، كما حجوا معهم وجاهدوا معهم، ونحوها هذا كثير معلوم من تاريخ الأمة، والواجب ألا يعدل إلى المفضول إذا أمكن تولية الفاضل.وأما مشروعية عقوبة أهل البدع فلا ينكرها من له أدنى معرفة بمقاصد الشريعة وبتعامل سلف الأمة وأئمتها مع أهل الأهواء، بل تنوعت بحسب أحوال هؤلاء وهؤلاء، قال شيخ الإسلام: "ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة، كما روي ذلك عن الحسن البصري وغيره؛ لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له، وأدنى ذلك أن يذم عليه لينزجر، ويكف الناس عنه، وعن مخالطته، ولو لم يذم ويذكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لاغتر به الناس، وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضا هو جرأة وفجورا ومعاصي، فإذا ذكر بما فيه انكف وانكف غيره عن ذلك، وعن صحبته ومخالطته، قال الحسن البصري: "أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يحذره الناس"؛ وقد روي مرفوعا، و "الفجور" اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح يدل السامع له على فجور قلب قائله".والعقوبة قد تغلظ وقد تخف؛ بحسب عظم المفسدة وخفتها، فمتى كانت البدعة مغلظة تخالف ما هو جلي عند المسلمين؛ وكان صاحبها داعية إليها دافعا للحق الظاهر من الكتاب والسنة والإجماع فإنه تجب عقوبته، وتتعين درجة العقوبة بحسب الحال والممكن، وفي هذا قال شيخ الإسلام في الدرء: " فإن الحق إذا كان ظاهرا قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما؛ كان ذلك هو المصلحة، بخلاف ما إذا ترك داعيا وهو لا يقبل الحق؛ إما لهواه وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين، والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه، وكذلك على رضي الله عنه؛ بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين، والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة".وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.