ينبغي للداعي أن يكون عارفا بمراتب الأعمال:من المعلوم أن حقيقة الدين وما جاءت به الرسل أن تنظر ما اشتملت عليه الأعمال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة والتعارض، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا، وإنما خاصة العلماء بهذا الدين أهل الفهم والفقه العارفين بالله وبأحكامه هي معرفة مراتب المعروف ومراتب المنكر ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين، فيدعو إليه، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين، ذلك أن الأعمال ثلاث:الأول: عمل صالح مشروع لا كراهة فيه وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله تعالى، باطنها وظاهرها، قولها وعملها، في الأمور العلمية والعملية مطلقا، فهذا يجب تعلمه وتعليمه والعمل به على حسب حكمه في الشريعة من إيجاب أو استحباب، وهذا غالب على أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان.الثاني: عمل صالح من بعض وجوهه أو أكثرها، إما لحسن القصد أو لاشتماله على أنواع من المشروع، وهذا غالب على أعمال عوام الناس وعلى عبادهم وعلمائهم من المتأخرين، وهم خير ممن كان بطالا لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع، وخير ممن كان عمله محرما أو من جنسه.فمن تعبد ببعض العبادات المشتملة على نوع من الكراهة قد يكون حاله خيرا من حال ذلك الذي ينكر عليه وهو في نفسه بطال ليس فيه حرص على عبادة الله سبحانه وطاعته، وهؤلاء البطالين المنكرين على غيرهم تجدهم زاهدين في جنس عبادة الله تعالى، من العلم النافع والعمل الصالح أو في أحدهما، فتجدهم يحذرون من إرجاء عالم من علماء المسلمين أو يسمونه بأن فيه أشعرية أو اعتزال أو تصوف مذموم أو غيرها، فيتسلطون عليهم ويقصونهم، وهم لم يخوضوا في العلم كخوضهم، بل كثير منهم لم يخوضوا أصلا، وإنما أخذوا أقوالا دون تثبت من صحتها، وعمموها، وأصدروا أحكاما دون علم وفهم تلقوها يمينا وشمالا، ثم نسبوها لمن خاض في العلم من علماء الأمة الأجلاء كمالك والشافعي وأحمد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، ولم يكونوا منصفين، فأخذوا يختالون على الناس بتدين زائف مغلوط، وهم أشبه ما يكونون بالخوارج، وأحسن ما يقال عنهم حين نروم إلى عذرهم أنهم أصحاب نفوس مريضة قد تغشاها الجهل من مكان، وهم قوم لما أعجزهم العلم النافع والعمل الصالح صرفوا قواهم إلى الإنكار ولا شيء غير الإنكار، حتى إنهم كثيرا ما ينكرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهل، وأما القصد فالله سبحانه وتعالى من ورائه قد أحاط بكل شيء علما يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع، وهم على العكس من المؤمن المسدد الذي يعرف المعروف وينكر المنكر ويلتزم منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأقواله وأعماله باطنا وظاهرا، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين المداهنين أو الخاضعين للعقل الجماعي، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين، فهو قائم بالحق وللحق ومع الحق، والله الموفق للصواب.الثالث: عمل ليس فيه صلاح أصلا لكونه عملا فاسدا محضا، أو تركا للعمل مطلقا، مثل أن يكون أمرا معظما في الشريعة لكن يتخلله ما يعتقد أن له فضيلة ونحو ذلك ما يصير به منكرا منهيا عنه، وهذا مثل ما يحدث في يوم عاشوراء من لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة والندب من الشيعة في العالم إن قدروا على إظهاره كما في العراق وإلا أسروه، وما ضم إلى ذلك من الكذب والبهت والوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يكرهه الله ورسوله، بل كان الواجب الصبر والاسترجاع المشروع في مصيبة مقتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحد سيدي شباب أهل الجنة، بل اتخاذ هذا اليوم مأتما ليس من دين الإسلام في شيء، فهم ملومون على هذا العمل السيئ مما أحدثوه في هذا اليوم من بدع ومنكرات واعتاضوا به عن المشروع المسنون من صوم هذا اليوم ويوم قبله أو بعده، اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لليهود المغضوب عليهم، وفي مقابل هؤلاء ما أحدثه غيرهم مضاهاة لهم من إظهار الفرح والسرور في يوم عاشوراء وتوسيع النفقات فيه من مأكل ومشرب على غير المعتاد، وهذا أيضا مخالفا للشريعة، وسببه الغلو في مقابلة الفريق الأول، وكلاهما مخطئ، قد حظي الشيطان منهم بما أراده من دفع الناس إلى التفريط أو الغلو، ولا يهم بأيهما فاز، بل المهم عنده انحرافهم عن الدين، فلا عاصم إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.