من هذه الرحلات، بل من أهمها، ولو قلت أنها أهم الرحلات لطالب العلم لما بعدت (رحلة ابن رشيد) أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد أبو عبد الله الفهري السبتي المولود سنة سبعة وخمسين وستمائة، وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: "واحتفل في صباه بالأدبيات حتى برع في ذلك، ثم رحل إلى فاس، فأقام بها وطلب الحديث فمهر فيه، وصنف الرحلة المشرقية في ست مجلدات، وفيه من الفوائد شيء كثير –هذا كلام ابن حجر- وقفت عليه وانتخبت منه".
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "ولما رجع من رحلته سكن سِبْت ملحوظاً عند العامة والخاصة" يعني محل عناية من الناس، وذلك لما تميز به من العلم والعمل.
كان ورعاً مقتصداً منقبضاً عن الناس ذا هيبة ووقار، يسارع في حوائج الناس، يجلب المصالح، ويدرأ المفاسد، يؤثر الفقراء والغرباء والطلبة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان مع ذلك على مذهب أهل الحديث، في الصفات يمرها ولا يتأول.
يقول عنه لسان الدين بن الخطيب: كان فريد دهره، عدالة وجلالة وحفظاً، وأدباً، وهدياً، عالي الإسناد، صحيح النقل، تام العناية، عارفاً بالقراءات، بارع الخط، كهفاً للطلبة"، يعني يأوون إليه عند الحاجة كما يؤى على الكهف عند الحاجة من برد وحر.
في، وهذا استطراد في منسك الشيخ سليمان بن علي، جد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجد في جميع النسخ تأليف الشيخ الأجل والكهف الأضل، إيش معنى هذا؟ الكهف الذي يؤى إليه في المشاكل والمسائل العلمية، لكن أضل: يعني واسع جداً بحيث يضل فيه داخله، ويضيع، -رحمه الله-.
يقول: وكل تواليفه مفيدة، وكانت وفاته في أواخر المحرم سنة إحدى وعشرين وسبعمائة بفاس -رحمه الله-.
هذه الرحلة اسمها: (ملئ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة)، هذا عنوان الرحلة، استغرق ذكر الحرمين الشريفين من رحلته من أول الجزء الخامس إلى صفحة (283) من هذا الجزء، وذكر فيها من الفوائد الحديثية ما لا يوجد عند غيره من التحريرات العلمية والاستنباطات الفقهية، والمباحثات، والمطارحات الأدبية مع العلماء الذين لقيهم في رحلته، وعلى هذا يتحتم على طالب العلم أن يرجع على هذه الرحلة، لا سيما الحريص على الفوائد الحديثية، في مباحثات واستنباطات لا توجد عند غيره، وعول عليه من كتب في مصطلح الحديث ممن جاء بعده في كثير من تحرير المسائل، فعلى طالب العلم أن يرجع إليها و يفيد منها، ولاهتمامه بالعلم ولقاء العلماء، يهتم بمتين العلم.
ابن رشيد همته متجهة إلى متين العلم، ولذا لا تجده يصف المعالم التي شاهدها أو المزارات التي وقف عليها، غير شيء قليل، شيء يسير فعله، ولذا فإن الطابع المعهود في كثير من الرحلات لم يكن ملموساًِ في هذه الرحلة إلا قليلاً جداً، وذلك لأن اهتمامه مُنْصبٌّ بالجانب العلمي.
هذه الرحلة، رحلة متينة، كتاب علم وليس بكتاب أدب كبقية الرحلات، ولذا تجد كثير من طلاب العلم يصعب عليه أن يقرأ في مثلها، ويسهل عليه جداً أن يقرأ في رحلة ابن بطوطة، ذلكم بأن رحلة ابن بطوطة فيها متعة لا شك؛ لأنه شاهد الغرائب والعجائب ويذكر أشياء، وبعضها ينسجها من خياله، المؤلف ليس بثقة، ولذا عني الناس بها واهتموا بشأنها، وترجمت إلى لغات العالم على ما سيأتي.
هنا الرحلة التي نذكرها الآن رحلة ابن بطوطة المسماة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة.
يقول ابن حجر في الدرر الكامنة: قال ابن الخطيب: كان مشاركا في شيء يسير –يعني من العلم- مشاركاً في شيء يسير، عنده شيء من فقه الإمام مالك، ولا يتعدى فقه الإمام مالك ولا يجتهد، ولذا لما دخل نيسابور، ونيسابور أهل سنة أرسل يديه في الصلاة ما قبضهن، على ما اشتهر عند متأخري المالكية، أرسل يديه ولم يقبضهما، فاتهمه أهل نيسابور بالرفض؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا الرافضة -في جهتهم- اتهموه بالرفض فاختبروه بأن قدموا له أرنب؛ والرافضة لا يأكلون الأرنب، فأكل منها، وتعجبوا فقالوا: الرافضي ما يأكل الأرنب، قال: لا أنا سني لست برافضي، قالوا: كيف ما قبضت يديك، ولا نعرف أحد لا يقبض يديه إلا الرافضة؟ قال: لا هذا مذهبنا – يعني المالكية- فهو مشارك في بعض الأمور ويرد في رحلته بعض الأشياء، لكن فيها العجائب والغرائب، ولا يعني هذا أن كل ما فيها....، أكثر ما فيها باطل؛ فيها من الشرك الأكبر الشيء الكثير، والتعلق بالأولياء ودعوتهم من دون الله، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب وبعضهم يصرف الكون، يعني طوام، ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلت المستشرقين يعنون بها؛ فهم يسارعون لنشر مثل هذه الضلالات، ولذا ترجمت إلى كثير من اللغات.
وعلى كل حال الطالب، طالب العلم الذي قرأ التوحيد وضبط التوحيد، ونشأ في بلاد التوحيد وأتقنه وضبطه، إن قرأ فيها لا إشكال في ذلك؛ لأن ما أورده ظاهر ومكشوف، هو لا يورد شبه، هو يذكر ضلالات، ولا يورد شبه يبرهن عليها ويدلل لها ويناقش فيها أبداً، ولذا لا تخفى على المتعلمين.
يقول ابن حجر في الدرر الكامنة: قال ابن الخطيب كان مشاركا في شيء يسير، ورحل إلى المشرق سنة خمس وعشرين وسبعمائة، فجال البلاد وتوغل في عراق العجم، ثم دخل الهند والسند، ورجع إلى اليمن، فحج سنة 26، ولقي من الملوك والمشايخ خلقاً كثيراً، وجاور ثم رجع إلى الهند فولاه ملكها القضاء فيها، ثم رجع إلى المغرب".
ذكر في رحلته أنه كل بلد يدخل فيه يتزوج، من الطرائف أنه تزوج في بلد وولد له اثنين أو ثلاثة -نسيت الآن- ثم بعد ذلك ركب في السفينة قبل أولاده وزوجته فمشت به السفينة وتركهم في مكانهم، ذكر هذا في موضع من مواضع الرحلة.
مثل هذه القصص وهذه الطرائف لا شك أنها –وإن كانت تشد القارئ- لكن لها دلالاتها في ديانة الشخص، لها دلالاتها، يعني شخص يتدين لله -جل وعلا- بالعلاقة بين الزوج وزوجته، وبين أولاده، بينه وبين أولاده، ما يفعل مثل هذا.
على كل حال مثل ما أشرنا هذه الرحلة فيها من المتعة، وفيها من الاستجمام لطالب العلم، لكن فيها من الشرك الشيء الكثير، فليحذر طالب العلم.
يقول: "ولقي من الملوك والمشايخ خلقاً كثيراً وجاور، ثم رجع إلى الهند، فولاه ملكها القضاء فيها، ثم رجع إلى المغرب فحكى بها أحواله وما اتفق له وما استفاده من أهلها".
قال ابن مرزوق: "ولا أعلم أحداً جال البلاد كرحلته، مات سنة تسع وسبعين وسبعمائة، ورحلته على النقيض من رحلة ابن رشيد.
قلنا ابن رشيد لا يهتم بالمشاهد ولا المزارات، يهتم بالعلم وتقرير مسائل العلم، فهذه الرحلة على النقيض من رحلة ابن رشيد، جل اهتمامه فيها، وصف المعالم والمزارات والمشاهد والمقابر وغيرها.
وفي ذلك من الغلو في الصالحين مما يصل بعضه إلى الشرك، ولم يسطر فيها من الفوائد العلمية إلا النزر اليسير، وترجمت رحلته إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجمت فصول منها إلى الألمانية، ونشرت أيضاً.
واستغرقت رحلته أكثر من ربع قرن، وطبعت الرحلة طبعات عديدة واختصرت في عدة مختصرات، وطبعت وزارة المعارف العمومية بمصر مهذب رحلة ابن بطوطة، سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف بمطبعة بولاق الأميرية.
ووقف على تهذيبه وضبط غريبه وأعلامه أحمد العوامري ومحمد أحمد جاد المولى، وهما من المفتشين بوزارة المعارف، مع الأسف الشديد أنهما لم يحذفا مما اشتملت عليه من الغلو والكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره شيئاً، هذا موجود.
هو يقول لما دخل دمشق وقصد جامعها الكبير -الجامع الأموي- وجد في المسجد في الجامع على المنبر رجل كثير العلم قليل العقل، ذكر حديث النزول فنزل من درجات المنبر يعني شيخ الإسلام، وقال: إن الله -جل وعلا- ينزل في آخر كل ليلة كنزولي هذا، وهذه فرية، شيخ الإسلام -وقت دخوله دمشق- شيخ الإسلام في السجن.
قد يقول قائل مثلاً: إن نزول الشيخ، النزول المنسوب لشيخ الإسلام ألا يمكن أن يكون مثل ما جاء في الخبر لما تلا قول الله -جل وعلا-: {وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[(134) سورة النساء]، وضع إصبعه على عينه وعلى أذنه؛ ليبين أن سمع الخالق وبصر الخالق حقيقي، كما أن سمع المخلوق حقيقي وليس سمع المخلوق كسمع الخالق، ولا بصر المخلوق، ولا عينه كعين الخالق؟ هذا ليدل على أن هذا حقيقة، لكن مثل هذا يقتصر فيه على مورد النص، ولا يتجاوز، ولم يرد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نزل من درجات المنبر وقال: كنزولي هذا، أبداً، بل هذه محض فرية على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
استغرق ما يتعلق بالحرمين الشريفين من صفحة اثنين وثمانين إلى مائة وستة وعشرين، من هذه الطبعة، إلى مائة وستة وعشرين، أربعة وأربعين صفحة، أربعة وأربعين صفحة, ومن الطبعات الأخرى كطبعة صادر مثلاً من مائة وثلاثة عشرة إلى مائة واثنين وسبعين، يعني قريب من ستين صفحة.
المقصود أنه أطال في ذكر المشاهد والمزارات والجبال والمواقف والمشاعر، أطال في هذا كثيراً ولم يذكر في رحلته من المسائل العلمية إلا الشيء اليسير، وتعرفون الوقت لا يتسع لبسط بعض ما ذكره من هذه الأمور.
يتبع إن شاء الله تعالى