بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛لما تحول القلب للسير إلى الله تعالى والسفر إليه؛ طلب رفيقاً يأنس به في السفر فلم يجد إلا معارضاً مناقضاً، أو لائماً بالتأنيب مصرحاً، أو فارغاً بطالا معرضاً، وليت كل ما ترى هكذا فلقد أحسن إليك من خلاَّك وطريقك ولم يطرح شره عليك.فإذا كان هذا المعروف من الناس؛ فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض وترك اللائمة والاعتراض إلا ما عسى أن يقع نادراً فيكون غنيمة باردة لا قيمة لها، ولا ينبغي أن يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة، بل يسير ولو وحيداً غريباً، فانفراد العبد في طريق طلبه دليل على صدق حبه.ومن تأمل هذه الكلمات علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصدت سطره؛ وجعلته هديتي المعجلة السابقة إلى أصحابي في طلب العلم وإخواني ومن أحب، وشهد الله وكفى بالله شهيداً، ولو توافي أحداً له قلب يعقل لقابلها بالقبول، ولبادر إلى تفهمها وعدّها من أفضل ما أهدى صاحب إلى صاحبه، فإن غير هذا من الهدايا وان تطلعت النفوس إليها ففائدتها قليلة، وهي في غاية الرخص لكثرة جالبها، وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم؛ فإنها عزيزة غريبة خاصة في هذا الزمان.ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات، فإنهم يقطعون عليه طريقه، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة، وأوفق له من هذه المفارقة؛ فشتان بين أقوام موتى تحيى القلوب بذكرهم، وبين أقوام أحياء تموت القلوب بمخالطتهم.فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه، فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم، ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخله معهم.ومتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر، وصار بين الناس غريباً وإن كان فيهم مشهوراً ونسيباً، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه ولا يرون ما هو فيه، يقيم لهم المعاذير ما استطاع، ويحضهم بجهده وطاقته سائراً فيهم بعينين: عين ناظرة إلى الأمر والنهى، بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي لهم الحقوق ويستوفيها عليهم؛ وعين ناظرة إلى القضاء والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر ولا يعود بنقض شرع، وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته، وقفاً عند قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، متدبراً لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق وأداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم.فهذا ما منهم إليه، وأما ما يكون منه إليهم فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله ورسوله به، وأما ما يتقي به أذى جاهلهم؛ فالإعراض عنه وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.فأي كمال للعبد وراء هذا؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة؟ فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم - أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله - وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس فهو خير له وإن بدا شراً في الظاهر، فإنه يتولد من الأمر بالمعروف؛ ولا يتولد منه إلا خيراً وإن ورد في حالة شر وأذى، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ}، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق، فإنهم إما يسيئوا في حق الله وفي حق رسوله، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وإن أساءوا في حقي فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة، فإذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه من أمرك فإن الله يحب المتوكلين.فهذا وأمثاله من الأخلاق التي أدب الله بها رسوله، وهذا لا يتم إلا بثلاثة أشياء:أحدها: أن يكون العود طيباً، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر.الثاني: أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الأمور تنافي الكمال، فإن لم تقو النفس على قهرها وإلا لم تزل مغلوبة مقهورة.الثالث: علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم، والزجاجة والجوهرة.فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق من الله تعالى فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى، وتمت لهم العناية.والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أبداً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.والسلا عليكم.