من هم أهل الحق والتحقيق على الحقيقة:من المعلوم عند كل من آمن بالرسول أن الحق دائما وأبدا مع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة، وأما ما يدعيه كل واحد عن طائفة منتسبة إلى متبوع أنها أهل الحق، فهذه دعوى مجردة عن الدليل، يمكن كل أحد أن يقول لأصحابه مثلها أو يزيد، وهؤلاء الذين سموهم أصحابهم أهل التحقيق هم أهل التحقيق عند من سماهم كذلك؛ بناء على ظنه واعتقاده، كما يسمي الاتحادية والحلولية أنفسهم أهل التحقيق، ويسمي كل شخص طائفته أهل الحق والتحقيق بناء على ظنه واعتقاده، وكما يسمي سلالة الإلحاد والتعطيل من الجهمية والمعتزلة ونحوهم أصحابهم أهل العقل والدليل وأهل الحق والتحقيق، وهو واقع نشهده كل يوم في الكتابات وعلى مواقع الإنترنيت، فيحصرها على الحق ويحصر الحق عليها، ويسميها أهل الحق، ويشعر بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل، بل كثيرا ما يصرح مثل هؤلاء بمثل هذا الهراء، فهذا حال أهل البدع والأهواء، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، ومن حذا حذو هؤلاء ممن أعرض عما جاء به الرسول، بل وعارضه بأنواع من الرأي والقياس والمعقول والحال، منتصرا لشيخه وطائفته، كيف ما كان الحال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.وليس هذا من فعل أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يصفون طائفة معينة بأنها صاحبة الحق مطلقا إلا من وصفهم الله ورسوله بذلك، وهم المؤمنون، الذين لا يجتمعون على ضلالة، من دون أدنى ريب، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}، وهذا نهاية الحق وغايته التي ليس بعدها غاية، وقال تعالى : {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.فقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم اتبعوا الحق من ربهم، ومن اتبع الحق كان محقا، والمؤمنون اتبعوا الحق من ربهم فهم أحق الناس بالتحقيق، وأولى الناس أن يكونوا من أهل الحق والتحقيق، وإذا كان المؤمنون المحققون هم من وصفهم أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا؛ كان من اتصف بنقيض ذلك ممن ابتغى الهدى في غير القرآن فأضله القرآن؛ ليسوا من المحققين عند الله وعند رسوله، بل من المحققين عند إخوانهم، كما أن اليهود والنصارى والمشركين وكل طائفة من المحققين عند من وافقهم على أن ما يقولونه حق، ومن المعلوم أن من ناقض الآيات المنزلة باعتقاده وهواه لم تزده إيمانا ولم يستبشر بنزولها، بل تزيده رجسا إلى رجسه.وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، فالصادق في قوله: آمنوا هو الذي لا يشك فيما جاء به الرسول، ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به، ولكن غايته أن يعلم أن الرسول صادق فيما أخبر به على طريق الجملة، فإذا نظر فيما أخبر به لم يعلم ثبوت شيء مما أخبر به، ومن المعلوم أن العلم بأنه صادق مقصوده تصديق أخباره، والمقصود بتصديق الأخبار التصديق بمضمونها واعتقادها، فإذا كان لم يصدق بمضمون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من آمن بالوسيلة ولم يحصل له الغاية، ولو قال الحاكم: إن هؤلاء الشهود صادقون في كل ما يشهدون به، ثم لا يعتمد على شهادتهم ولا يثبت بها حقا؛ كان تعديلهم لغوا، وحاشا أن يكون كلام الله تعالى لغوا.ثم إن الكلام الذي لا ريب فيه أنه حق هو قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعال: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ}، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتاب فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق".فأهل الحق هم أهل الكتاب والسنة، وأهل الكتاب والسنة مطلقا هم أهل الحق، فالحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة لا ينفك عنها، وإن كان كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة لم يكن القول الذي انفردوا به إلا خطأ وباطلا، بخلاف المضافين إليه أهل السنة والحديث فإن الصواب معهم دائما، ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب مع أهل الكتاب والسنة دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق دائرا مع الرسول حيثما دار لا يفارقه البتة، وليس الحق لازما لشخص بعينه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا معصوم من الإقرار على الباطل إلا هو، وهو حجة الله التي أقامها على عباده، ولم يجعل غيره مثله، وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد، وليس هذا لأحد غيره، فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان من أهل الحق، وكان الصواب معه ما دام قائما بطاعته باطنا وظاهرا، وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها، وأكثر سلف الأمة كذلك ولله الحمد.لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين، مثل ما يقع بين طوائف المسلمين اليوم من التعصب بالباطل، والخصمومة بغير حق، ونحو هذا كثير من أنواع البغي والعدوان على الأشخاص وعلى الكتاب والسنة، وأما الذين رفع الله قدرهم في الأمة فقد كان بما أحيوه من سنته ونصرته والدفاع عن أهل السنة والجماعة والاعتذار لمن أخطأ من علمائها وأئمتها من سلف الأمة وخلفها، وهكذا فإن سائر طوائف الأمة بل سائر طوائف الخلق كل خير معهم فإنما جاءت به الرسل عن الله، وما كان معهم من خطأ أو ذنب فليس من جهة الرسل، فإنما أتوا من جهة نفوسهم والشيطان؛ وهذا أصل كل شر، ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا في مسألة باجتهادهم قال أحدهم أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله بريئان منه، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الكلالة، وكما قال ابن مسعود في المفوضة إذا مات عنها زوجها، وكلاهما أصاب فيما قاله برأيه، لكن قال الحق الذي لا مرية فيه، فإن القول إذا كان صوابا فهو مما جاء به الرسول عن الله؛ وهو من عند الله، وإن كان خطأ فالله لم يبعث الرسول بخطأ، فهو من نفسه ومن الشيطان لا من الله ورسوله، والحمد لله.والمقصود أنه ليس الحق لازما لطائفة دون غيرها إلا للمؤمنين، فإن الحق يلزمهم؛ فهم لا يجتمعون على ضلالة، وما سوى ذلك فقد يكون الحق مع شخص دون شخص أو طائفة دون طائفة في أمر دون أمر، وفي وقت دون وقت، وقد يكون كلا المختلفين على باطل، وقد يتنوع الحق فيكون مع كليهما؛ مع هذا من وجه ومع الآخر وجه، فليس لأحد أن يسمي طائفة منسوبة إلى أتباع شخص -كائنا من كان- غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أهل الحق دون غيرهم، ولا لطريقتهم بأنها طريقة الحق المطلق، إذ ذلك يقتضي أن كل ما هم عليه فهو حق، وكل من خالفهم في شيء من سائر طوائف المسلمين فهو على باطل؛ وهو من أهل الباطل، وذلك لا يكون إلا إذا انحصر الحق في متبوعهم واقتصر عليه دون من سواه، واعتقوا عصمته إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال في أنفسهم ومع غيرهم، وهذا يظهر جليا في أخلاقهم ومعاملاتهم مع من خالفهم، وهذا معلوم البطلان من دين الرسل.فهؤلاء وإن وقفوا الحق على طائفتهم دون غيرهم، وامتحنوا الناس على ما وقفوا أنفسهم عليه، فوالوا عليه وعادوا عليه، وقالوا لمن خالفهم لستم على شيء، ونحن أولى بالله ورسوله منكم وإنا أهل السنة والحق وأنتم أهل البدعة والضلال من غير برهان من الله، ونحو هذا الكلام، فهم في الحقيقة إلى أعداء الله أقرب، ومن السنة وأهلها أبعد، وإلى الإبطال أقرب منهم إلى التحقيق بكثير، وهم أولى بالجهل وأحق بوصف بالضلال من غيرهم، ولهم نصيب كبير من قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.