الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد
فبين يديك أيها الفاضل كلاماً للفقير إلى ربه بحثت فيه فصول تتعلق بمراتب العلم ، أريد به مشاركة أهل الاهتمام بالأطاريح المفيدة والمناقشات الناصحة ، لعله ينفع من وراءه.
موضوع "مراتب العلم" بصورته المتأخرة لم يكن معروفاً عند السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكونوا يعرفوا "الضروري" و "الكسبي" و "النظري" و "القطعي" ، ولم يكونوا يعرفوا "الظن" و "الوهم" و "الشك" جرياً على اصطلاح خاص زائدٍ على المعهود من لغة العرب في وقتهم ، ومع ذلك فليس بضارّهم شيئاً ألاّ يعرفوا شيئاً من ذلك رضي الله عنهم. فهو – أي موضوع مراتب العلم - كغيره من نتاج العلوم الصناعية ، التي هي من عمل الفكر الإنساني واختراعه ، و هو أمر متجدد عبر القرون ، يتعقّب ويعتقِب فيه اللاحق السابق. إلا أن من مساوئه أنه يدخُل على الفكر الفطري فيفسده بحسب نوعه و كثرته ، كما أفسد علم المنطق – وإن كان لا يخلو من حق وصواب – أساليب النظر الطبيعية عند الإنسان السوي الأمي. ومع زعم أصحابه بأنه آلة تعصم مراعاتها الذهن من الزلل إلا أن كثيراً من عقلائهم قد صرّح بأن علم المنطق – بصورته الأرسطية – لا ينفك عن قصور ، وهذا صحيح لأنه يستمد قصوره من قصور واضعه ، فهو تابع لأصله ، وأصله هو الآدمي الذي الأصل فيه الظلم والجهل (إنه كان ظلوماً جهولا) والضعف (وخلق الإنسان ضعيفا) ، إنها لمفارقة عجيبة أن يعالج القاصر بآلته القاصرة قاصرين مثله ثم يزعم عصمتها من القصور؟
هذا كله مرجعه إلى أن الأصل في الآدمي الفقر ، وهي ، كما قال ابن القيم وغيره ، صفة لازمة ذاتية للإنسان ، لا يكتسبها في حال دون حال ، وإنما صفة ملازمة لذاته على الدوام. فالنوع الإنساني مفتقر في قوته العلمية والعملية إلى من لا فقر فيه ولا عنده ولا به ، وهو الباري عز وجل ، الغني في كل صفاته.
وهذا البحث يعالج قضية مراتب العلم من جهة الحدود وعلاقتها بتقسيم هذه المراتب وتُوضح أثر ذلك في تصورنا لمباحث العلوم الشرعية وحكمنا عليها. وهو لا يستوعب كل ما يمكن أن يقال في أبواب الموضوع إنما يتناول أصل الموضوع في كلياته وعمومياته و كذا ما يتصل ببعض قواعده وضوابطه. إلا أني قد ارتأيت أهمية هذا الموضوع على اختصاره لِما وقفتُ عليه من خلطٍ في فهم هذه المراتب وتنزيلها على واقع البحث ، بل لِما وجدته من إشكال متأصل في قضية مراتب العلم نتيجة مجافاتها في بعض أحوالها لدلالات ذات الألفاظ في نصوص الكتاب والسنة ، الأمر الذي جنح بفقه طوائف من الناس بعيداً عن مراد الشارع ومقصوده.
اعلم رحمني الله وإياك أن العلم إما أن يكون ظنياً وإما أن يكون قطعياً. ثم اعلم أن العلم الظني وإن كان قسيم القطعي فإنه ربما كان الوسيلة إليه ، ذلك أن العلم القطعي منه ما هو حاصل بالنظر والنظر مشتمل على بعض الظن ومن العلم القطعي ما هو مستقر مركوز في طبائع الأذهان ، من جهة أن النفس تقطع به وجوداً وعدماً أو صحة وخطأً. واعلم أن القطعي أخص من الضروري من جهة أن القطعي ما لا يطرقه احتمال ومن جهة أن القطعي متعلق بالبديهي من المعلومات.
أما الضروري وهو تولّد ضرورة في نفس الإنسان توجب التصديق أو خلافه بشيء من الأشياء ، بحيث لا يمكنه رد ما يعتقده وإن غاب عن حسه ، قال الدبوسي رحمه الله ((قد أجمع العقلاء على إصابة المطلوبات الغائبة عن الحواس بدلائل العقول كإجماعهم على إصابة الحاضر بالحواس)) [1] . أقول أما الضروري فهو أعم من جهة أنه متعلق بالحاصل عن طريق البداهة وغيره من المسالك ، فالجزء أعظم من الكل ضروري و قطعي ، فهو ضروري لأنه لا يمكن دفع التصديق بذلك ، وقطعي لأن الذهن مفطور على الجزم بذلك دون العكس. قال الجويني رحمه الله (فمن المقدمات الهندسية ما تهجم العقول عليها من غير احتياج إلى فكر ، كالعلم بأن الجزء أقل من الكل ، والكل أكثر من الجزء ، والخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى محيطها متساوية. على غير ذلك من الأمثلة التي تسمى المصادرات. فإذا بنى المهندس على هذه المقدمات شكلا ، وركب عليها دعاوى ، وبرهنها بما يستند إلى تلك المقدمات ، فقد يحتاج في ترتيب الاستخراج إلى فكر طويل ، وإذا أحاط بما يبغيه فعلمه به على حسب علمه بالمقدمات ، وكذلك القول في العدديات) [2] .
فمقياس الضرورة مقدار وجودها في النفس قوةً وضعفاً ، و المقياس القطعي لا تدخله قوة الاحتمال بالقرائن وإنما الحكم بكون القضية صواباً أم خطأ ، موجودة أم معدومة مع الجزم التام.
ولذلك تجد المحدثين يقولون أن الحديث وإن كان في أعلا مراتب الصحة فإنا لا نقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ، وكذلك الحديث الموضوع لا نقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله ، ومع ذلك نجد في أنفسنا ضرورة لقبول الصحيح بسبب القرائن الدالة على صحته وضرورة لرده بسبب القرائن الدالة على ضعفه. ولذلك ضل من اشترط القطع لقبول الأخبار ، لأنه أدى به ذلك إلى رد السنة بالكلية ، بحجة أن القرآن قطعي الثبوت والسنة خلاف ذلك ، ولكنه تجاهل أن القطع لا يغنيه عن اعتبار الضرورة ، فإنه ربما وجد في نفسه ضرورة تدعو إلى قبول السنة ، ولكنه يجهد في دفعها باشتراط القطع ، مع أن الضرورة كافية في ذلك. ومن أكثر المباحث الحديثية تعلقاً بهذا مبحث المتواتر والآحاد. فالمتواتر يصنع ضرورة في النفس وإن لم يصل حد القطع. والخلاصة أنه يخطيء من جعل الضروري رديف القطعي من كل وجه. وقد يستعمل بعضهم هذا مكان هذا فيتولد الإشكال لما ذكرت.
يتبع...
=====================
[1] تقويم الأدلة ، ص 442.
[2] البرهان ، ص 112.