من "رسالة الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية" للشيخ محمد بخيت المطيعي، ص3-ص18، مطبعة النيل بمصر، 1324هـ.
***
قد اختلف العلماء في ذلك في كون صلاة الخوف كانت مشروعة قبل الخندق، مع اتفاق الجميع على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها بذات الرقاع ولم يصلها يوم الخندق. ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلاف الروايات في أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق أو بعدها. قال البدر العيني في عمدة القاري: قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبه من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر رضي الله عنه. قال ابن هشام: ويقال: عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال أبو إسحاق: فسار حتى نزل نجدا وهي غزوة ذات الرقاع. قلت: ذكرها في السنة الرابعة من الهجرة، وكانت فيها غزوة بني النضير أيضا، وهي التي أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر. وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، وكانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث. واختلفوا في أي سنة نزل بيان صلاة الخوف، فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع. قاله محمد بن سعد وغيره. واختلف أهل السير في أي سنة كانت فقيل: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع. فقال ابن إسحاق: كانت أول ما صليت قبل بدر الموعد. وذكر ابن إسحاق وابن عبد البر أن بدر الموعد كانت في شعبان في سنة أربع. وقال ابن إسحاق: وكانت ذات الرقاع في جمادى الأولى. وكذا قال أبو عمر بن عبد البر: إنها في جمادى الأولى سنة أربع. اهـ. وقد حكي عن طائفة من الفقهاء منهم المزني من الشافعية أنهم قالوا: إن غزوة ذات الرقاع كانت في جمادى الآخرة من السنة الرابعة وغزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة، وإن صلاة الخوف شرعت في غزوة ذات الرقاع. وأجاب أكثرهم عن الترك يوم الخندق أنه نسخ بصلاة الخوف المشروعة قبله، وسيأتي ما فيه. وقال ابن حجر في فتح الباري: إن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها يعني ذات الرقاع كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها؛ فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع. قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى يعني من سنته، وغزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع. وعند ابن سعد وابن حبان أنها كانت في المحرم سنة خمس، وأما أبو موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرقاع، لكن تردد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها، أو قبل أحد أو بعدها. اهـ. وغزوة الخندق وهي الأحزاب قال البخاري في صحيحه: قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع. اهـ. قال ابن حجر: وتابع موسى على ذلك مالك، وأخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه. وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس. وبذلك جزم غيره من أهل المغازي. ومال المصنف يعني البخاري إلى قول ابن عقبة، وقواه بما أخرجه أول أحاديث الباب من قول ابن عمر: "إنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة، ويوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" فيكون بينهما سنة واحدة وأحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع. ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان في أول ما طعن في الرابعة عشر وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي. ويؤيد قول ابن إسحاق أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع عن أحد: "موعدكم العام المقبل ببدر، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر، فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ، وقال لقومه: إنما يصلح الغزو في سنة الخصب. فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان أو دونها". ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي. وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول. وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أحد كانت في السنة الثانية، وأن الخندق كانت في الرابعة. وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة. وعلى ذلك تكون بدر في الثانية وأحد في الثالثة والخندق في الخامسة وهو المعتمد. اهـ. وقال البخاري: إن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر. ويوافقه ما جزم به أبو معشر من أنها كانت بعد بني قريظة والخندق، واستدل البخاري على قوله بأن أبا موسى جاء بعد خيبر. قال ابن حجر: هكذا استدل به، وقد ساق حديث أبي موسى بعد قليل، وهو استدلال صحيح. وسيأتي الدليل على أن أبا موسى قدم من الحبشة بعد فتح خيبر في باب غزوة خيبر، ففيه في حديث طويل "قال أبا موسى: فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر". وإذا كان كذلك ثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، ولزم أنها كانت بعد خيبر. وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. وقال: وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك. اهـ. وهذا النفي مردود، والدلالة من ذلك واضحة كما قررته. وأما شيخه الدمياطي فادعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد قدمت أنهم مختلفون في زمانها؛ فالأولى الاعتماد على ما ثبت في الحديث الصحيح. وقد ازداد قوة بحديث أبي هريرة وبحديث ابن عمر كما سيأتي بيانه. اهـ. قال البخاري في صحيحه: قال لي عبد الله بن رجاء: أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة "عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع". اهـ. وقوله: "في غزوة السابعة"- يحتمل أن من إضافة الشيء إلى نفسه أي الغزوة السابعة، ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره غزوة السفرة السابعة وهي بمعنى الغزوة السابعة أو غزوة السنة السابعة من الهجرة. وعلى كل تقدير يكون الخبر دليلا على أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد خيبر؛ فإنه على تقدير أن يكون المراد الغزوة الواقعة في السنة السابعة يكون الخبر نصا في ذلك، وعلى تقدير أن المراد الغزوة السابعة أوالواقعة في السفرة السابعة يكون المعنى المراد سابع الغزوات التي خرج صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه. فإن كان المراد خروجه مطلقا وإن لم يقاتل كانت هذه الغزوة قبل أحد، ولم يذهب أحد إلى أن غزوة ذات الرقاع قبل أحد إلا ما تقدم من تردد أبي موسى ابن عقبة، وفيه نظر. قال ابن حجر في الفتح: لأنهم متفقون على أن صلاة الخوف متأخرة عن غزوة الخندق. اهـ. والصواب عن غزوة أحد لما علمت سابقا أنهم مختلفون في تقدم صلاة الخوف عن غزوة الخندق وتأخرها عنها، فتعين أن تكون ذات الرقاع بعد بني قريظة، فتعين أن يكون المراد الغزوات التي وقع فيها القتال. والأولى منها بدر وقد علمت أنها في السنة الثانية، والغزوة الثانية أحد وقد علمت أنها في السنة الثالثة، والغزوة الثالثة الخندق وقد علمت أن المعتمد أنها في الخامسة، والغزوة الرابعة غزوة بني قريظة، والخامسة غزوة المريسيع، والسادسة خيبر. فيلزم من هذا أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر للتنصيص على أنها السابعة، فالمراد على كل تقدير بيان تاريخ الغزوة الذي وقعت فيه لا بيان عدد المغازي. وهذه العبارة أقرب إلى إرادة السنة السابعة من العبارة التي وقعت عند أحمد بلفظ "وكانت صلاة الخوف في السابعة". وما قاله العيني من أن الجمهور على أن صلاة الخوف أول ما صليت بذات الرقاع يرده ما قاله ابن حجر في فتحه ردا على البخاري حيث ساق في صحيحه رواية هشام عن أبي الزبير للإشارة إلى أن روايات جابر متفقة على أن الغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع حيث قال: لكن فيه يعني فيما قاله البخاري نظر؛ لأن سياق رواية هشام عن أبي الزبير هذه تدل على أنه حديث آخر في غزوة أخرى، وبيان ذلك أن في هذا الحديث عند الطيالسي وغيره "أن المشركين قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم. قال: فنزل جبريل فأخبره، فصلى بأصحابه العصر وصفهم صفين"، فذكر صفة صلاة الخوف. وهذه القصة إنما هي في غزوة عسفان، وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظ يدل على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع ولفظه عن جابر قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا. فلما أن صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة واحدة لأقطعناهم! فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: وقالوا: ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد". فذكر الحديث. وروى أحمد والترمذي وصححه النسائي من طريق ابن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضبحان وعسفان، فقال: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم" فذكر الحديث في نزول جبريل لصلاة الخوف. وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث أبي عياش الزرقي قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا الظهر وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد. فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة. ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم. فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر، ففرقنا فرقتين" الحديث، وسياقه نحو رواية زهير عن أبي الزبير عن جابر، وهو ظاهر في اتحاد القصة. وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان، فوقفت بإزائه وتعرضت له. وصلى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نغير عليهم، فلم يعزم لنا. فأطلع الله نبيه على ذلك فصلى العصر صلاة الخوف" الحديث، وهو ظاهر فيما قررته أن صلاة الخوف في عسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرا روى القصتين معا. أما رواية أبي الزبير عنه ففي قصة عسفان، وأما رواية أبي سلمة ووهب بن كيسان وأبي موسى المصري عنه ففي غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب وثعلبة. وإذا تقرر أن أول ما صليت صلاة الخوف في عسفان وكانت في عمرة الحديبية وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صليت صلاة الخوف في ذات الرقاع وهي بعد عسفان- فتعين تأخرها عن الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضا، فيقوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية. وأما قول الغزالي: إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات- فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره. وقال بعض انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف. وهذا انتصار مردود؛ لما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أبي بكرة "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف". وإنما أسلم أبو بكرة في غزوة الطائف بالاتفاق، وذلك بعد غزوة ذات الرقاع قطعا. اهـ. وأما تردد موسى بن عقبة كما سبق، فقال ابن حجر: لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها يعني ذات الرقاع بعد بني قريظة؛ لأنه تقدم أن صلاة الخوف في صلاة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، فدل على تأخرها بعد الخندق. اهـ. وقال الكمال بن الهمام في فتح القدير: إن صلاة الخوف إنما شرعت في الصحيح بعد الخندق، فلذلك لم يصلها إذا ذاك. وقوله في المكافي: إن صلاة الخوف بذات الرقاع وهي قبل الخندق هو قول ابن إسحاق وجماعة من أهل السير في تاريخ هذه الصلاة وهذه الغزوة. واستشكل بأنه قد تقدم في حديث الخندق للنسائي التصريح بأن تأخير الصلاة يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف. ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي والشافعي والدارمي وأبو يعلى الموصلي، كلهم عن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه "حبسنا يوم الخندق" فذكره إلى أن قال: "وذلك قبل أن تنزل "فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا"، ثم قال الكمال: فالحق أن صلاة الخوف بالصفة المعروفة من الذهاب والإياب إنما شرعت بعد الخندق، وأن غزوة ذات الرقاع بعد الخندق. اهـ. ونقل الألوسي عن بعض الأجلة أن لصلاة الخوف كيفيات، فهي باعتبار إحدى الكيفيات أعني ما تضمنه قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ" الآية- مشروعة قبل يوم الخندق. وباعتبار ما تضمنه قوله تعالى: "فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا"- بعد الخندق. اهـ. ثم قال: والقلب إلى ما ذكره بعض الأجلة أميل، وعليه لا يلزم أن يكون الترك يوم الخندق نسخ لما قيل: إن المشروعة قبله مشروطة بأمن هجوم العدو ولم يكن ذلك اليوم؛ فقد كان الخوف في ذلك اليوم في غاية الشدة، كما يشير إليه قوله تعالى: "إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا"هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا". اهـ. ويريد بقوله: وعليه لا يلزم أن يكون الترك يوم الخندق نسخ ... إلخ- التعريض بمن قال: بمشروعية صلاة الخوف قبل الخندق، وأجاب عن الترك يوم الخندق بأنه نسخ بصلاة الخوف المشروعة قبله كما قدمه وإن كان جوابا باطلا في ذاته؛ لأنه لم يعهد أن المتقدم ينسخ المتأخر. وبعد هذا كله فما نقله عن بعض الأجلة ومال إليه قلبه إنما يفيد إذا ثبت أن قوله تعالى: "فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا"- نزل بعد يوم الخندق. وقوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ" الآية- نزل قبل يوم الخندق، وذلك لم يثبت بل ينافيه ما نقله قبل ذلك عن وضوح الشافعية أن الأصحاب يعني الشافعية قالوا: إن حرب الخندق كان قبل مشروعية صلاة الخوف. وكانوا قبل ذلك يؤخرون الصلاة في الحروب ثم يقضونها إلى أن نزل قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ". وينافيه أيضا الأحاديث المتقدمة التي استدل بها ابن حجر على أن أول ما صليت صلاة الخوف بعسفان؛ فإنها صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن آمنا من هجوم العدو، فتعين أن ألحق مشروعية صلاة الخوف بجميع كيفياتها بعد يوم الخندق. وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق فقد اختلف فيه الأئمة؛ فقالت طائفة: كان ذلك نسيانا، واستبعد أن يقع ذلك نسيانا من الجميع على أن سياق الروايات يأباه. وأما ما رواه أحمد من حديث أبي جمعة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلما سلم قال: هل علم رجل منكم أني صليت العصر؟ قالوا: لا يا رسول الله. ثم صلى المغرب"، فقال ابن حجر: في صحة هذا الحديث نظر؛ لأنه مخالف لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "والله، ما صليتها"، ويمكن الجمع بتكلف. اهـ. وأقول: إن الطعن في الحديث بأنه مخالف لما في الصحيحين لا يكفي، بل لا بد أن يصرح الأئمة بغلطه، ولا يمكن الجمع، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال بعدم صحة هذا الحديث. والجمع ممكن هنا بلا تكلف؛ فقد ذكر أبو موسى بن عقبة في واقعة الخندق أن مدة الحصار كانت عشرين يوما، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة. وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم، وكان سبب موته كما نقله ابن حجر نفسه، فيحمل ما رواه من حديث أبي جمعة على أنه كان في بعض أيام الخندق، وما في الصحيحين على أنه كان في بعض آخر. وقد جمع هو وغيره بذلك بين ما رواه الشافعي وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم أخر الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق. وما في صحيح البخاري من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم أخر يوم الخندق صلاة العصر وأنه صلاها بعد المغرب، فطريق الجمع كما قال النووي أن هذا كان في بعض أيام الخندق وذاك كان في بعض آخر، فلا تكلف في الجمع على هذا الوجه. وقالت طائفة: كان التأخير عمدا، وهو ما تصرح به الروايات. وقد اختلفت هذه الطائفة؛ فقال فريق منها: كان التأخير للشغل بالقتال عن الصلاة، فلم يقدروا بوجه من الوجوه وهو مذهب الحنفية. وإليه جنح البخاري في صحيحه، ونزل عليه الآثار التي ترجم لها فيه. قال العيني: قال في الذخيرة: إذا اشتد الخوف صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلين القبلة أو غير مستقبليها. ولا يجوز بجماعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف وابن أبي ليلى، وعن محمد: يجوز. وبه قال الشافعي. وإذا لم يقدروا على الصلاة على ما وصفنا أخروها، ولا يصلون صلاة غير مشروعة. اهـ. وقال فريق آخر: إن التأخير كان لتعذر الطهارة، فلم يجدوا للوضوء سبيلا من شدة القتال، وهو مذهب المالكية والحنابلة؛ لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه. وعلى ما ذهب إليه هذان الفريقان لا يكون حكم تأخير الصلاة منسوخا، بل يجوز التأخير للعجز عن الصلاة ولو بالإيماء أو للعجز عن الطهارة. ويندفع السؤال ويضمحل الإشكال، ويستوي إن كانت صلاة الخوف شرعت قبل يوم الخندق أو بعده. وقال فريق ثالث: إنهم كانوا قبل مشروعية صلاة الخوف يؤخرون الصلاة في الحروب، ثم يقضونها. إلى أن شرعت صلاة الخوف ونزل قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ" الآية، فنسخ جواز التأخير في الحروب. وإليه جنح الشافعية. وعكس بعضهم، فادعى أن تأخيره صلى الله عليه وسلم للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار: هو قول من لا يعرف السنن؛ لأن صلاة الخوف نزلت بعد الخندق، فكيف ينسخ الأول الآخر. اهـ. ويرده أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف بعد يوم الخندق باتفاق الروايات في غزوة الطايف.
وعلى ما ذهب إليه الفريق الثالث إنما يرد السؤال إذا جرينا على قول ابن إسحاق وجمع من أهل السير من أن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل الخندق. وقد علمت أن الحق خلافه، وأن صلاة الخوف لم تكن شرعت يوم الخندق، فزال السؤال واضمحل الإشكال على كل حال.