بسم الله الرحمن الرحيم الصورة الفنية في القصيدة القافيةللشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى
مما لا شك فيه أنَّ الصورة الفنية تقدم إلينا عبارة يغلب عليها الوصف ، " ولا توصل إلى خيالنا شيئًا أكثر من انعكاس متفق للحقيقة الخارجية ، إنَّ كل صورة شعرية لذلك هي إلى حد ما مجازية "[1] .وتستعمل الصورة البلاغية للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي " وتطلق أحيانًا مرادفة للاستعمال الاستعاري "[2] ، والاستعمال الاستعاري يشمل التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية .والمتأمِّل في قصيدة القافية لزهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان يجد أنَّ الصورة البلاغية حاضرة في القصيدة ، وقد أضفت على القصيدة جمالاً فنيًَا رائعًا من خلال التشبيهات والاستعارات والكنايات التي استعملها الشاعر في قصيدته .ولعل الصورة التشبيهية من الأشكال البلاغية التي لها القدرة على إبراز الصورة الفنية ، وإخراجها في إطار جميل ، " وتعد الصورة التشبيهية مرحلة أكثر تطورًا ، وأرقى من الصورة الشارية مرحلة لا تكتفي بإنابة شيء عن شيء لعلاقة فعلية بينهما فقط ، يل انتقلت إلى عقد مقارنات بين أشياء لا تجمعها بالضرورة تلك العلاقة ، وإنَّما تجمعها فقط تماثل الشعور "[3] .وقد استعمل الشاعر الصورة التشبيهية في قصيدته ؛ إذ إنَّ التشبيه أنسب الوسائل التصويرية ملاءمة لعقليته البدوية ، وقد جاءت الصورة التشبيهية عند زهير بن أبي سلمى - في قصيدته - على صور شتى .فنجد الشاعر قد شبه رقبة محبوبته برقبة الغزال ، فيقول :بجيدِ مغزلةٍ أدماء خاذلة من الظباء تراعي شادنا خرِقافالمشبه : رقبة محبوبته ، والمشبه به : رقبة الغزال ، وأداة التشبيه : محذوفة ، ووجه الشبه : الطول .فأراد زهير أن يقول : إنَّ محبوبته تشبه الغزالة من حيث طول العنق فقط ، فالغزالة تقضي كل وقتها مع ابنها ، فإنَّها تحن على ابنها ، فتمدُّ عنقها بحيث تبدو أكثر طولاً . توصف الغزالة بهذه الصفة في بعض القصائد القديمة فطول العنق يظهر من خلال العبارتين : أدماء وجيد مغزلة ، ولكن ما تبقّى من البيت يحاول أن يشرح علاقته التي وصلته بطيف المحبوبة . ويمكن أن نقول : إنّ الغزالة تمدّ عنقها نحو المحبوب المشبّه بالشّادن زهير كان ضعيفا لمحبّته وسهده، ولذلك تركت المحبوبة كلّ الدنيا لتحنو عليه .ويتكرر التشبيه في الصورة البلاغية عند زهير ، فنجده يشبه ريق محبوبته بطعم الخمر المعتق ، وذلك في قوله :كأنّ ريقتها بعد الكرى اغتبقت من طيّب الرّاح لمّا يَعدُ أن عتُقافالمشبه : ريق المحبوبة ، والمشبه به : طيب الراح ، وأداة التشبيه : كأنَّ ، ووجه الشبه : الطعم والثمالة .فطعم ريق محبوبة الشاعر أشبه طعم الخمر المعتق ، فبعد أنَّ قَبَّل الشاعر محبوبته وجد حلاوة ريقها وطعمه الذيذ الذي ذكره بطعم الخمر المعتقة ، ومن أجل ذلك بقي الشاعر متيقظًا ينتظر محبوبته التي جاءته بعد الكرى .فريق المحبوبة أشبه الخمر المعتق في طعمه ، وصفائه ، ونقائه ، ويتضح ذلك في قوله :شجّ السقاة على ناجودها شَبِمًا من ماءِ ليّنةٍ لا طرقًا ولا رنقافالصورة الفنية - عند الشاعر في هذا البيت - توضح لنا أنَّ رضاب المحبوبة يشبه طعم كأسٍ من الخمر ممزوج من الماء الصّافي العذب والبارد ، وهذه المياه لم تكن طرقًا ؛ أي لم تكن مياه معكّرة تبوّلت فيها الإبل ، وهذا الماء - أيضًا - ليس رنِقًا بمعنى متكدّر أو قذر.والصورة التشبيهية توضح لنا سعة خيال الشاعر في القصيدة ، فالشاعر يتخيل أنَّه التقى محبوبته وقبَّلها ، فذاق ريقها اللذيذ ، الأمر الذي مُنِعَ منه في الواقع ، ثمَّ يترك زهير هذا الخيال ؛ ليصف لنا الظعائن على إثر استرجاعه منظرها مغادرة ، فالشاعر يتابع مسير قافلة محبوبته في أثناء رحيلها حتى وصلت هذه القافلة إلى ذلك المكان الذي لم يستطع الشّاعر متابعتها ومعرفة ما جرى لها ؛ فسبب ذلك الحزن الشديد للشاعر فبكى بكاء شديدًا ، عبَّر عنه بصورة فنية جميلة لجأ الشاعر فيها إلى التشبيه المطول ، فذكر المشبه ، وهو دموعه الغزيرة التي نزلت ؛ نتيجة رحيل محبوبته عنه والمشبه به ، وهو النواضح الذي أكثر من وصفه في مجموعة من الأبيات . فيقول :كأنّ عينيّ في غربَي مقتَّلةٍ من النّواضح تسقى جنَّةً سحُقَافالمشبه : عينا الشاعر ، المشبه به : النواضح ، وأداة التشبيه : كأنَّ ، ووجه الشبه : السرعة .شبه الشاعر عينيه اللتين تسكبان الدموع حزنًا ؛ لفراق محبوبته بالغربين ، وهما الدلوان المصنوعان من الجلد اللذان ينقلان الماء من البئر إلى أشجار النخيل العالية ، وقد اختار الشاعر أنْ يشبه عينيه بالنواضح ؛ لأنَّ النواضح أسرع ، وأكثر سكبًا للمياه .ويلجأ الشاعر إلى التشبيه المطَّول ؛ ليبين أنَّ دموعه دائمة ، ومستمرة ؛ حزنًا على فراقه محبوبته فيشبه دموعه بتلك الناقة التي تجذب الرشاء من البئر ، وتسحب الغربين معها ، وهي عملية دائمة ، وبكاء الشاعر – أيضًا – دائم ، فيقول :تمطو الرشاء وتُجري في ثنايتها من المحالة ثقبا رائدا قلِقاوهذه الناقة لها أداة وأعوان ؛ لتستعين الناقة به على أداء عملها ، وخلف الناقة سائق يسوقها ؛ ليدفعها إلى الأمام ، وهناك من يقف قرب الحوض ، وهو القابل الذي يستقبل الدلاء ؛ ليفرغها ، فيقول[4] :لَهَا أَدَاةٌ وَأَعْوَانٌ غَــدَوْنَ لَهَا قِتْبٌ وَغَرْبٌ إِذَا مَا أُفْرَغَ انْسَحَقَاوَخَلْفَهَا سَائِقٌ يَحْدُو إِذَا خَشِيَتْ مِنْهُ العَذَابَ تَمُدُّ الصُّلْبَ وَالعُنُقَاوَقَابِلٌ يَتَغَنّى كُلَّـــمّا قَدَرَتْ عَلََــى العَرَاقِي يَدَاهُ قَائِمًا دَفَقَاويلحظ المرء أنَّ الشاعر لجأ إلى الكناية في قوله : " تمدّ الصّلب والعنقا " ؛ ليبين أنَّ هذه الناقة سريعة ؛ فهي تنقل الماء بصورة سريعة وغزيرة كدموع الشاعر .ويعبر الشاعر عن شدة اندفاع الماء داخل الجدول عن طريق وصف أمرين موجودين في الجدول الضفادع التي تحبو حبو الجواري ، والنطق ، وهو الخط في وسط الجدول ؛ لذلك لجأ الشاعر إلى الصورة التشبهية في قوله[5] : يُحِيْلُ فِي جَدْوَلٍ تَحْبُو ضَفَادِعُهُ حَبْوَ الجَوَارِي تَرَي فِي مَائِهِ نُطُقَافالمشبه : حبو الضفادع ، والمشبه به : حبو الجواري ، ووجه الشبه : السرعة والرشاقة .فالشاعر شبه الضفادع التي تقفز في المياه بالجواري ، والجامع بينهما الصغر والحيوية ؛ ولهذا تكون سريعة ،ورشيقة ، فالشاعر يبين أنَّ الضفادع تخرج من الحياض خوف الغرق ، فيقول[6] :يَخْرُجْنَ مِنْ شَرَبَاتٍ مَاؤُهَا طَحِلٌ وَعَلَى الجُذُوْعِ يَخَفْنَ الغَمِّ وَالغَرَقَافالشاعر أنهى وصف عمل الناقة في هذا البيت ، وهو بذلك يختم التشبيه المطول .وقد لجأ الشاعر إلى الصورة الاستعارية بقوله[7] :لَيْثٌ بَعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إِذَا مَا اللِّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَافقد شبه زهير هرم بن سنان بالليث ، فحذف المشبه ، وهو هرم ، وأبقى شيئًا من لوازمه ، وهو الكذب على سبيل الاستعارة المكنية ، والقرينة لفظية ، وهي قوله : صدقا .ووصف زهير هرمًا بأنَّه أكثر شجاعة من الأسود ، وأشدُّ ضراوة من خلال الاستعارة المكنية في قوله[8] :يَطْعَنُهُمْ مَا ارْتَمُوا حَتَّى إِذَا اطَّعَنُوا ضَارِبَ حَتَّى إِذَا ضَارَبُوا اعْتَنَقَافهرم أكثر أقرانه شجاعة ، وإقدامًا ، وأقربهم إلى قتال الأعداء .ويلجأ الشاعر إلى الاستعارة المكنية ؛ ليبين كرم هرم وسخاءه ، وعطاءه ، فهرم لا يبخل ، ولا يحرم من قصده للعطاء ، فيقول[9] :وَلَيْسَ مَانِعَ ذِي قُرْبَى وَلا نَسَبٍ يَوْمًا وَلا مُعْدِمًا مِنْ خَابِطٍ وَرَقَافنجد في قوله : " خابط ورقا " استعارة مكنية ، فالشاعر شبه حال هرم الذي يقدِّم كل ما يملكه للمحتاجين بحال صاحب البستان الذي يقدِّم للسائلين الأوراق لصناعة العلف ، فيرى الشاعر أنَّ هرمًا صاحب الأعمال العظيمة الخيرة التي يقوم بها ، وهو أفضل رجل في قبيلة قيس ، وأكثرهم كرمًا وجودًا ، فعندما تقع المشكلات بين الناس نجد هرمًا حكيمًا وحازمًا في حل المشكلات .ويتضح كرم هرم وجوده من خلال رسم الشاعر الصورة الفنية في قوله[10] :فَضْلَ الجَوَادِ عَلَى الخَيْلِ البِطَاءِ فَلا يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُوعًا وَلا نَزِقَافالاستعارة في قوله " يعطي " ، فالجواد لا يعطي ، فالعطاء صفة للإنسان ، فحذف المشبه وأبقى شيئًا من لوازمه ، وهو العطاء ، والقرينة لفظية ، وهي " يعطي " .فمن خلال الاستعارة المكنية شبه الشاعر هرمًا بالجواد السريع الذي يفوق الخيل البطاء ، والجامع بينهما السرعة ، فهرم أشبه الجواد ؛ لأنَّ هرمًا سريع العطاء والبذل ، فمن أجل ذلك يصبح فقيرًا لكثرة عطائه ولكنه يبقى كريمًا ، وإنْ قلَّ ماله ؛ لأنَّ الكرم عند هرم سجية وطبع ملازمان له لا ينفكَّان عنه مهما كانت حاله.المصادر والمراجع :
ثعلب ، أحمد بن يحيى بن زيد ، شرح ديوان زهير بن أبي سلمى ، المكتبة العربية ، الجمهورية العربية المتحدة ، 1944م.
الرباعي ، عبد القادر ، الصورة الفنية في شعر أبي تمام ، عمان ، دار الفارس ، 1999م.
عساف ، ساسين ، الصورة الشعرية ، لبنان ، بيروت ، المؤسسة الجامعية ، 1982م .
[1]- الصورة الشعرية : 12 .[2]- الصورة الشعرية : 12 .[3]- الصورة الفنية : 53 .[4] - شرح ديوان زهير : 39 وما بعدها .[5]- شرح ديوان زهير : 40 .[6] - شرح ديوان زهير : 40 .[7] - شرح ديوان زهير : 54 .[8] - شرح ديوان زهير : 54 .[9] - شرح ديوان زهير : 53 .[10] - شرح ديوان زهير : 49 .