من مشهور العلم بين طلبة العلم روايةً خبر الخلاف بين الإمامين محمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسماعيل البخاري، وتسبب الإمام الذهلي في اعتزال الناس للبخاري ثم إخراجه من نيسابور .
وكثيرًا ما تساق هذه القصة على أنها من التنافس والتحاسد بين أهل العلم، وربما أحدثت مضاضة في النفس على إمام خراسان في الحديث الإمام الذهلي، وقد كان هذا ما تكون في نفسي عندما سمعتها وقرأتها في سن الطلب الباكر.
ثم تكاملت الرؤية بعد ذلك وتبين لي مسار للقصة آخر أحسب أنه الأليق بمكانة الإمامين العظيمين المعظِّمين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والذي يتجلى من مجموع الأخبار وربط الوقائع بظروفها، أن الإمام البخاري رحمه الله قد ظُلم في حياته، ثم ظُلم بسببه أناس بعد وفاته.
أما ظلم البخاري رحمه الله في حياته، فإن سن الشيخوخة والاستقرار والعطاء العلمي قد نغِّصت عليه بالتطريد بين نيسابور وبخارى وسمرقند، فكدر عليه صفوها ونغص عيشها فالله يعلي درجته ويضاعف مثوبته.
ولكن قد جرى الجور على آخرين انتصارًا للبخاري، منهم:
محمد بن يحيى الذهلي شيخ الإسلام وعالم المشرق، وأمير المؤمنين في الحديث، قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه (الجرح والتعديل 8/125).
فإن ما جرى بينه وبين البخاري يذكر على أنه من حسد الأقران ومناكدة الأضداد، وهذا من الحيف وقلة النصفة.
وذلك أن الإمام الذهلي ممن خرج لاستقبال البخاري، وأمر الناس بذلك، ثم أمرهم بالأخذ عنه وبقي البخاري بنيسابور خمس سنين فما أثر عن الإمام الذهلي نفاسة عليه ولا غمط له، حتى إذا قال البخاري قولته في مسألة اللفظ، كان من الذهلي ما كان.
والذي يظهر من حال الذهلي أن موقفه ذلك كان غيرة على السنة وتدينًا بحماية حماها، فقد كان المسلمون يعيشون آثار بغي المبتدعة في حملهم الناس على القول بخلق القرآن، وامتحن بسبب ذلك الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، ولذلك كان لدى العلماء حساسة مفرطة من كل أثر من آثار قول المبتدعة هذا.
وكانت عبارة (لفظي بالقرآن مخلوق) من العبارات المحدثة التي نفر منها الإمام أحمد ونهى عن الخوض فيها، للإجمال الذي فيها والاحتمال في دلالتها، وقد كان بين محمد بن يحيى وبين الإمام أحمد اتفاق في المنهج وتعاون على البر والتقوى فيه، ولذا حذا الذهلي محمد بن يحيى حذو الذهلي أحمد بن حنبل في التحذير من هذه المقولة، قطعًا للطريق على المعتزلة في توصلهم بذلك إلى القول بخلق القرآن ثم القول بنفي الصفات الذي يسمونه توحيدًا. انظر: السير 12/285.
أما الإمام البخاري فقد كان متحرفًا لمواجهة المعتزلة من جهة أخرى، هي الرد عليهم في نفيهم القدر المسمى عندهم عدلًا، فألف كتابه (خلق أفعال العباد) وقال في مسألة اللفظ بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة اطرادًا مع هذا المنهج، فمع كل من الإمامين حظه من إصابة الحق، وله بفضل الله أجران على اجتهاده وصوابه.
وممن ناله الغمط بسبب البخاري بحيث حجب كثير من مناقبه الأمير خالد بن أحمد الذهلي، أمير بخارى، فقد كان هذا الأمير عجبًا في الأمراء، حبًّا للحديث وأهله، وإكرامًا لحملته، وهو أيضًا رحمه الله له رحلته وروايته، وكان إسحاق بن راهويه وغيره من أهل الحديث يقصدونه فيبالغ في برهم وإكرامهم، وانظر من أخباره في: المنتظم 12/225، الكامل لابن الأثير 7/412.
ومن كان هذا شأنه فلا يصح ألا يعرف إلا بموقفه من البخاري، وأنه استدعاه ليُسمعه كتبه فلما أبى أخرجه من بخارى، ولكن السبب الأظهر كتابة الإمام الذهلي إليه: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة، فأمره الأمير بالخروج من البلد فخرج. (السير 12/463).
وكل ما قيل عذرًا للإمام محمد بن يحيى الذهلي، فهو العذر للأمير خالد بن أحمد الذهلي، رحمهم الله جميعًا.
وممن غمط حقه من أجل البخاري الإمام مسلم، فقد قيل في حقه وحق كتابه عبارات كان قدره أعلى، وشأوه أبعد من أن يُتحطط عليه بتلك الجمل.
فمن ذلك: (لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء). (أي شيء صنع مسلم إنما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجًا وزاد فيه زيادات)، وكالقول عن البخاري (كل من عمل بعده فإنما أخذ من كتابه، كمسلم بن الحجاج، فرق كتابه في كتابه، وتجلد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إلى قائله). وقد كان قدر البخاري أعلى من أن يُعلى بهذه المقارنات الجائرة، وقد سمعت من شيخنا ابن باز رحمه الله إنكار هذه العبارات وأن كلا منهما إمام هدى ولكل من كتابيهما مكانته وقدره.
وبالجملة فقد كان الإمام البخاري واحدًا من فرقة نفرت إلى ميراث محمد صلى الله عليه وسلم حفظًا وتفقهًا وصيانة، فلكل منهم جهده وجهاده، وفضله وسابقته، وإنما حُفظت السنة بمجموع جهودهم وتنوع ملكاتهم، والله تعالى يتولى كفاءهم، ويعلي في درجات الجنات منازلهم.