د.محمد عياش الكبيسي

مع تصاعد التحديات الطائفية في الكثير من دول المنطقة ما زال الخيار السياسي الأمني المزدوج يمثل الأسلوب الأوحد في التعامل مع هذه التحديات، وذلك يعود لأسباب كثيرة منها ضعف الخلفية الثقافية للمسؤولين عن هذه الملفات، ولو قارنا بين تجربتين كبيرتين في هذا المجال، التجربة الأولى تجربة تاريخية ناجحة وهي تجربة صلاح الدين الأيوبي والتجربة الثانية تجربة معاصرة فاشلة وهي تجربة صدام حسين، كلا الرجلين واجه تحديات متشابهة إلى حد ما، مواجهة الغرب (الصليبي) ومواجهة الفتنة الداخلية (الطائفية)، صلاح الدين رجّح الحل الثقافي مع الفتنة الداخلية وبدأ بتأسيس العشرات من المدارس التي تناولت الإشكالات الطائفية بنوع من العمق العلمي والانفتاح الحِواري، وكان الجو العام في مصر وبلاد الشام يسير بهذا الاتجاه، حتى أسهمت زوجة صلاح الدين في تأسيس المدارس النوعية التي كان لها الدور الأبرز في حماية الهوية العربية الإسلامية والقضاء على كل أشكال الفتنة الداخلية، وما زال الشعب المصري الأكثر انسجاما من بين شعوب المنطقة، وبهذا يكون صلاح الدين قد أردف انتصاراته في الجبهة الخارجية بانتصارات داخلية لا تقل أهمية وروعة عن تلك.

في التجربة المعاصرة اعتمد صدام حسين الأسلوب الأمني، وهذا هو الأسلوب الأنسب لثقافته وشخصيته مستبعدا الخيار العلمي أو الثقافي، لكن النتائج كانت معاكسة تماما، فالتمدد الطائفي وصل إلى أوجه أيام حكم البعث في البصرة والمحافظات الجنوبية وحتى في بغداد، فبقدر ما كانت القسوة الأمنية تدفع الناس باتجاه التطرف كانت تمنحهم أيضا خبرة في طرق الالتفاف على هذه الأساليب الأمنية، وفي هذا الوضع حينما كان حزب البعث لا يملك إجابات علمية لكثير من الأسئلة الثقافية والتاريخية كانت الجارة (إيران) -بثورتها القائمة على أساس هوية مغايرة ورؤية متكاملة ومؤدلجة للدين والتاريخ والثقافة- الأقدر على ملء هذا الفراغ ودعم المراجع والمدارس المؤيدة لها حتى في أيام القادسية (حرب السنوات الثماني بين العراق وإيران).

لقد دفعت الأمة العراقَ كلَّه ثمنا لهذه التجربة، وبدأت النار تمس الأقطار العربية الأخرى، ومع كل هذا فإن نظرية علمية جادة لمواجهة هذه التحديات لم ترَ النور بعد، وما زالت المقولات السطحية المبسّطة تنتشر وأغلبها لا يبعد عن التجربة العراقية مثل الأدبيات الوطنية، والاحتكام إلى مؤسسات الدولة الحديثة (الدستورية والقانونية)، وأخيرا الحلول الأمنية بكل صورها.

وهنا نحاول أن نضع بعض النقاط المشجعة على التفكير العميق للوصول بالنهاية إلى تشخيص علمي دقيق للمعضلة وتعقيداتها.

في البداية لا بد من تفكيك المصطلحات المفتاحية مثل (المذهب والطائفة والأمة)، وهنا لا بد أن نعترف بوجود نوع من الخلط والضبابية في هذه المصطلحات، فما زال كثير من الكتاب والباحثين لا يفرقون بين هذه المدلولات فيضع أحدها مكان الآخر، ولا شك أن اللغة ذاتها تعين على هذا الخلط، ولذلك من المستحسن التركيز على المعاني الاصطلاحية المستمدة من الميدان والواقع واستبعاد التحليلات اللغوية والجذرية.

يمكن القول هنا: إن المذهب هو اجتهاد علمي (مدرسة) من دون هوية جديدة أو محور ولاء جديد، فالشافعية مذهب فقهي والماتريدية مذهب عقدي والقادرية مذهب تربوي والبصرية مذهب لغوي.. إلخ، ويمكن هنا أن نقول: إن الأحزاب السياسية المعاصرة هي مذاهب سياسية أيضا، ولأن كل هذه المذاهب لا تتضمن هوية داخلية خاصة فإن الشخص الواحد يمكن أن يكون شافعيا في الفقه وماتريديا في العقيدة.. إلخ، وهو لا يعيش في المذهب إلا في الإطار العلمي المحدد، وأما خارج هذا الإطار فهو لا يختلف عن بقية الناس في ولائه العام للأمة أو الدولة التي ينتسب إليها.

الطائفة عكس المذهب تماما فأساس الطائفة (هوية جامعة وولاء شامل) وفي الطائفة كل عناصر الهوية (المعتقد والفقه والتاريخ والرموز والمناسبات.. إلخ) وبالتالي لا يمكن للطائفي أن يكون له انتساب آخر غير طائفته، وإذا وجد فهو إما متنصل عن طائفته، أو مجامل في انتسابه، وإذا كنت تدخل المسجد أو المحلات العامة فلا تكاد تفرق بين أصحاب المذاهب والمدارس والتوجهات المختلفة فإنك بسهولة تستطيع أن تميز أبناء الطائفة عن غيرهم لأنهم هم الذين يحرصون على تمييز أنفسهم حتى في الزي أو اللهجة أو طريقة السلام، إنهم يبتكرون في كل مناسبة ما يميزهم في الأفراح والأتراح والعلاقات والشعارات والألوان.. إلخ.

الطائفة حقيقة هي أمة داخل الأمة وهذا في أحسن الأحوال، أما إذا تمكنت الطائفة من أسباب القوة والانتشار فإنها قطعا ستتحول إلى مشروع (الأمة البديلة)، لأنها في الأصل صنعت لها هوية كاملة وشاملة بديلة عن هوية الأمة، ونستعير هنا بتركيز شديد المقولات التحليلية العميقة للدكتور علي شريعتي وهو من أبرز فلاسفة الشيعة المعاصرين والذي يقول فيه علي الخامنئي: «إن النجاح الذي حققه شريعتي لم يحققه سواه» (التشيع العلوي/ص5)، يقول شريعتي بالنص: «لقد صارت الكعبة وصار الطواف بالكعبة قاعدة دعاية عظمى لجهاز الخلافة.. إذاً وقد سقط الحج كشعار في يد العدو ما العمل؟ الاتجاه معروف، الطواف بقبر الحسين هو إذاً الطواف حول الكعبة الحقيقية» (التشيع مسؤولية/ص86)، ثم يقول: «ما هي شعارات الطبقة الحاكمة؟ القرآن، السنة، الحج، الجهاد، المسجد، الجماعة، وماذا يمكن إذن أن تكون شعارات الطبقة المحكومة المحرومة؟ هذه الطبقة التي ترى الشعارات الأصيلة للإسلام في يد العدو، وتنهض للبحث عن شعارات ومرتكزات وأسلحة جديدة» (المصدر السابق ص91)، من الواضح في هذه المقتطفات أن فيلسوف الثورة يدعو صراحة إلى تأسيس هوية جديدة في كل ملامحها وأبعادها، وعلى أساس هذه الهوية الجديدة ينبغي أن تقوم الأمة الجديدة، وهنا يكون الصراع بين الطائفة والأمة صراع وجود بامتياز.

لقد استغرب بعض القادة العرب من السلوك الطائفي المنافي للروح الوطنية والذي بدأ يشكل قلقا جادا في الكثير من الدول العربية خاصة بعد المظاهرات التي تجرأت على رفع صور لزعامات أجنبية معروفة، والحقيقة أنه لا يمكن للهوية الطائفية إلا أن تكون عابرة للحدود القُطرية، لأنه ليس في مرتكزاتها اعتبار للأدبيات الوطنية إلا تلك التي تصب في مصلحة الطائفة، وهذا ما يتم ترسيخه في الجماهير عبر المواكب الحاشدة والمتكررة على كثرة المناسبات، ففي هذه المواكب يتم غرس الشعور الطائفي وصناعة القيم المناسبة له بحيث تكون هذه القيم ركنا أساسيا في الشخصية والعقل الجمعي للمشاركين.

وإذا كان هذا هو مضمون الثقافة الطائفية فإلى أي مدى ينطبق هذا المضمون مع مصطلح «أهل السنة والجماعة»؟
هناك من يحاول خلط الأوراق بقصد أو بغير قصد، والحق أن هذا المصطلح أطلق على الأمة بعد خروج الفِرَق، وليس المقصود بالسنة مذهبا محددا، إذ السنة معناها منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة هنا إنما هي (الأمة) وليست حزبا أو مجموعة محددة، والدليل أن هذا المصطلح ليس له هوية غير هوية الأمة، فالقرآن والسنة والتراث والتاريخ والمناسبات والرموز.. إلخ، هي ذاتها عناصر هوية الأمة وهي ما يركز عليه أهل السنة والجماعة، بمعنى أن هناك انسجاما وتطابقا تاما وهذا يؤكد أن الهوية واحدة، ولو نظرنا في المقابل إلى الطوائف الأخرى فإنك تجد فيها عناصر أخرى ورموزا وقراءات للتاريخ والجغرافيا مختلفة تماما مع هوية الأمة بل هي متصادمة معها تصادما حادا.

لقد استوعب أهل السنة حركة الأمة الثقافية والسياسية والتربوية المنسجمة مع هوية الأمة على اختلاف مذاهبها وتوجهاتها، فهم يفخرون بالمهاجرين والأنصار والآل والأصحاب، ويفخرون بعمر بن عبدالعزيز الأموي وهارون الرشيد العباسي وصلاح الدين الكردي ومحمد الفاتح العثماني، ويفخرون بمدرسة الحديث المدنية ومدرسة الرأي البغدادية ومدرسة الظاهر الأندلسية.. إلخ؛ وعليه فلا يصح اعتبار أهل السنة مذهبا أو حزبا أو جماعة.

لقد أحدثت الأنظمة العلمانية الحديثة تصورا جديدا لتلك المعادلات الثابتة فتعاملوا مع أهل السنة والجماعة كطائفة وليس كأمة، وأصبح في أدبيات العلمانية أن الذي يدافع عن هوية الأمة وتاريخها ورموزها هو طائفي ولا يختلف عن ذلك الذي يدعو إلى هوية جديدة وأمة بديلة! والعلمانيون وهم يغضون الطرف عن هذه الحقيقة ربما كانوا يهدفون إلى التخلص من مزاحمات الإسلاميين لهم سواء كان هؤلاء الإسلاميون ينطلقون من ثقافة الأمة أو من ثقافة الطائفة، وقد أدى ترسيخ هذه الصورة إلى ترك ثوابت الأمة وتاريخها دون محام أو مدافع، وشاعت لدى الكثير من المثقفين وربما الدعاة أيضا أن الدفاع عن الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين والأمويين والعباسيين والعثمانيين والأندلسيين والأيوبيين هو من مخلفات الثقافة الطائفية!! وأن إدانة القرامطة الذين سرقوا الحجر الأسود وذبحوا الحجيج، أو إدانة المحدث النوري الذي ألف كتابه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) والذي بذل فيه كل جهده واجتهاده للطعن في صحة القرآن الكريم، هذه كلها ثقافة طائفية! المهم أن تبقى الأمة واحدة، وهنا يكون مصطلح الأمة مصطلحا بلا مضمون فالأمة التي ليست لها هوية ولا تاريخ أمة وهمية ليس لها وجود.

وهنا لا بد من التأكيد أن نقد التاريخ والتراث الثقافي لأمتنا شيء والتبرؤ منه شيء آخر، فنحن لا ندافع عن تاريخنا وتراثنا بوجه الناقد العلمي وهذا قائم وموجود داخل الثقافة السنيّة بشكل واسع، لكننا نستنفر بوجه من يريد استئصال هذا التاريخ أو التراث لأنه استئصال للأمة ومحو لذاتها وهويتها.

وأخيرا فإن البحث العلمي العميق لهذه المعضلة وأسبابها وتداعياتها هو الكفيل بالتوصل إلى الحل المنشود، وقد يسهم مثل هذا البحث في تبصير المغرر بهم من اللاهثين خلف الدعوات الطائفية حينما يتأكدون أن المشروع الطائفي يعني قطع الصلة بهوية الأمة وتاريخها العريق، وعلى الأقل فإن تحصين الأمة وتجميع قواها حول هوية واضحة لا مناص منه في معركة البقاء ومواجهة التحديات المختلفة والمتغيرة.