بسم الله الرحمن الرحيم


لو ألقينا نظرة تأمُّلية تبحث عن العوامل الفعّالة التي تقف خلف كثير من التحولاتالفكرية الحادة عند بعض النماذج والتي تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار علىنحو يستعصي معه الفهم والتحليل؛ لألفينا أنها لم تنبثق من فراغ بقدر ما هي أثرحتميّ أفرزته بواعث متنوعة بينها تسلسل سببي وروابط عليّة متبادلة ومتفاعلة أسجّلباعثين هنا منها على سبيل الإجمال، مقتصداً جهد الطاقة حتى لا أثقل على ذاكرةالقارئ الكريم:
بواعث الإنحراف الفكري عند القراء والكتاب المحليين كثيرة لكن أهمها باعثان :


أولاً: القراءة المكثفة في كتب أهلالأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة:

إن هناك نوع من الناس بطبيعته يستهويه الفضول المعرفي مما يدفعه إلى مزيد من النّهم القرائي اللامنضبط ـأحياناً ـ مما يدفع بالفرد إلى قراءة كل ما يقع في متناول يديه من أطروحات فكريةقراءةً غير موجهة بحكم عدم استنادها إلى قدرات علمية عليا، ولذا فهي تولد الاتجاهالسلبي أكثر مما تعزّز التوجه السلفي كإفراز حتميّ ناشئ عن ضمور مكتسبه المعرفي فيجانبه العقدي على وجه الخصوص.

إن هشاشة الوعي ومحدودية القدرات العلمية تجعل من البنية الذهنية أرضاً خصبةمهيّئة لاستقطاب الأبنية المفاهيمية والمعاني المزيفة والرُّؤى الممعنة في التضليلباعتباره ا أفقاً للوعي لا يسع المرء إلا الامتياح منه والتماهي مع معطياته.

إن إثارة الشبهات والتشكيك في العقائد والإطاحة بالتصورات الإيجابية هو الهدفالمحوري الذي تتغيّاه كتب ومقالات أهل الأهواء، الشأن الذي جعل رسول الله صلى اللهعليه وسلم يتمعّر وجهه عندما شاهد صحيفة من صحف أهل الكتاب مع عمر ابن الخطاب ـرضي الله عنه ـ وهو الفاروق المبشَّر بالجنة، ونهاه عن قراءتها. ولقد كان سلفناالأفاضل يحرِّمون علم الكلام ويشدّدون في عدم السماع من أهل الأهواء أو النظر فيمؤلفاتهم حتى ولو احتوت على شيء من الحق؛ لأن هذه الأطروحات تورّث شُبهاً تضلّلالمتلقِّي وتستهويه وتؤثِّر على قناعاته، وهذا التأثير عائدٌ ـ في تصوّري ـلعاملين:

أحدهما: أنها تعتمد في بنائها التعبيري والفكري آليات فلسفية ترتكز على الفذلكةالكلامية والحذاقة اللفظية لتستهوي الفكر وتأخذ بلباب العقل وتلبس عليه وتسيطر علىمساربه فيتلقف بعض الشبهات دون وعي، يتلقاها بلا غربلة ولا تمحيص، تتلبّسه الفكرةويتلبّس بها، ترتسم في عقله ويتفاعل مع أدقِّ تفاصيلها ويغنى بها عن غيرها، تكبِّلهبقيودها وتحجبه عن معاينة ما باينها، وتزجُّ به في دائرة مغلقة خانقة فيسيطر عليهشعور بصوابية ما يعتنقه بل يعتبره هو الحق المطلق، ومن ثم تتعسر عليه المراجعة،وتحت هذا الضغط النفسي الشديد تستبدُّ به الفكرة فـلا يـرى إلا ما يتقاطع معها،فيندفع للعمل بمقتضاها دون وعي، إنه يعيش في غيبوبة أفضت به إلى عزلة لا ماديةخانقة نائية به عن مدِّ جسور التواصل والتماس والتفاعل الحيوي مع الأفكار المغايرةلها، قد ملكت عليه لُبّه ووجدانه على نحوٍ بات معه مفتقداً للرؤية الموضوعيةالنافذ ة مثله كما المحاط بألسنة اللهب، فرؤيته محدودة محصورة في ذاته وما يحيط بهامن دخان كثيف.

العامل الثاني: أنها تملك مهارات عالية وكفاءة بارعة في تمرير مشروعها الفكري،وذلك من خلال ضخِّ المعاني ذات الطابع المادي التي تدغدغ حوائج الناس وتستجيبلعواطفهم ، ومن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة التي تتظاهر بالعلميةوتدّعي الموضوعية، الشأن الذي يهدينا إلى تبيّن السر الكامن خلف اتِّساع القاعدةالجماهير ية المتناغمة مع أهل الأهواء، حتى صاروا بجملتهم أكثر كمية من أهلالسُّنّة والجماعة، وهذا مؤشر يبرهن ـ بجلاء ـ على أن التماهي الوجداني معالمضامين الدلالية لهذا الخطاب ليس حقيقة شعورية منبعثة من رؤية منهجية وصياغةفكرية صائبة بقدر ما هي نتيجة للانسياق للمحركات الوجدانية.

إن القارئ المتسطح الذي يعاني من الهزال في بنيته المعرفية يتعسّر عليه ـ إن لميتعذّر ـ أن يقرأ بروح تمحيصية ناقدة، فهو لا يملك القدرة على سبر أغوار الروحالعامة وتفكيك البنية الشاملة التي ينهض عليها هذا الخطاب، ولذا يقع فريسة سهلةللأفكار السالبة بكافة ضروبها، ويسيطر عليه ما يشبه عمى الألوان، فيتجاوب معالمادة المطروحة، ويتذوّقها، وتنطبع لديه في أعماق الضمير، والمصيبة الأعظم تكمنفي عدم شعوره بما ينطوي عليه من إشكال معرفي حادّ سهّلَ من اختطاف عقله ومن ثممصادرته في بُعْده الإنساني.

إن قـصـور الاستعـدادات المعرفيـة لـدى المتـلقّـي يفـضـي ـ بالضرورة ـ إلى إضعافشخصيته الثقافية، ولذا؛ فإنه بمجرد اطِّلاعه على مجموعة مقالات أو بضعة كتب من الكتبالفارغة إلا من الغُثَاء التراكمي فإنها كفيلة بإحداث هزّة عنيفة في كيانه تعصفبما تأصّل لديه من قناعات على نحو يجعله يتنكّر لما نشأ عليه من قيم، ولا ريب أنهذا يبرهن ـ بجلاء ـ على عمق الانفصال بينه وبين الفقه العقدي من جهة، وعلى أساليبالطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي من جهةأخرى.

تُعدّ العزلة الشعورية، والنَّأْي عن النهل من العلم المؤطر بالمنهج الرباني، وعدمالتفاعل المثمر مع قادة الفكر وأرباب المعرفة وذوي الحسّ الحي في الأمة، والتجافيعن المصادر المعتبرة التي تشكل الفكر الموضوعي؛ من أكبر العوامل الموهنة للتماسكالعقدي والمؤسسة لتداعي المسلَّمات القطعية، والتي تحيل الفرد إلى هدف سهل المناللمختلف الوافدات والمؤثرات الثقافية المناهضة لمكوّناته الأساسية، والمناقضةللسلّم القيمي الذي تشكّل وفق دلالاته، والمخالفة للأدوات المعيارية التي علىضوئها يقيم أحداث الحياة. هذه البواعث تعرِّض كثيراً من الأسس المفاهيمية إلىالتزعزع والتآكل الداخلي.

إن هذا المتلقِّي بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي وجهل عميق لديه ضرب من السلوكالازدواجي الذي يتجلَّى على نحو واضح في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدةوالمجرّ دة وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بإمَّعية فكرية ضُربت بعمق فيأعماق أغواره فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه فضلَّ عن الحق وتاهَ في بَيْداء الوهموالخيال كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب لصفاء الحقيقة والجهل اللامحدود الذي بفعلهباتت رؤيته سطحية هامشية فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد والموضوعية أبرزأدواتها.

إن مما يبعث الأسى هو أن المتلقّي السالف الذِّكْر قد يكون أحياناً ممن يساهمون ـفي تصوّره ـ بإثراء الحركة العقلية ودفعها ـ لا لتأهيله لذلك، وإنما لاحتلالهمكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية والعقلية ـ وهنا تعظم المأساة، حيث إن جملةالأفكار التي تسرّبت إلى جنانه واستقرت في حسِّه وتراكمت في عقله الباطن هو الآنيتبنّى العمل على تصديرها وإنتاجها يستهدف بها متلقّياً ـ هو الآخر بالمواصفاتذاتها ـ يستلهمها فتعانق وعيه وتكتسح لُبَّه فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل فتلامسكل جزئية من وجدانه، وهكذا تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار بتبادل الأدوارعلى نحو يثير الشعور بالأسى والشّجن.

إن هذا الطرح ذا النزعة الليبرالية يعكس ـ بنقاء كامل ـ الصورة عن عقول مصادرةتتظاهر بالتحرّر والانـفتاح الـذي لا يتحقق ـ من وجهة نظرها ـ إلا بالخروج عن منطقالتجانس الجمعي، واستفزاز الساكن، ومخالفة السائد، وتحريك الراكد، واختراق(التابو)، والتمرد على المقاييس والأعراف المعتبرة، واستدبار النصوص، وإسقاط مكانةالعلماء، والتقليل من خصوصية المجتمع، والمبالغة في السقوط الأخلاقي بحجة التطويروالتجديد .

إن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا دائماً هي أن التجديد لا يكمن فيالإقصاء لأخلاقٍ واستدعاءِ أخرى على الضدِّ منها، وإنما يتم التجديد من خلال توسيعمدى الأبعاد الدلالية لبعض الأبنية المفاهيمية الأخلاقية، وابتكار الآلياتالفعّالة لعولمتها وجمهرة ممارستها وتكثيف الدعاية لها والإعلاء من قيمتها فيالنَّسَق الأخلاقي العام ودفعها نحو نقلة ارتقائية تحتلُّ جراءها موقعاً أعلى فيدرجات السلّم القيمي.

إن ثمَّة ثلة من الكُتّاب لديهم تصور ذاتي وهمي، فهم يرون ذواتهم أنهم طليعة هذهالأمة والناطق بلسانها والمعبِّر عن آلامها وآمالها، وهم فقط الذين يملكون عناصرالترشيد الضرورية للنسيج الاجتماعي الذي استقرَّ في وعيهم أنه بخاصته ودَهْمَائهوبسُر اته وبُسطائه وبتنويعاته وتعبيراته وبمكوّناته وقياداته الدينية وبفعالياتهالثقا فية وبرموزه العلمية؛ عبارة عن قطيع غوغائي ومزيج نَتِنٍ من الإمَّعاتوالسطح يين الذين يعيشون في واقع استاتيكي سكوني يغلب عليه طابع النمطية والاطّرادالعشوا ئي على نحو يدفع هؤلاء الكُتّاب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الاشتغال على تهيئةبنية هذا المجتمع لخصائص جديدة، وذلك من خلال تطوير أنماط سلوكهم وتوسيع آفاقهمبعَصْرنة مفاهيمهم ولَبْرلة توجّهاتهم.

الفلسفة التي يصدر عنها الطرح الليبرالي تكمن في اختزاله كافة أشكال الرقي فيالبُعْد المادي المحض، وتتجلّى في طبيعته الموضوية الرافضة للماضوي والعاملة علىتجسيد القطيعة المعرفية معه تمهيداً لمحوه من الأذهان ومن ثم تهميشه في عالمالواقع الفعلي، وفي سبيل هــذه الغــايــة فإنـه يلـحُّ ـ وعلى نحو مستمر ـ علىجملة معانٍ محددة يتغيّا استقطابها لإذاعتها وجمهرتها على أرض الواقع العملي.

تحرير المرأة، إلغاء تعدد الزوجات، الحرية المطلقة، الثورة على التراث السلفي،تحرير العقل من سلطة النقل..إلخ؛ كلها مفردات تكتظُّ بها هذه الأطروحات على تباينجليٍّ في مستوى شفافيتها وتغاير واضح في القوالب المستخدمة لتسويق تلك الرُّؤى علىنحو يضمن لها القبول والانتشار والتمدد.

إذا تبلور ما سلف وصلنا إلى نتيجة راسخة مفادُها أن رفع منسوب العلم الشرعي ـ وفيبُعْده العقدي خاصة بوصفه هو الذي يهندس الشخصية الإسلامية ويوجِّه طاقاتها ويرشدحركة معرفتها ـ شرطٌ موضوعي يلزم توفّره في كل فرد بحسبه.

وتتأكد أهمية توفّره في كل من ينزع إلى التواصل القرائي مع مختلف الأطروحات المنتميةإلى منظومات فكرية مغايرة أخرى؛ لأن العلم الشرعي بحسبه يمثِّل بنية معرفية عميقةبالنسبة للعلوم الأخرى هو الذي يكسب حامله حسَّاً نقدياً ورؤية نافذة قادرة علىإزاحة الستار وإدراك ما يحتجب خلفه من منطلقات وما يكمن من خيوط دقيقة ضامرة فيأعمق أغواره.

إن الإلمام بالعلم الشرعي والتشبّع بالفقه العقدي وفق منهج سلفي مطلبٌ جوهري فيغاية الأهمية والإلحاح، مطلبٌ يمنح صاحبه حصانة فكرية، ويزوِّده بمناعة نفسية،ويورِّثه عزّةً وقناعة تامة بصوابية توجّهه، ويمدّه بحيوية ذهنية وقدرة فذّة علىالقراءة النقدية التي تضعه أمام الحقيقة الموضوعية لهذه الأفكار الوضعية التيتغذِّي أخيلة مستهلكيها بالمفاهيم الكاسدة والمتشابكة مع أسسنا الفكرية لسلّمناالقيمي المستوحى من نصوص الوحيين.

إن العمق المعرفي الشرعي هو الذي يمنح المتلقِّي عقلاً متحرّراً من علائق التبعيةلكل فكر متوتر معزول عن وحي السماء، ويمكِّنه من الصيرورة إلى تملّك أفق شموليواسع يمنحه أعظم صور البلورة النقيّة التي توقفه على حقيقة مقروئه فيعرِّي سوأتهويجلي ثغراته ويعي مدى ما تولّده من مفاسد في البنية العقلية وحجم ما تقرّه من خللفي الكينونة الثقافية.

إن التأهيل وبقدر كافٍ للذات ـ من خلال توثيق الاتصال الفعّال بمنابع الثقافةالإسلامي ة ـ شرطٌ يجب استدعاؤه لاستثمار معطياته بحسبانها هي من يزوّد الفردبالنظرة العميقة المخترقة لحدود الإدراك الظاهر والسابرة لأغوار المقروء وغربلته،ومن ثم مواراة الأفكار المولدة للتصورات المغلوطة في الزوايا المظلمة من الذاكرةليجري استحضارها في الظرف الملائم، وذلك عند إرادة تجلية مساحات التفوق وإظهارالقيم الجمالية وإبراز خطوط التميّز في الفكر السلفي، والذي تتجلّى روعته الأخّاذةعند مقارنته بضدِّه، وكما قال الأول: وبضدِّها تتميّز الأشياءُ.

ثانياً: المبالغة في إيراد الأسئلة والاستفهامات على العقل وتحميله ما لا يحتملبجعله الإطار المرجعي الأول بعيداً عن النص:

إن الحضور الفعّال للبُعْد التساؤلي في حسِّ الفرد يُعدّ من أهمِّ الشروط اللازمةلتفتيح ملكاته الفطرية ونموّ كينونته المعرفية وتكوين نظرته الشمولية. ولذا؛ فإنتطلّع الفرد إلى استكناه المجهول وإيراده للتساؤلات الهادفة ـ التي تطرح أبعاداًغائبة لم تُمنح ما تستحقه من عناية ـ وتشوّفه إلى معرفة الخيوط التي نُسج منهاالواقع، وبحثه عن إجابات تمكّنه من فرز التباسات الآني المعقد وتبيّن تشابكاتهوتداعيا ته ومن ثم تحسس المسارات الآمنة ينمّ عن عمق في الوعي، واستنارة في العقل،وتحسّن في مستوى الإدراك، وانعتاق من قيـود النمـطية والتقلـيد، وثمّـة بَوْنٌذهني لصالحه يكشـف المسـاحة الشــاسعة بينه وبين الأذهان الببغاوية التي لا تتقنسوى التقليد والمسكونة بكافة ضروب البلادة والتسطح لما تنطوي عليه من افتقار مطلقللبعد العقلاني المرتكز على العلم الموسوعي والتفكير الإبداعي الجادّ، والذيتوفّره مربوط إلى حدٍّ كبير بوجود التساؤلات بكثافتها الكمِّية من ناحية،وبطبيعتها النوعية من ناحية أخرى، وقديماً أجاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندماسُئل عن السرّ الكامن خلف ما يتوفر عليه من رصيد علمي هائل بقوله: (.. بقلب عقولولسان سؤول).

إذاً؛ فثقافة التساؤل من حيث المبدأ هي ثقافة ينبغي تفعيلها وإشاعتها، ولكن ثمَّةملحظ يجب استحضاره في هذا السياق، مؤدّاه أن الأسئلة تتباين باعتبار طبيعتهاالماهية، فثمَّة أسئلة لها عوائد إيجابية وثمَّة استفهامات لها مردودها المكتظّبالسلبية ، كما هو الحال في الاستفسارات ذات النزعة الفلسفية المتمحورة حول ذاتالخالق ـ جلَّ وعلا ـ وأسمائه وصفاته وأفعاله.

إن ثمَّة أموراً يجب أن يقف عندها العقل موقف التسليم والخضوع أُشير إلى جزء منهاعلى نحو مجمل كما يلي:

أولاً: القدر، فهو سرّ الله في خلقـه، والـرب ـ تبارك وتعالى ـ يعلم الأصلح للخلقالذين لم يتعبَّدوا بالبحث عنه، وإنما تعبَّدوا بالرضى الوجداني والتسليم المطلقوالامتثال اللامشروط، ولقد كان سلفنا الأوائل نموذجاً مثالياً يجدر الاحتذاء به فيهذا الشأن، وكانت مواقفهم حازمة إزاء من يتمادى في إثارة الأسئلة والإشكالات فيالقدر، كما نرى في موقف الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تجاه بعض أهلالذمة؛ كـ (قسطنطين) الذي سلَّم مفاتيح بيت المقدس لعمر ـ رضي الله عنه ـ وقد أفصحعن شعور يخالجه بالاعتراض على القدر، فتوعّده عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى فاء إلىالحق. وكذلك قصة ذلك الشاب الذي أفرط في التفاعل مع الخواطر العارضة التي ترد علىذهنه، فجاء به والده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فزوّده بجرعات تعليمية حتىآبَ إلى النهج السوي، وكذلك أيضاً قصة (صبيغ التميمي) وهي مشهورة في هذا السياق.

ثانياً: الغيبيات عموماً سواء منها ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته وأفعالهبكيفياته ا، أو ما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى كأحوال الآخرة أو عالم الشهادة الذيليس بمقدور مداركنا تناوله، فهذا كله يجب الكف عنه وتجنّب البحث في تفاصيله.

ثالثاً: بعض حِكَم التشريع؛ لأن حِكَم التشريع متباينة، فثمَّة جملـة منها قديُدرك من قِبَل عامة الناس، وجزء آخر قد لا يدركه إلا العلماء، وهناك جزء يختصالخالق ـ جلَّ وعلا ـ بمعرفته، وهو سرٌّ من أسراره الخفية المغيبة عن البشر.

إن الإفراط في طرح المزيد من التساؤلات سلوك له إفرازاته السلبية؛ لأن للسؤال قدرةهائلة على التشعب والتكاثر والسير في كل اتجاه، فالسؤال السابق يفضي إلى السؤالاللاحق الذي بدوره يستدعي إجابة تكتظ بمواطن الأسئلة اللامتناهية، وهكذا تتواصلالأسئلة على نحو توالدي يعي العقل ويرفعه إلى مشارف الهاوية، فتتنازعه مشاعرمتناقضة تعصف به وتحيطه بدائرة من الكآبة المقلقة والتوترات النفسية المرشحةللتفاقم والاستفحال.

إن ضغط الأسئلة اللامشروعة على الطاقة الذهنية هو في حقيقته ليس إعمالاً للعقلبقدر ما هو إهمال له وشرعة لاغتياله. تفعيل العقل يكمن في عقلنته بالدلالاتالمضمو نية للنصوص الشرعية، لا بالقفز على هذا البُعْد الشرعي بالاعتماد علىالرُّؤى المشوَّهة والطرح الـمُرْبك للوعي الإنساني.

إن الذي أوجد العقل حدّد له دائرة عمله، ووضع له الأُطر التي يجب أن لا يتجاوزها،وجعل منه قاعدة ينطلق منها الفرد في وعيه عن الله وأحكامه ومراده ومرامي تشريعاته،وهو بتآزره مع النص يشكل تصورات الفرد لأهداف الحياة والغاية من الوجود الإنساني.

لقد ضلَّت طوائف شتَّى بفعل جهلهم بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحامه فيغير ميدانه، كما نلحظ ذلك جليّاً عند الفلاسفة، حيث أنفقوا طاقاتهم العقلية فيسبيل أن يدرك المحدودُ غيرَ المحدود، فتاهوا في محيط من الجدل المتناقض الذي لايركن إلى قرار، وقالوا: إن وجود الخالق وجود مطلق بشرط الإطلاق، فجرّدوه من الوجودالذاتي، وحصروه في الوجود الذهني الذي لا حقيقة له في الخارج، والمعتزلة قدّسواالعقل وجعلوا النص يدور في فلكه، فأدَّى بهم ذلك إلى القول بخلق القرآن، وقالبعضهم: بمنع التسلسل في صفات الخالق جلَّ شأنه، وأوجبوا عليه فعل الأصلح، والصوفيةبفعل انحسار دور النص قالوا: بوحدة الوجود، واعتمد بعضهم على (حدّثني قلبي عنربي)، والجهمية منحوا العقل مكانة لم يُؤهل لها، ونقلوا قدراته من النسبي إلىالمطلق، فقالوا: بنفي النقيضين عن الله، ومنهم من قال: بالحلول، ومنهم من قال:بالاتحاد، وجملة منهم حصروا الإيمان بالمعرفة المجردة فحسب، والقدرية جعلوا للعقلالهيمنة الكاملة والمرجعية المطلقة، فقالوا: بأن العبد خالق أفعاله وأن الله لميقدّرها، والمرجئة جعلوا السيادة للعقل وعملوا على إقصاء النقل فقالوا: بنفي الكفرعمن تلبّس به والتاث بسلوكياته.

والثنوية ألّهوا العقل وخرجوا به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراكوالحكم، فقالوا: بوجود خالقين لهذا العالم، والخوارج وسّعوا دائرة صلاحيات العقلوأَعْلوا من وظائفه فرَمَوا بالكفر من هو منه بَراءٌ، وسلكوا منهج العنف ذي الطابعالراديكال ي، والدهرية جعلوا العقل هو الصانع المنتج للوعي والمحدد لإطاره فأنكرواوجود الخالق جلَّ في علاه، والأشاعرة والماتريدية جعلوا العقل هو الركيزة الأساسيةالتي يصدرون عنها، فقالوا: بظنّية الدلالات الشرعية ويقينية القواطع العقلية،ووصفوا الخالق بالنقص عندما قالوا بعدم ظهور آثار أسماء الخالق وصفاته إلا بعد أنخلق هذا العالم المنظور، والقرآنيون أطلقوا العنان للعقل فذبلت في حسّهم مدلولاتالنص القرآني وأبعاده الحقيقية فأفضى بهم ذلك إلى تهميش السُّنة وحجب أبعادهاالدلالية الملزمة، وهكذا تيارات متعددة تاهتْ عن الطريق الفطري الميسر بفعلتجاوزها لحدود الإدراك الإنساني ولإنفاقها للطاقة العقلية سفهاً في غير مجالها المأمون.

إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه ليس ثمَّة تعارض بين العقل الصريح الخالي منالشبهات والنقل الصحيح، بل التوافق بينهما هو الحقيقة الجلية التي لا تخطئها عينُمنصف، والشريعة لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها، وتأمَّل معي هذا الكلامالـقيم لابن تيمـية في كتـابه الموسـوم بـ (درء تعارض العقل والنقل) ـ هذا السِّفرالذي يُعدّ عملاً علمياً فذّاً لا يضارعه إلا القلة النادرة ـ حيث يقول: «إن كل ماعارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما
[COLOR=window****]علم[/COLOR] فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض بـهلا عقل ولا شرع» 1/194، إذاً؛ فتوهّم التعارض بين العقل والنص الصحيح آية علىارتباك العقل وفساده. ويقول في موضع آخر من درء التعارض: «إن النصوص الثابتة عنالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماًعليها، وإنما الذي يعارضها شُبَهٌ وخيالات مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة،فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شُبَهٌ سفسطائية لا براهين عقلية»1/155، 156، ويقول أيضاً في الدّرء: «والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء بهالرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصريح المعقول» 3/87.

إن كل رؤية عقلية لها حظ من البُعْد الموضوعي وتصح من الناحية الاستدلالية يقولبها أهل الأهواء فإن لها ما يعضدها في المصادر التشريعية، يقول ابن تيمية: «فوجدتكل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يـذكر أحد منـهم في مسألة ما دليلاًصحيحاً يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقِدَم العالمكـ (أرسطو) وأتباعه ما يذكرونه من دليل صحيح عقلـي فــإنه لا يخالـف ما أخبرت بهالرسل، بل يوافقه» درء التعارض 1/133، إن الاجتراء الصارخ على قدسية النص ـ إمابإقصائه، وإما باستقطاب الترجمة المشوهة غير الأمينة التي لا تعكس حقيقته ـ
[COLOR=window****]ممارسة[/COLOR] عبثية لا علمية تشتغل على تهميشالعقل الذي تحتِّم مقتضياته أن يكون النص الشرعي هو الضابط لإيقاعه والمحدِّدلمساره والموجِّه لتطلُّعاته، يقول صاحب الدّرء: «إذا تعارض العقل والنقل وجبتقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين،وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دلّ على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول#، فلو أبطلنا النقل لكنّا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لميصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء،فكان تقديم العقل موجباً عدم تقــديمه، فلا يجوز تقديمه وهذا بيّن واضح، فإن العقلهو الذي دلَّ على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذهالدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكندليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يُقدَّم، فصار تقديم العقل علىالنقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزمالقدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمهعند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل، وهو المطلوب» 1/170، 171.

إنه ليس من العقل تحكيم العقل؛ لأن العقول مضطربة ومتباينة وليس ثمَّة ما يسمّىبـالعقل البشري كمدلول مطلق يكون مرجعاً يُحتكم إلى معطياته وعنصراً حاسماً يضعالأمور في نصابها، يقول صاحب الدّرء: «والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقلوالشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا، بلكل من العقلاء يقول: إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاهأو أحاله أو منع منه بل قد آلَ الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلومالضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلومبالضرورة العقلية» 1/144، 145.

ويقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: «فلو قيل بتقديم العقل على الشرع ـ وليستالعقول شيئاً واحداً بيِّناً بنفسه ولا عليه دلـيل معلوم للناس بل فيها هذاالاختلاف والاضطراب ـ لوجبَ أن يحال
[COLOR=window****]الناس[/COLOR] على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفتهولا اتفاق للناس عليه» 1/46.

إن الشارع
[COLOR=window****]حكم[/COLOR] بتحديد مجال النظر العقلي وصيانةالطاقة العقلية أن تتبدّد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيهاوإنما يخضع ويذعن، والعقل التسليمي هو الأمر الذي كان الإسلام ـ بوصفه النَّسَقالذي يشكل الإطار المفاهيمي الموضوعي ـ يحث على الصيرورة إليه بعيداً عن العقلالشكي الديكارتي التائه في أودية الخيال. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابهالصواعق المرسلة: «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورُسُله على التسليموعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحكِ اللهـ سبحانه ـ عن أمّة نبي صدّقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمةفيما أمرها به ونهاها عنه وبلّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيّها،بل انقادت وسلّمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف فيانقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولهاأعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: «يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَأمر ربنا؟ ولكن قولوا: بِمَ أمر ربنا؟»، ولهذا كانت هذه الأمة ـ التي هي أكملالأمم عقولاً ومعارف وعلوماً ـ لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عنكذا؟ ولِمَ قدَّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام»4/1560، 1561.

وجماع القول أن إشكالية التحولات الفكرية إشكالية تطرح نفسها على الوسط الفكريبإلحاح يستدعي معاينتها وفق رؤية شمولية تتغيّا الاتجاه إلى العوامل الباعثة لهاللعمل على تجفيف منابعها، وهذا لا يعني أن ثمَّة كثافة كمّية مقلقة في هذا السياقـ كما أسلفت آنفاً ـ ولكن كضرب من الفعل الوقائي الذي يعصم من إفراز إرهاصات بدأتنذرها بالتشكل على نحو قد يلامس حدود التأسيس لظاهرة باعثة على القلق في هذاالمقطع الزمني المتّسم بتداخل الثقافات وثورة المعلومات وكونية التفاعل الثقافي،وفي هذا الراهن الآني الذي استحال فيه العالم إلى غرفة إلكترونية محدودة المساحةالشأن الذي يجد فيه كلُّ معنيٍّ بالهمِّ الدعوي نفسه ملزماً أمام ضميره الخاصبتوظيف خبراته المتراكمة لإبداع الأُطر التي تعينه على رفع درجة الوعي لدى العقلالجمعي، وتبصيره بأن التقدم إلى الأمام مرهون بالعودة إلى الخلق المتمثل في القرنالهجري الأول، الذي تبوَّأ فيه المسلمون القمة السامقة في سلك التطور الارتقائي.

وصفوة القول أنه لا مناص من تسليط أشعة النقد على كل فكر ملوّث وكشف تناقضاتهالفجّة؛ لإيقاف مفعول الشحنة السلبية التي تستهدف مجتمعاً يسعى لاستئناف مسيرتهالحضارية ولإعادة هذا الفكر الظلامي ـ الذي تشكل النزعة الطوباوية أحد أبرز ملامحهـ إلى مكانته الطبيعية التي هو قمين بها، ليظل قابعاً في أزقة الحضارة وموارياً فيمزابل التاريخ.




هذا مقالٌ قيم للأستاذ عبد الله السعوي نشرته مجلةالبيان ، ثم نُشر بمنتدى التفسير ، أعيد نشره هنا لفائدته للمقبلين على قراءة كتبالمنحرفين دون تحفظ أو ضوابط ؛ لعلهم يتنبهون إلى أمور قد تغيب عنهم ، استرسالا معنهم الاطلاع ، ثبتني الله وإياكم وإياهم على دينه إلى أن نلقاه .