إلى كل ضعيف الإرادة مع التحية

محمد بن علي القعطبي

قبل خمسِ سنوات كنت في رحلة صيفيَّة؛ لدراسة اللُّغة الإنجليزيَّة في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وقد حطت بي عصا التَّرحال في جامعة كاليفورنيا فرع (ديفس)، وهي ضاحية من ضواحي سكرمنتو عاصمة ولاية كاليفورنيا، وككل الجامعات الأمريكيَّة التي لا تخلو جامعة منها من مسجد أو مركز إسلامي، كان في هذه الجامعة مسجد، وقد تعرفت فيه على الأخ عبد الفتاح، وهو عربي يدرس الدكتوراه هناك على حسابه الخاص، وفي الوقت نفسه يعمل إمامًا في المسجد وداعية، وقد لقَّنَنِي دروسًا في العزيمة بفعله لا بقوله؛ فقد عرفت عنه أشياء تعلَّمت منها الكثير، عرفت أنَّه لا مصدر للرِّزق لديه، وبرغم ذلك لا يأخذ أيَّ راتب مُقابل إمامته للمُصلين، وقد جهدوا ليجمعوا له راتبًا يكفيه وهو يأبى، وحين سألته عن سبب ذلك قال: تعلم يا سيدي أنَّ النَّاس لو دفعوا لك؛ فإنَّهم سيحاسبونك على كلِّ صغيرة وكبيرة، فلو تأخَّرت عن الصلاة يومًا لتجهَّموا وغضبوا، ولو أطلت بهم الصلاة لغضب بعضهم، وإذا قصرتها فسيغضب آخرون، وسيكون لهم آراء مُتنوعة في الدُّروس التي يجبُ أن تعطيَها لهم ولأولادهم، ولن يحسوا بالتفاعل مع أيِّ كلمة تلقيها أو درس تلقيه بين أيديهم، بل يحسون دائمًا أنك تفعل ذلك لأنهم يدفعون لك، وأنت تحاول إرضاءهم، أما والحال هذه فإني حين أقوم بإمامتهم في الصَّلاة؛ فإنَّهم يحسون بالامتنان، وعندما ألقي فيهم درسًا، فإنَّهم يصغون إليَّ باهتمام، ويحسون بأنِّي أريد لهم الخير، ولا شيء يجبرني على الحديث إليهم، قلت له: ولكن من أين ترتزق؟ قال الأمر سهل، وسأحدثك بما أفعله.

هنا في أمريكا إذا أراد إنسان ما أن يشتريَ شيئًا جديدًا لمنزله، باع القديم عن طريق مزاد يُقيمه في (كراج) بيته، فيجتمع الناس، ويقيم مزادًا على هاتفه القديم وتلفازه وكراسيه، فأذهب إلى هذه المزادات، وربَّما لا يكون فيها أحدٌ سواي، فأشتريها بثمن زهيد، ثُمَّ أصلحها إنْ كانت تحتاج إلى ذلك، وأنظفها إن كانت تحتاج إلى تنظيف، ويأتي الطلاب ويكون عندهم ما ينقصهم مِمَّا هو عندي، وأكتب إعلانات في الكلية: من يريد هاتفًا أو تلفازًا بقيمة كذا وبحالة جيدة، فعليه أن يتَّصل برقم كذا، وييسر الله من ذلك الرِّزق الكثير، والشيء نفسه أفعله عند نهاية العام بالسَّيارات، فعادةُ النَّاس تبيعُ سياراتِهم عند السَّفر، وهم يبيعونها كيفما اتفق لرغبتهم في السفر، وأقضي الإجازة في إصلاح ما اشتريت من سيَّارات، وفي بداية العام الدِّراسي ترتفع قيمة السيارات؛ بسبب إقبالِ الطُّلاب عليها وأبيعها، وييسر الله من ذلك رزقًا، وأنا أتقن الكثير من الأعمال العادية، فأضع هاتفي لمن يرغب في إصلاح شيء ما في منْزله، فيدعوني أحدُهم لتركيب ستارة لمنزله، وآخر لقصِّ نجيل حديقته، وييسر الله من ذلك رزقًا، ومُؤخرًا أصبحت أشتري بعضَ الأسهم وأبيعها، وقد اكتسبت من ذلك خبرة لا بأس بها في الأسهم؛ كما أن الجامعة توفر أحيانًا تشغيلاً للطُّلاب في بحث أو غير ذلك، وأتقاضى من ذلك من رزق الله ما يعينني، وقد اكتشفت بعد ذلك أنَّ كثيرين في أمريكا ممن لا رزْقَ لهم من الطُّلاب يكتسبون رزقهم بطُرُق مُتشابهة، لكن منهم من يتحرَّى الحلال، ومنهم من يستوي عنده الأمران.

وحين كنت في زيارة لسويسرا في الأسبوع الماضي، وجدت طالبًا صينيًّا يعمل في الفندق، فسألته عن الجالية الصينية في سويسرا، فأجاب بأنَّها نادرة، فقلت له: وماذا تعمل هنا؟ قال أنظف الغُرف، وأنا طالب جامعي في مرحلة الماجستير، مُتخصص في إدارة الأعمال، لا رِزْقَ لي إلاَّ من هذا العمل، آكل منه وأسدد رسومَ الدِّراسة، فذكرتني هذه الحادثة بتلك، وتعجَّبت من شاب لديه مثل هذه العزيمة، في حين أن هناك شبابًا كثيرين عندنا هم عالة على أهليهم!

هذا في إطار الأفراد، أمَّا في حالة الأمَّة فإنَّها مجموعة من إرادات أفراد أقوياء يصنعون مُستقبلاً قويًّا بلا اتكاليَّة أو مسكنات، وهؤلاء هم الذين يصنعون الأمم القويَّة، أمَّا الإرادات الضعيفة التي تعتمد على الآخر والإحسان والمعونات، فلا تصنع إلاَّ أمَمًا ضعيفة تابعة، فالأمم ما هي إلا تجمع إرادات أفرادها.