بسم الله الرحمن الرحيم
النية في التحقيق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي ونفسي والناس أجمعين أما بعد :
لكم أنتم معاشر طلبة العلم اليوم أكتب , و أنا لكم اليوم ناصح , فهل من صدر منشرح وقلب منفتح .
في جلسة من جلسات المعهد العلمية مع الدكتور أحمد فؤاد باشا , وبعد أن أطال الكلام و النصح في ضرورة اتباع المنهج العلمي في التحقيق لتراث الأمة المجيد , وضرورة إخراجه بثوب علمي رصين وأمانة دقيقة , وأن الأمر أمانة وغاية نبيلة و و و و , رفعت يدي طالبا المداخلة , فقلت له متسائلا:
دكتور لماذا نحقق ؟ ؟
سكتتُ برهة ثم أعدت السؤال : لماذا نحقق يادكتور هذا التراث ؟.
عجيب هذا السؤال !!! و الأعجب منه أن يأتي من طالب بمعهد المخطوطات وتحقيق التراث !! وهو في السنة الأخيرة من الدبلومة!! نظر إلي الدكتور متأملا , مدهوشا , من هذا السؤال. ثم سكتَ , فقد حار جوابا إذ لم يكن يتوقع السؤال.
فقلت له ولكم أقول : هب أن تراث الأمة من ألفه إلى يائه بأصنافه وأنواعه محقق مرصوص في مكتباتنا رفا تلو آخر, ثم ماذا ؟.
هب أن مخطوطات الأمة بأكملها موجودة مفهرسة مصونة , ثم ماذا ؟.
هب أن كل الأمة توجهت هذا المسلك من التحقيق والإشتغال بإخراج هذا التراث المدفون والذي نبكي عليه الأطلال يوما بعد يوم , ثم ماذا ؟ .
نعم , ثم ماذا ؟.
ألا ترى يا دكتور أن النية قد غابت في هذا الأمر الذي كان – سلفنا - بالأمس يتعبدون الله به تأليفا , وصرنا نحن اليوم نرائي به تحقيقا .
ولما غابت النية , غاب الفهم الذي به نوفق ونُسدد ثم نؤجر, وإلا ما تفسيرك لمتون علمية بسيطة كالأربعين النووية , التى غاية ما فيها من الجهد , التنقيب في كتب السنة المشهورة عن أربعين حديثا ورصها و ضبطها ثم إخراجها , فقط , فكان لها الخلود والبقاء من القرن السابع إلى يومنا هذا , عدا ما كان من اهتمام العلماء بها شرحا وتفسيرا وبيانا , وعن عمدة الأحكام أيضا فقس , وغيرها من المتون الصغيرة أو حتى الكبيرة التي فاح منها عطر الإخلاص , وتجلت نية مؤلفيها منها بوضوح .
غير أن الأمر في زماننا هذا قد زاغ وانحرف عن مساره على مستويين :
الأول : ممن هم من رواد التحقيق لأجل التراث المحض بالنظر إليه على أنه ثراث علمي بحت - وغالب هؤلاء هم أفراخ وأبناء العقل الإستشراقي في الوطن العربي - فأتوا بالعجائب , فرأينا منهم من يخرج تراث المعتزلة المدفون منذ قرون والذي أصبح في طيات النسيان , كما فعل أحدهم باليمن , فأخرجه وفهرسه وشهره , وليت المسكين علم أنه بفعلته هذه قد ضر وما نفع .
وآخر يخرج كتب السحر والشعوذة ليعلم الناس الكفر و سبل الغواية وهو يظن أنه يحسن صنعا , وغير ذلك من الطوام المبكيات .
ولا يغرنك الشيطان بمقولته المشهورة : وكيف نرد عليهم وعلى باطلهم , إن لم نخرج كتبهم , فسوف أجيبك أن الأصل اجتـثاث الباطل لا مداواته.
كما أن نوايا هؤلاء الناس قد بانت من أصلها, فهم الذين شعارهم جسدته هذه الكلمات التالية: " إن موضوع المخطوطات العربية موضوع حساس ودقيق لأنه متصل بتراث هذه الأمة وهو موضوع قومي متعلق بعلوم الأمة العربية إبان نهضتها وحضارتها".
أقول : قوله بتراث هذه الأمة , فسره بقوله : موضوع قومي , فالقوم يفرقون بين كونه عربي وكونه إسلامي , والأول يريدون.
وثانيا : على مستوى أهل الاستقامة والتدين , فيكفيك للتدليل على ذلك أن الأمر أصبح بالنسبة لهم "شهوة ". نعم , شهوة الجمع والتخزين أو قل الإخراج دونما أن يخرج هو بفائدة أو نكتة علمية يصحح بها منهجه ودينه وطريقه إلى ربه تعالى , ومن أدلة ذلك أيضا الطبعات تلو الطبعات للمؤلف الواحد , فتجد الكتاب الواحد يخرج بعشرات الإصدارات المتشابهة المتماثلة التى وجوه التفريق فيما بينها ضئيلة , إن لم نقل معدومة , وأقصى جهودهم فيها قولهم مع تخريجات الألباني أو تعليقات إبن باز عليهم رحمات الله المتتابعة .
كنت ولا زلت أقول أن أزمة الأمة في هذا الزمان هي أزمة فهم , نعم الفهم , أن تفهم ماذا يريد الله منك ورسوله صلى الله عليه وسلم .
كتب أحدهم في هذا الملتقى المبارك ما مفاده أنه بصدد تحقيق لمخطوط " رسالة في الحبس على التهمة " قصد تقديمه رسالة دكتوراه , الموجع في الأمر أنه فلسطيني المنبت , والأوجع منه أنه كتب طلبته هذه في هذه الأيام العصيبة التي تكالب فيها إخوان القردة والخنازير على أهله وعرضه هو, قبل أن يكونوا أهلي وعرضي أنا , فكتبت له ما نصه:
سلام عليكم أهل فلسطين
سبحان الله , تركتم الفاضل واتبعتم المفضول , أي تحقيق وأي دكتوراه .....من كان بالأمس يكتب لك - سلفك - لم يريدوا منك تحقيقا , بل أرادوا عملا وتوجيها . فلا تترك أبواب الجنة مفتوحة , وتلهث من وراء دكتوراه موهومة. سلام عليكم .
غير أنه لم يعقب , فقد حار هو أيضا جوابا إذ لم يكن يتوقع مثل هذه المداخلة , لتعلم أخي أن الأمر مهزلة بكل المقاييس , وأن الأمر جدير بأن يبكى لأجله.
أعود للدكتور ولكم :
ثم بعد هذا كله , ألا ترى أن معرض الكتاب في كل الوطن العربي , أقول كله و لا أستثني , أصبح بالنسبة للزوار فسحة , ونزهة , وموطن استراحة !! وغالب رواده بين مشتر لقصة أو رواية أو شعر , وما شابه من الأمور التي تُـبعد أكثر منها تُـقرب , وقد تضر أكثر منها تنفع إلا من رحم الله , وقليل ما هم . فلا ندري أنتهم نية المحققين ؟ أم سوء أدب المشترين ؟ ولكم في قصة مختصر خليل خير دليل[1] .
ختاما :
ليس تهوينا من شأن التحقيق بالجملة , فمعاذ الله أن نفعل ذلك , إنما الأمر وخزة في قلب كل من تجرأ على هذا الأمر , أن استيقظ و سدد نيتك واعلم أن الأمر لك أنت قبل أن يكون لغيرك , وأنك بصنيعك هذا فأنت تكثر حجج الله عليك فافهم أخي وتدبر.
ما دعوة أنفع يا صاحبي *** من دعوة الغائب للغائب
ناشدتك الرحمن يا قارئاً *** أن تسأل الغفران للكاتب
وكتبه الفقير إلى رحمة ربه
أبو بثينة الجزائري
القاهرة – مدينة نصر
[1]: قصته مشهورة , مفادها أنه رمى بمختصره في البئر لما أكمل تأليفه , ثم دعى الله عز وجل أنه إن كان هذا التأليف خالصا لوجهك الكريم فاكتب له القبول والحياة من جديد , فلصق المختصر بجذع شجرة كانت في البئر , ومرت السنون وأتى أحد أقاربه ليسقي من ذلك البئر فلما رمى بالدلو لصق المختصر به , فلما جلب الدلو إذا فيه المختصر, فكان أول من قام بشرحه, وتوالت عليه الشروح وأصبح عمدة عند السادة المالكية . فنسأل الله له الأجر العظيم.