الفائدة المقصودة من هذا المطلب بيان قِدَم شأن الاستدلال بالشبهة لمعارضة الحق بها ، وأنَّ المبتدعـة لهم سلف سوء في الغابرين ، بل كل ضال فله أئمة في الضلالة سابقين .
كما قال الله سبحانه وتعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّاً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربُّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } [ الأنعام: 112] .
وقال سبحانه وتعالى : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] .
وقال سبحانه وتعالى : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاَّ قالوا ساحر أو مجنون } [ الذاريات : 52 ] .
الخلاصة : وقد أحببت قبيل الشروع في ذا المطلب التنبيه إلى ضرورة إدراك التفريق المهم بين حالين مختلفين لمن يتعامل مع الشرع ونصوصه ؛ ذلك أنَّه ليس كل جدال أو بحث في الشرع أوالنصوص مذموم ألبته ، بل الأمر فيه تفصيل وتفريق .
فإنَّ سنَّة الاسترشاد عن مدلولات بعض النصوص سنَّة قديمة ، والجدال القائم لطلب بيان الحق .
أوإزالة الإشكالات الواردة في توهُّم تناقض أو تعارض بعض النصوص طريق من طرق الصالحين مسلوكة .
لذا فهذه ( أمثلة سريعة مقتضبة ) لكلا الحالين المختلفين ، وإشارة لمبدأ كليهما وتسلسله وتعاقب توارد الطائفتين عليه :
(1) : الحال الأولى : وهي ما يورده المبتدع ( مريض الشبهة ) من شبهات معترضة على الشرع ؛ بقصد الاعتراض ومحاولة التهويش على النصوص المحكمة بالمتشابه منها ، أو الاعتراض بالرأي والقياس ومحصَّل زبالة الأذهان ، أو بادِّعاء تناقض النصوص واضطرابها ونحو هذه المقاصد والمسالك ؛ وهذا هو الزيغ عن الطريق القويم ، واتباع المتشابه المذموم بقصد الفتنة ؛ وهذا كالكفار والجهميِّة والمعتزلة والفلاسفة والمتكلِّمين بأصنافهم ، والزنادقة المنافقين من الملحدين والرافضة وأشباههم ، وكل منحرف عن أصل هذا الدين وطريقة السلف الصالحين ، وهي مبثوثة في كتبهم المنحرفة ، كما سيأتي .
أمثـلـة للحـال الأولى :
1 ـ (( اعلم أنَّ أوّل شبهة وقعت في الخليقة هي شبهة إبـليس لعنه الله ، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص ، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم وهي الطين ؛ وذلك حين قال : { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ الأعراف : 12 ] ، ودعواه أنَّه خير من آدم ، وأنَّ النار خير من التراب دعوى كاذبة خاطئة .
وقد ردَّ شبهة إبليس اللعين وبيَّن بطلانها الإمام ابن القيِّم ؛ فانظره في : بدائع الفوائد (4/321) ومختصر الصواعق المرسلة (152-155) .
وانشعبت من هذه الشبهـة شبهاً عدَّة ، وسارت في الخليقة وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعةٍ وضلالة .
هذا وكلُّ من جادل نوحاً وهوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم فقد نسج على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته ؛ فاللعين الأول لما حكَّم العقل على من لا يُحْكم عليه بالعقل لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق ، أو حكم الخلق في الخالق ، والأول غلو ، والثاني تقصير .
وكما تقرَّر أن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك التي وقعت في أوَّل الزمان ، كذلك يمكننا أن نقرِّر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملَّة وشريعة : أنَّ شبهات أمته في آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوَّل زمانه من الكفَّار والملحدين وأكثرها من المنافقين .
وإن خفي ذلك علينا في الأمم السالفة لتمادي الزمان فلم يخف في هذه الأمة أنَّ شبهاته نشأت كلَّها من شبهات منافقي زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى ، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه ، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه .
والمنافقون يُخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وإنما يظهر نفاقهم بالاعتراض في كل وقت ، فصارت الاعتراضات كالبذور ، وظهرت منها الشبهات كالزروع )) انظر : الملل والنحل (1/23-29) !
2 ـ ومن الأمثلة : حكاية الله سبحانه وتعالى عن بعض أعداء الرسل في تكذيبهم الرسل بحجج واهية وبأدلةٍ ونظرةٍ مادِّية لا علاقة لها بصحَّة حجَّة الرسول ولا تصلح حجَّة لهم ، وإنما غاية ما فيها التشبيه والتلبيس على ضعاف العقول من الدهماء ، فتارةً يحتجُّون ببشريَّة الرسول ، وتارة بكون أتباعه من الضعفاء ، وتارةً بما عندهم من العلم ، أوكثرة المال والولد ، وتارةً بالمطالبة - تعنُّتاً وتعجيزاً - بالمعجزات ، وتارةً بتقليدهم ما عليه الأباء والرؤساء من الدين ، وبحجج باطلة كأمثال ما تقدَّم .
فمن ذلك ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح عليه الصلاة والسلام حين قالوا له : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ]، وقولهم كذلك : { ما نراك إلاَّ رجلاً مثلنا وما نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} .
فكان جواب نوح عليه الصلاة والسلام المفحم لهم : { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيِّنةٍ من ربِّي وآتاني رحمةً من عنده فعُمِّيت عليكم أنُلْزِمكُمُوْه ا وأنتم لها كارهون وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجريَ إلاَّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنَّهم ملاقوا ربِّهم ولكنِّي أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذّكَّرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين .
ولهذا كان جوابهم بعد نفاد حججهم الباطلة : { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنَّما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ... الآيات } [ هود : 27 - 32] .
وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن آخرين : { فقالوا أبشر منا واحد نتبعته إنا إذاً لفي ضلال وسعـر
ءأنزل عليه الذكـر من بيننا بل هوكـذَاب أشر } .
فكان الردُّ عليهم : { سيعلمون غداً من الكذَّاب الأشر } [ القمر : 24 - 26 ] .
واحتجَّ بعضهم فقالوا : { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين } فكان الردَّ بقوله : { قل إنَّ ربِّي يبسط الرزق لمن يشاء وقدر ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرِّبكم عندنا زلفى إلاَّ من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرُفات آمنون } [سبأ : 35-37] .
وكذا احتجاج مشركي مكة على النبي صلى الله عليه وسلم : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنَّةٌ من نخيل وعنب فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيِّك حتى تنزِّل علينا كتاباً نقرؤه } .
فردَّ عليهم بقوله : { قل سبحان ربِّي هل كنت إلاَّ بشراً رسولاً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى إلاَّ أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزَّلْنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء :90-95] .
3 - ومن الأمثلة : أنَّ بعض المشركين - وهو : عبدالله بن الزبعرى - حين سمع من الوليد قوله سبحانه وتعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنَّم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون } [ الأنبياء : 98 ـ 100 ] .
قال : أما والله لو وجدت محمداً لخصمته ؛ فسلوا محمداً : أكل ما نعبد من دون الله في جهنَّم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم كلُّ من أحبَّ أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته ، فأنزل الله قوله : { إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت انفسهم خالدون لايحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 101 ـ 103 ] .
فالمعنى : أنَّ عيسى ابن مريم وعزير ومَنْ عُبِدوا من دون الله من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتُّخذوا أربابـاً من دون الله مبعدون عن جهنم ودخولها .
قال ابن كثير رحمه الله : وهذا الذي أورده ابن الزبعرى خطأ كبير ؛ لأنَّ الآية إنما نزلت في أهل مكة في عبادتهم الأصنام ، التي هي جماد لا تعقل ، فكيف يُورَد على المسيح والعزير ونحوهما ، ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادته ، وعوَّل ابن جرير في الجواب : أنَّ ( ما ) لما لا يعقل عند العرب . انظر : تفسير ابن كثير ( 3/207 ) ، جامع البيان (9/91) ، القرطبي ( 11/227 ) ، زاد المسير (5/271 ) ، فتح القدير (3/613 ) .
وانظر كذلك أقوال المفسرين في سبب نزول قوله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون وقالوا ءألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً بل هم قوم خصمون } .
4 - ومن الأمثلة : مناظرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للملك الكافر ، حين حاجَّه في ادَّعاء ه الأُلوهية : { إذ قال إبراهيم ربِّي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [ البقرة : 258 ] .
ووجه الشبهة : أنَّ إبراهيم حين حاجَّه على إثبات ألوهية الله سبحانه وتعالى بكونه يحيي ويميت الناس ، عارضه الكافر بشبهةٍ باردةٍ فقال : { أنا أُحيي وأُميت } .
وذلك أنِّي أوتى برجلين قد استحقَّا القتل فآمر بقتل أحدهما فيُقتل وآمر بالعفو عن الآخر فلا يُقتل ، فذلك معنى الإحياء والإماتة عنده . ، انظر : جامع البيان ( 3/26) ، القرطبي ( 3/186 ) ، ابن كثير ( 1/321 ) ، فتح القدير ( 1/419 ) .
ومن المعلوم أنَّ في جوابه هذا تمويهٌ وتزوير وحيدةٌ عن المقصود ؛ فلما رآه الخليل مموِّهاً تمويهاً قد يروج على العوام قال له ملزماً بصدق قوله إن كان كما يزعم : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } وليس هذا من الخليل انتقالاً من دليل لآخر ، وإنما هو إلزام له بطرد دليله إن كان صادقاً ، وأتى بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه . تيسير الكريم الرحمن (1/206 ) .
وقيل : إنَّ هذا الكافر إنَّما أراد أن يدَّعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرةً ، ويوهم أنَّه الفاعل لذلك وأنه يحيي ويميت حقيقة ؛ فقال له إبراهيم ذلك لأن الذي يحيي ويميت هو الذي يتصرَّف في الوجود ومنه تسخير الكواكب والشمس التي تبدو كل يوم . تفسير ابن كثير ( 1/321 ) .
5 ـ ومن الأمثلة : قصَّة حمل بن النابغة الهذلي ، في معارضته الشرع بالرأي والكلام المسجوع المنمَّق ...
(2) : الحال الثانية : وهي ما قد يحصل من إشكال لدى بعض المعظِّمين للنصوص من الراسخين في العلم والإيمان ، مع كمال يقينهم بصدق الشرع وتسليمهم له .
وإنما ورد ذلكم الإشكال لقصد الفهم وإزالة اللبس والخلط ؛ وذلك كالمحاورة في بعض النصوص والاسترشاد عن مقصود الشرع فيها ، أو التوجيه والجمع بين ما قد يُضنُّ تعارضه وتناقضه - ظاهراً - لشيءٍ من النصـوص - وليس هوكـذلك في الحقيـقة - خـشيـة الغلط .
وهو ما يُسمَّى بـ( الإشكـال ) ، وهذا قـد يقـع في قلب أي مخلوق ؛ لضعفه بالنسبة للخالق العظيم المنزَّه عن كلِّ عيب ونقص ، ولقلَّة علمه وإدراكه لإنَّه مخلوق .
أمثلة للحال الثانية :
1 ـ (( أوَّل من سنَّ ذلك هم ( الملائكة ) عليهم الصلاة والسلام حين أراد الله أن يخلق آدم ويجعله في الأرض خليفة فقالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن سبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] .
ووجه كونه استرشاداً وليس معارضةً قولهم : ( ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك ) ، فهم يستفهمون مع تمام تقديسهم لربِّهم سبحانه وتعالى ، .
لذا قالوا بعد ذلك : { سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم } [البقرة : 32 ] فاعترفوا وسلَّموا بعظيم علمه سبحانه وتعالى وأنهم لا يعلمون إلاَّ ما علَّمهم إياه .
2 ـ ومن الأمثلة : قول نوح عليه الصلاة والسلام : { إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } ، ومما يدلُّ على عدم كون ذلك منه اعتراضاً قوله : ( وإنَّ وعدك الحق وأنت أرحم الرَّاحمين ) فأجابه الله بقوله : { إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ماليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ، ولهذا كان قوله صلى الله عليه وسلم مسلِّماً لربِّه سبحانه وتعالى غاية التسليم :{ رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تـغـفرلي وترحمني أكن من الخاسرين } [ هود : 45 ـ 47 ] .
ومن الأمثلة : (( أنَّ الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ويوردون استشكالاتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عنها ، وكانوا يسئلونه عن الجمع بين النصوص ويوردون عليه ما يوهم ظاهرها التعارض ؛ ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص ألبته )) مختصر الصواعق المرسلة (ص : 164- 168) .
وكانوا مسلِّمين ومتَّبعين لأمر نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، وما يوحى إليهم من ربِّهم سبحانه وتعالى ، وما عارضوه في شيء من أمره إلاَّ استغفروا وأنابوا وتابوا ، فمن ذلك :
3 ـ ومن الأمثلة : ما حصل عام الحديبية حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش (( فجاء سهيل بن عمرو – رضي الله عنه - فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، كما كنت تكتب .
فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب باسمك اللهم .
ثم قال : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله .
فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، أكتب محمد بن عبد الله .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به .
فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب .
فقال سهيل : وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا ، قال المسلمون : سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً .
فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين .
فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد .
قال : فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي .
قال : ما أنا بمجيزه لك .
قال : بلى فافعل .
قال : ما أنا بفاعل .
قال مكرز : بل قد أجزناه لك .
قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما قد لقيت ، وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله .
قال : فقال عمر بن الخطاب : فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟!!
قال : بلى !
قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟!!
قال : بلى !
قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟!!
قال : إني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولست أعصيه ، وهو ناصري .
قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟!
قال : بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟
قال : قلت : لا .
قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر : أليس هذا نبي الله حقاً ؟
قال بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟
قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟
قال : أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق .
قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟!!
قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟
قلت : لا .
قال : فإنك آتيه ومطوف به .
قال الزهري : - قال عمر : - فعملت لذلك أعمالاً .
قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا .
قال : فوالله ما قام منهم رجل ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس .
فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك .
فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه .
فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ... )) . صحيح البخاري ، الفتح ( 5/388 ـ 392 ) .