كاك (قصة قصيرة)


د. شريف عوض الدخميسي




(وجنات) امرأة طاعنةٌ في السن، نحيلة الجسم، ليست بالطويلة فارعة الطول، ولا بالقصيرة القزمة، ما تكاد تقع عيناك عليها إلا ويأتيك إحساسٌ أنها خارجة للتوِّ من معركةٍ حاميةِ الوطيس مع الزمن، تحسب أنها منتصرةٌ، ولكن لو أعدتَ البصر مرَّةً أخرى لرأيت ثمة تجاعيدَ ملأت وجهها، كأنها تفاصيلُ صغيرة كُتبت بلغةٍ مبهمةٍ لا تعرف فكَّ شفرتها إلا عينٌ مدربة، تفهم على الأرجح أنها خربشات من مخالب الأيام، أبَتْ إلا أن تترك بصمتها على وجهها الذي لوَّحته الشمس، وبعضَ تقوُّس خفيفٍ في ظهرها لا يكاد يُرى عندما تتكئ على عصا لا تفارق يدها، ونظارةً طبيةً تضعها على عينيها لا ترى جيدًا إلا بها، وكانت لها حظيرة كبيرة شغلت حيزًا ليس بالهين من حديقة منزلها، وبها دواجنُ كثيرة أنعم الله عليها بها وأفاض.



ولم تكُ تدري أن أمرًا ما يُدبَّر في خفاء الليل، ويُحاك في ظلمة الحظيرة، إن البطة (كاك) كانت تؤلب أبناء جنسها من بطٍّ ودجاج، وتدفعهم بكلِّ ما أُوتيت من قوَّةٍ دفعًا للتمرُّد، وكانت تتلو خُطبةً عصماء بكلماتٍ نارية تطرق بها آذان المجتمعين طرقًا يُشعل في صدورهم الحماسة:

أيها الجمع الكريم، أمَا آن لهذا الهوان من نهاية؟ إن (وجنات) طاغوت العصر؛ مقابل لقيماتٍ وشربة ماء تستولي على بيضنا ولحمنا، وتحبسنا في الحظيرة مع غروب الشمس! أيُّ عيشة هذه؟! إنَّا لا نعرف عن ليل الحظيرة إلا العتمة!... صمتت لوهلة... وأكملت مستنكرةً: أسمعتم أن هناك قمرًا يظهر في سماء الحديقة يحوِّل ليلها إلى نهار، وفيها أضواء... وأصوات؟ ورفَعت عينيها إلى أعلى، وتنهَّدت تنهيدةَ اشتياقٍ طويلة.



ثم قالت: أتعرفون؟!

فقاطعها الديك (منذر) بصوته الخشن الأجشِّ: الحمد لله على خير ننعم فيه، العيشة طيبة، وأمن أمان، الأكل كثير وفير، فهاجت البطة (كاك) وماجت، أنت تريد أن تَثنينا لأنك أنت الآمر الناهي، ومسيطر على الحظيرة، أنت لست سوى عميل مدسوس لـ(وجنات)؛ كي تشقَّ وحدة صفِّنا، وتفتِّت جمع كلمتنا.



فأخذ الديك (منذر) كلامها على سبيل الإهانة؛ فانسحب من الاجتماع مع مجموعةٍ من الدجاج والبط، فأردفت (كاك): هكذا أنتم يا كبار السن؛ لا تؤمنون بالتغيير، وأدمنتم العبودية، فيصعب عليكم تنشُّق نسمات الحرية، ما أنت إلا عبدٌ يحكم عبيدًا، قالتها بصوتٍ مدوٍّ؛ كي يسمعها بعد أن ابتعد خطوات، فما كان منه إلا أن رمقها بنظرةٍ فيها كثيرٌ من اللامبالاة، ولم يُظهر اكتراثًا بكلامها، وعاد ليكمل سيرَه، وكأنه قائد منسحب بجيشه.



ما إن سمع المجتمعون هذه الكلماتِ الحماسية من (كاك) إلا وتعالت الهتافات والصيحات والكاكات، وبعد أن هدأت قليلًا، انبرت الدجاجة (أم رقبة) وقد أخذتها الحماسةُ من وسط الجموع، وقالت بصوت مسموع: نكسر نظارة (وجنات)؛ نطير وننقرها بمناقيرنا، أو نجتمع كلنا على العصا التي تستند عليها فتقع، فأبدى بعضهم إعجابَهم بالفكرة.



ما إن سمعت (كاك) التي كانت مشغولةً في تنظيم أوراقٍ أمامها، حتى بدا عليها غضبٌ شديد، وقالت كأنها بركانٌ على وشك الانفجار لتلك الدجاجة (أم رقبة) بسلمية: المواجهة فيها هلاك؛ إن وجنات تملك أسلحةً أكثر وأكبر مما عندنا أو نعرفه.



فتعالت للمرَّة الثانية البطبطات والصيحات إعجابًا بحكمة (كاك)... وإن كان البعض يرى أن تكون البدايةُ من الغد، إلا أن (كاك) أقنعتهم أن الأمر يحتاج إلى ترتيب وإعدادٍ ووقت، فنزلوا على حُكمها، وائتمروا بأمرها، إلا الدجاجة (أم رقبة)؛ فقد طغت الفكرة على رأسها، وسيطرت على كلِّ كيانها، تداعب عقلَها، تؤرِّق جفنيها، أطالت ليلها، تراه أحلامًا في نومها، وترسمه صورًا في مخيلتها؛ هو القمر وليل الحديقة بأصواته وأضوائه.



عند غروب اليوم الثاني جاءت (وجنات) كعادتها لتحبس دواجنها في الحظائر، فتمَّ الأمر كالعادة، إلا أنها لم تك تعلم أن الدجاجة (أم رقبة) قد اختبأت منها خلف الشجرة الكبيرة، وغاصت برأسها وسط عشب أشعث غير مهذَّب في تلك المنطقة، وكانت دقَّات قلب (أم رقبة) تتلاحق خوفًا، وأطرافها تمتلئ رعبًا من أن تنتبه (وجنات) إلى غيابها وتعيدها إلى الحظيرة، إلا أن خوفها تبدَّد كليًّا عندما سمعت إغلاق باب الحظيرة، فرفعت رأسها قليلًا بحذرٍ بالغٍ، فإذا بـ(وجنات) قد ذهبت وغابت عن الأنظار.



بدت على (أم رقبة) فرحةٌ غامرة، وأخذت تصيح بأعلى صوتها، وتضرب بجناحيها في الهواء، وتقف على أطرافها كما تفعل راقصات البالية، تقفز وتضرب إحدى قدميها بالأخرى، وتحتضن ورودَ الحديقة، تضرب العشب بجناحيها تارةً وبقدميها تارةً أخرى، وترى بعض عشبٍ يتطاير في الهواء، ويُكوِّن أشكالًا دائريةً وعشوائيةً؛ كأنه ألعاب نارية للاحتفال بالحرية.



تعبت الدجاجة (أم رقبة) أيما تعبٍ من الجري والقفز واللهو، جلست بجوار الشجرة الكبيرة، وهي لا تصدِّق نفسها قابضةً على السعادة، وضحكتها تخرج من أعماقها وكأنها لامست حافةَ الأمنيات، وأغمضت عينيها كما طفل يلهو ويلعب حتى يدركه تعبٌ؛ فيرمي نفسه على فِراشه وينام نومًا هادئًا، هي أنستْ إلى عُشب لتنام، ولكن ضوء القمر ضايقها بشدَّة؛ فقامت إلى العشب الأشعث علَّه يخفف بعضًا من الضوء؛ كي تنام، إلا أنها كلما داعب أجفانَها نعاسٌ تأتى أصواتٌ من أبواق السيارات فتنتفض من نومها، وهكذا الحال تصارع أبواق السيارات حتى غلبها النوم.



وبعد منتصف الليل وقد هدأت حركة السيارات وأبواقها، بدأت تغُطُّ في نومٍ عميق، وما هي إلا لحظات قليلة، حتى فزعت مستيقظةً على اهتزازٍ شديد للعشب مِن حولها في حركة غريبة، فما إن أدارت رأسها وحرَّكت عينيها رأته...رأته على مسافة منها، ولم يكن قد انتبه إليها حتى الآن.



وظلَّت تتمتم وتسأل نفسها: هل هذا حُلم أم حقيقة؟! إنه حلم بكلِّ تأكيد، هي قالت مطَمْئنةً نفسَها، وراحت تفرُك عينيها بجناحها الذي تدثر به وجهها، وما إن أنزلته...رأته ففزعت، نعم، إنهما عيناه اللامعتان، عنقه الطويل، جسده النحيل، وأقدامه القصيرة، إنه ابن عرس (الموت)، تيبَّست في مكانها، ولم تستطع أن تُحرِّك أطرافها، لعل الرعب أصابها بشلل مؤقَّت.



لم تمض سوى لحظات قليلة إلا وطارت مسرعةً عند نافذة الحظيرة، وصاحت على أصدقائها بكلِّ ما أوتيت من قوَّة، مما جعل صراخها وصياحها يوقظ كلَّ دواجن الحظيرة، وأخذت هي الأخرى تصيح وتضرب بمناقيرها وتطرق بأجنحتها، دون أن تدري سببًا معلومًا، أو خَطْبًا محدَّدًا، ولكن إحساسًا مبهمًا راودهم أن (أم رقبة) بين براثن خطر شديدٍ، جعلها تفزع إليهم، وتستغيث بهم.



أثارت دواجن الحظيرة جلبةً كبيرةً، وحينها تنبَّه ابن عرس إلى (أم رقبة)، وأخذ يركض بسرعته القُصوى ناحيتها، وهي قد أطلقت ساقيها للريح، إلا أن جوع بطنه كان باعثَه على اللحاق بها، وهي حب الحياة والهرب من الموت كان دافعها الأكبر.



دواجن الحظيرة مستمرة في صياحها، وكانت (أم رقبة) التي لم تنم جيدًا في هذه الليلة خائرةَ القوى، وبدا لها أن محاولات هروبِها منه قد باءت بالفشل، ما كان منه إلا أن تحرَّك ذهابًا وإيابًا وقفزًا كأنها طقوسُ صيد؛ حتى تمكَّن من إحدى جناحيها، وتفلَّتت هي منه بصعوبةٍ بالغة، فكُسر جناحُها، وأضحى هو قريبًا من الفوز باقتناصها، فظلَّ بحركاته السريعة غير محدَّدة الاتجاه يشتِّتها ويضيِّق عليها الخناق، ثم قفز عليها بأسنانه المشرعة نحو رقبتها، وقبض عليها عضًّا بشدَّة، وجفونها مسدلة على عينيها في إغفاءة الموت، لسانها يثقل شيئًا فشيئًا، وتتمتم بصعوبةٍ بالغة، وفي هذه اللحظة الفارقة جاءت (وجنات) بعصاها وضربت ابن عرس ضربةً أفقدته توازنَه، ففرَّ ولم يعقِّب.



بغضب أمسكت (وجنات) الدجاجة (أم رقبة) المستسلمة التي لم تحرِّك ساكنًا، وقد أصابها ذهولٌ مما مرَّت به؛ فهي كانت ميتةً، أو أوشكت، وقد اعتقدت أنها طارت، ظلَّت تتمتم بلغةٍ لم تفهم (أم رقبة) منها شيئًا، وأثناء تلك التمتمة أخذت تنتف ريشها ريشةً تلو الأخرى، ومع هذا العذاب الشديد كانت صيحاتُها خافتةً مكتومةً متحمِّلة الألم، وكان الأكثر إيلامًا أن وضعت نفسها في موقف الذُّلِّ، وكل ما يشغل تفكيرَها شكلُها أمام أترابها بعد فشل مغامرتها وهي الثورية، الجسور، الحالمة في مخيلتهم، صارت اليوم الفاشلةَ، منتوفة الريش، مهيضة الجناح، جريحة الرقبة.



وفتحت (وجنات) الحظيرة، وألقت (أم رقبة)، والتفَّت حولها كلُّ الدواجن، وكلٌّ بكلمةٍ، منهم مَن أظهر الشماتة، ومنهم من أبدى تعاطفًا، وجميعهم يريد أن يعرف تفاصيل ما حدث، ولم تكُ (أم رقبة) في حالة تسمح لها بالوقوف فضلًا عن الكلام؛ فانطلقت (كاك) وأخذتها تحت جناحها، وأطلقت صرخةً وقالت: ابتعدوا عنها؛ كفاها ما قد كان، فاستجابت الدواجن، وانفرجت دائرةُ المتفرِّجين التي كانت متكالبةً عليها إلى صفين متقابلين، سارت بينهما (كاك) وتحت جناحها (أم رقبة) وهي تجر أذيال الخيبة، وقد جفَّ دمُها على جسدها، ودمعة حبيسة في مآقيها تصرُّ على النزول، إلا أن كبرياءها حالت دون أن تبدي تأوُّهًا أو تذرف دمعًا، في موكب جنائزيٍّ حزينٍ مهيب.



ثم سمع الجميع صرخة تحذير مدويةً، فالتفت الكلُّ ناحيةَ مصدر الصوت؛ فإذا به الديك (منذر) يقول في لهجةٍ آمرةٍ: الكل إلى مكانه، وكأن الكلمات أصابت الأرجل أولًا قبل الآذان، فإذا باستجابة سريعةٍ، ذهب الجميع إلى أماكنهم، وفناء الحظيرة أصبح خاليًا تمامًا.



فنزل (منذر) من عليائه يمشى متبخترًا، كملِك متوَّج، مزهوًّا بنفسه، يتجه مباشرةً إلى (كاك)، وأخذ يكيل لها الاتهامات، وأنهى كلامه وهو يشير إلى (أم رقبة): هذا حصاد أفكارك الضالة التي ألقيتِ ببذورها في رؤوسهن، يا ليت ما حدث لها كان لكِ نصيبٌ فيه؛ فأنت مصدرُ المشاكل كلِّها، ثم ضرب وعاء الماء بقدمه، فإذا بالماء يبلِّل ريش (كاك)، ويُظهره منكمشًا، فعَلَها عمدًا؛ ليُذهب عنها أيَّ مهابة ومكانة في صدور دواجن الحظيرة، ولم تُحرِّك (كاك) ساكنًا، وظلَّت صامتةً.



فإذا بهتافات تأتى من آخِر الحظيرة: (يعيش الديك منذر يـ.. يـ.. يعيش)، (نحن متأسفون يا منذر) (أنت حكيم يا منذر)، وظلَّت الهتافات تزداد كأنها عدوى تفشَّت، وتحوَّلت الهتافات إلى مظاهراتٍ تنمو تدريجيًّا حتى اجتاحت الحظيرةَ كلَّها، ورُفع (منذر) على الأعناق، وظلَّت الهتافات والمظاهرات تطوف كلَّ جنبات الحظيرة.



كانت (كاك) ساكنةً هادئةً تفكِّر فيما يحدث حولها، فإذا بالبطة (سمرة) أغرتها المظاهرات، فقامت مِن على بيضها الذي ترقد عليه، وانضمَّت إلى مظاهرةٍ مرَّت بها، فرمقتها (كاك) بنظرةِ الإشفاق، وأعادت نظرها إلى البيض، فإذا بواحدةٍ منها تتحرَّك، نعم إنها تتحرَّك.



ارتسمت الابتسامة على وجه (كاك) وهي ترى حركةً في البيضة تزداد رويدًا رويدًا، وبدا على قشرتها شرخٌ ما لبث أن تحوَّل إلى كسرٍ صغير، فظلَّ يكبر تدريجيًّا، وتسمع (صو... صو)، وجدار البيضة يضعف، والصوت يزيد، حتى انقسمت البيضة إلى نصفين، وخرج فرخ البط الصغير على ظهره، فأصبح نصفه الأعلى في الخارج وباقي نصفه الأسفل في الجزء المكسور من البيضة، فظلَّ يدفع بنفسه دفعًا فيه مجاهدة شديدة خارج البيضة تعلو معها بوتيرة متسرعة (صو... صو) حتى تخلَّص منها بالكلية.



بدأ في محاولة الوقوف يتعثَّر إلى أن استمرَّ كثيرًا في محاولاته إلى أن نجح واستطاع الوقوف، فعلها، نعم، وقف على قدميه ومشى يقع ثم يعاود الكَرَّة، فيقف ثم يمشى ويقع، وما زال يحاول إلى أن انتظمت مشيتُه.



هنا أحيا هذا الفرخ الصغير أملًا كبيرًا داخل (كاك)، وطرد ما تلبَّس بقلبها من انكسار، وكأنه نثر آي الأمل على كلِّ منابت اليأس بداخلها، وكان لسان حالها يقول: لعله كما كسر البيضة يكسر حاجز خوفه، كما تعرف على أطرافه يتعرَّف على قدراتها، وكما حاول الوقوف والمشي علَّه يكون مشيه يومًا للحرية...