قراءة نقدية حول كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة"
د. زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن قراءةَ التاريخ تضيفُ أعمارًا إلى عمر الإنسان، وذلك بتتبعه للتجارب التاريخية التي قام بها الإنسان، والوقوف على ما بها من دروس وعِبَر؛ فإن الاطلاع على أحوال السابقين ودولهم وأيامهم، وملوكهم؛ يوسِّع الآفاق الفكرية والثقافية للإنسان، ويُساعده على فهم السنن الكونية، وكيف ترتقي الأمم، وكيف تنهار ثم تزول.
فالتاريخ هو النبراس والذاكرة التي يطلِّع الإنسان مِن خلالها على الأحوال والحوادث والوقائع، وما صاحبها مِن متغيراتٍ ومجرياتٍ، والتاريخ فيه استلهام للمستقبل على ضوء السنن الربانية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا مِن الخلق بحالٍ.
ودراسة التاريخ ركن أساسي لبناء أمةٍ قويةٍ، لا كما يظن البعض أنها دراسة تكميلية، ولعل مِن المسلَّم به لَدى الباحثين في التاريخ: أن التاريخ الإنساني لا يعرف أمة على مرِّ العصور دَوَّنت تاريخها بكل حسناته وسيئاته كأمة الإسلام، فلم يحاول المؤرخون أن يتستروا على سيئات تاريخهم، بل نَقلوا الأحداث بكل أمانةٍ؛ فليس في تاريخنا ما نخجل منه، حتى ما وقع مِن أحداثٍ مؤلمةٍ، فلا تخلو دراستها مِن فائدةٍ.
ولقد مرَّت الأمة منذ أواخر عصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بمحنٍ شديدةٍ عاتيةٍ، وفتنٍ متتابعةٍ ومتنوعةٍ؛ وذلك منذ خرج الهمج الرعاع على أمير المؤمنين عثمان وقتلوه، ثم ما حدث بين الصحابة مِن قتالٍ في موقعتي: الجمل وصفين([1]).
ولو مرَّت أي أمة مِن الأمم بما مَرَّت به أمة الإسلام مِن أحداثٍ وتوتراتٍ، وفتنٍ وحروبٍ وقلائل؛ لذهبت ريحها، ولغابت شمسها، ولكن نظرًا لقوة ومتانة البنيان الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، استطاعت الأمة رغم ضراوة الصراع وقسوة الأحداث، أن تحافِظَ على بقائها وبنائها، وكيانها وقوتها.
هذا وتُعد الفتنة التي أدَّت إلى استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من أكبر المعوقات التي أصابت الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث أدَّى استشهاد عثمان رضي الله عنه إلى توقف حركة الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنةٍ كادتْ تعصف بالأمة الإسلامية؛ لولا أن تداركتها رحمة الله بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهم، ومن هنا عادت الأمة لاستئناف رسالتها ومسيرتها مرة أخرى.
وقد تناولتْ العديدُ مِن المؤلَّفات هذه الفترة بالتأليف والدراسة، ومنها هذا الكتاب الذي سنتعرض له في هذا المقال بحولٍ مِن الله وقوته.
أولًا: بيانات الكتاب:
– عنوان الكتاب: “الخلافات السياسية بين الصحابة – رسالة في مكانة الأشخاص وقُدسية المبادئ”.
– اسم المؤلف: هو الكاتب والمحلل السياسي الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي، محرر مجلة الفقه السياسي.
– دار الطباعة: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
– رقم الطبعة: الطعبة الأولى عام 2013م.
– حجم الكتاب: 294 صفحة.
ثانيًا: عرض إجمالي للكتاب:
ذكر مؤلف كتاب: “الخلافات السِّياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم”، جملةً من القواعد التي نتَّفق معه في بعضها، عِلْمًا بأنه قد ذَكَر في مَدْخَل كتابه: أنه استمد واستلهم تلك القواعد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث إنه تتبع تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهجه في كتابيه: “منهاج السنة”، و”مجموع الفتاوى”.
وقد جاءت القواعد على النحو الآتي:
القاعدة الأولى: التثبُّت في النَّقل والرِّواية.
القاعدة الثَّانية: استصحاب فضل الأصحاب.
القاعدة الثَّالثة: التَّمييز بين الذَّنب المغفور والسَّعي المشكور.
القاعدة الرَّابعة: التَّمييز بين المنهج التأصيليِّ والمنهج التاريخيِّ.
القاعدة الخامسة: الاعتراف بحدود الكمال البشريِّ.
القاعدة السَّادسة: الإقرار بثِقل الموروث الجاهليِّ.
القاعدة السَّابعة: اجتماع الأمانة والقوَّة في الناس قليل.
القاعدة الثَّامنة: الأخذ بالنِّسبية الزَّمانيَّة.
القاعدة التَّاسعة: عدم الخَلط بين المشاعر والوقائع.
القاعدة العاشرة: الابتعاد عن اللَّعن والسبِّ.
القاعدة الحادية عشرة: الابتعاد عن التَّكفير وعن الاتِّهام بالنِّفاق.
القاعدة الثَّانية عشرة: التحرُّر من الجدل وردود الأفعال.
القاعدة الثَّالثة عشرة: إدراك الطَّبيعة المركَّبة للفتن السِّياسيَّة.
القاعدة الرَّابعة عشرة: الترَّكيز على العوامل الداخليَّة.
القاعدة الخامسة عشرة: اجتناب الصِّياغة الاعتقاديَّة للخلافات الفرعيَّة.
القاعدة السَّادسة عشرة: الابتعاد عن منهج التَّهويل والتَّعميم.
القاعدة السَّابعة عشرة: التَّمييز بين السَّابقين وغير السَّابقين.
القاعدة الثَّامنة عشرة: اجتناب التكلُّف في التأوُّل والتأويل.
القاعدة التَّاسعة عشرة: التَّدقيق في المفاهيم والمصطلحات.
القاعدة العشرون: التَّمييز بين الخطأ والخَطيئة، وبين القصور والتَّقصير.
القاعدة الواحدة والعشرون: التَّمييز بين الخِطاب الشَّرعي والخطاب القدَري.
القاعدة الثَّانية والعشرون: الحُكم بالظواهر والله يتولَّى السرائر.
ثم أتبع المؤلف ذلك بفصلٍ تَحَدَّث فيه عن ملاحظاته على منهج ابن تيميَّة، وآخر للحوارات مع مَن سمَّاهم: مدرسة (التشيُّع السُّني).
وقد اعتبر المؤلف كتابه بمثابة رسالة في الفقه السياسي، دعا فيها إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمنهج جديد يمنح قُدسية المبادئ رجحانًا على مكانة الأشخاص، ويقترح المؤلف اثنتين وعشرين قاعدة للتعاطي مع الخلافات السياسية بين الصحابة من خلال مدرسة أهل الحديث وأفكار ابن تيمية ومنهجه.
ثالثًا: التقييم الإجمالي للكتاب:
بعد اطلاعي على هذا الكتاب وقراءتي له، ورغم أنني أتفق مع المؤلف في بعض القواعد التي ذكرها إجمالًا؛ إلا أنني وقفتُ على بعض الإخفاقات العلمية، والأخطاء المنهجية، وهي تحتاج إلى نقدٍ علميٍ منصفٍ، والتي منها:
– أن المؤلف لم يتقيد أثناء تناوله للأحداث وتحليلها بمنهج ابن تيمية وأهل الحديث كما ذكر -وهذا ما سنوضحه بمشيئة الله تعالى-.
– كما أنه لم يتقيَّد بمنهج أهل السنة أثناء تناوله لأحداث الفتنة، فأهل السنة قد اتفقت كلمتهم على الكف عما دار بين الصحابة الأخيار من اقتتال، وعدم ذكر مساويهم؛ إلا لما فيه مصلحة، وقد استقر هذا المنهج عبر القرون المتتالية، لكننا نرى أن المؤلف لم يتقيَّد بهذا القيد، ولم ينضبط بهذا الضابط، بل تكلَّف في التأويلات والتحليلات، حتى حكم على بعض الصحابة بأحكام جانبه فيها الصواب؛ ولذا أتى بنتائج نتحفظ عليها -كما سنوضح في البحث-.
– ثم نراه قد وقع في تناقض ملحوظ بين منهجه التنظيري عبر القواعد التي ذكرها، وبين تطبيقه العملي لما ذكره من قواعد -كما سنبيِّن ذلك بأمثلة بمشيئة الله تعالى-.
وأود أن أُشير إلى أنه يجب التفريق بين النقد والتجريح، فالبون بينهما شاسع، حيث إن النقد البنَّاء يعني تقييم العمل وتصحيحه بطريقة منهجية؛ لاسيما وأن الحس النقدي لابد أن يُبنى على العلم والمعرفة.
رابعًا: نقد الكتاب:
سيكون هذا النقد من خلال عِدَّة وقفاتٍ، كالآتي:
الوقفة الأولى:
قال المؤلف في (ص 53) ما نصه: “وما أحوج المتكلفين في التأويل لهؤلاء إلى تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر الذي أوردناه في القاعدة السابعة عشرة من هذا الكتاب: “وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”([2])، فهل يصلح فيمن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم يدعونه إلى النار أن يكونوا مجتهدين مأجورين؟! ألا ما أرخص الاجتهاد إذًا؟!
أقول وبالله التوفيق:
لقد أخطأ المؤلف هنا وجانبه الصواب، حيث أنكر على علماء المسلمين الذين قالوا بأن معاوية رضي الله عنه ومَن معه قد اجتهدوا فأخطأوا، فلهم أجر الاجتهاد، وقد بَنَى المؤلف إنكاره على حديث: “وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”، ولم ينتبه المؤلف إلى المعنى المقصود من منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك قد خالف جماهير أهل العلم في هذه المسألة.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في صدد عرضه لعقيدة أهل السُّنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: “إنَّ هَذِهِ الْآثَار الْمَرْوِيَّةَ فِي مساويهم مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحِ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ؛ إمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إنْ صَدَرَ، حَتَّى إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ”([3]).
وقال ابن كثير رحمه الله: “أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع مِن غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهادٍ كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران اثنان، وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين”([4]).
وقال ابن حجر رحمه الله: “وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ عرف المُحِقَّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ، وَقَدْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَأَنَّ الْمُصِيبَ يُؤْجَرُ أَجْرَيْنِ”([5]).
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَأَبُو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمتُ عليه وَجَلَسْتُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ أُتي بَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَأُدْخِلَا بَيْتًا وَأُجِيفَ الْبَابُ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: قُضِيَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَقُولُ: غُفِرَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ”([6]).
وقال ابن تيمية رحمه عن معاوية رضي الله عنه: “ولم يكن معاوية ممَّن يختار الحرب ابتداءً، بل كان مِن أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال”([7]).
قلتُ: ولعل ما استند إليه المؤلف في قوله المذكور، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم عن عمار رضي الله عنه: “يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”، فقد اختلط الأمر على المؤلف واستعصى عليه الجمع بين: “يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ” وبين “إنه مجتهد مأجور”، وهذا ما ذكره المؤلف بالفعل في قوله: “فهل يصلح فيمَن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم يدعونه إلى النار أن يكونوا مجتهدين مأجورين؟! ألا ما أرخص الاجتهاد إذًا؟!”.
ولعل مِن الضروري هنا أن نبيِّن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: “يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”، فالمراد بالدعاء إلى الجنة في هذا الحديث: الدعاء إلى سببها، وهو طاعة أمير المؤمنين، والمراد بالدعاء إلى النار: الدعاء إلى سببها، وهو مشاقة أمير المؤمنين والخروج عليه، لكن مَن فعل ذلك باجتهادٍ وتأويلٍ سائغٍ؛ فهو معذور بلا شك -كما أوضحنا-.
قال ابن كثير رحمه الله: “وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ: فَإِنَّ عَمَّارًا وَأَصْحَابَهُ يَدْعُونَ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا بِالْأَمْرِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَوْزَاعًا عَلَى كُلِّ قُطْرٍ إِمَامٌ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ لَازِمُ مَذْهَبِهِمْ وَنَاشِئٌ عَنْ مَسْلَكِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْصِدُونَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ”([8]).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “فَإِنْ قِيلَ: كَانَ قَتْلُهُ بِصِفِّينَ وَهُوَ مَعَ عَلِيٍّ، وَالَّذِينَ قَتَلُوهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ ظُنُونِهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ: الدُّعَاءُ إِلَى سَبَبِهَا وَهُوَ طَاعَةُ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْوَاجِبُ الطَّاعَةُ إِذْ ذَاكَ، وَكَانُوا هُمْ يَدْعُونَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ معذورون للتأويل الَّذِي ظهر لَهُم”([9]).
وفي الحديث عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْن ِ بِالْحَقِّ”([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلتا الطائفتين المقتتلتين -علي وأصحابه، ومعاوية وأصحابه- على حقٍّ، وأن عليًّا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه”([11]).
وأود أن أشير إلى أنه كان يوجد في صفوف الفريقين مَن يقوم بإشعال نار الفتنة؛ فلا يلزم أن يكون المقصود بذلك شخص معاوية رضي الله عنه، بل المقصود مَن يدعو إلى الفتنة ويؤجج نارها مِن الأتباع.
وأود أن أنبِّه المؤلف إلى مسألة مهمة؛ ألا وهي: قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في مسألة القتل الخطأ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ”([12]).
وهنا عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ ولذا تبرأ مِن فعله ولم يتبرأ منه، حيث إنه لم يتعمد قتل هؤلاء بعد أن أسلموا، وإنما اجتهد فأخطأ؛ فهو معذور، حيث إنهم لم يحسنوا قول: “أسلمنا”، وقالوا: “صبأنا”، فلم يفهم منها خالد أنهم أسلموا؛ ولذا عذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح هذا الفعل في كون خالد رضي الله عنه سيفًا مِن سيوف الله.
وفي هذا الصدد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وَمَعَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْزِلْ خَالِدًا عَنِ الْإِمَارَةِ، بَلْ مَا زَالَ يُؤَمِّرُهُ وَيُقَدِّمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ إِذَا جَرَى مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ ذَنْبٌ، أُمِرَ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ، وَأُقِرَّ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ خَالِدٌ مُعَانِدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفِقْهِ وَالدِّينِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ، فَخَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ”([13]).
قلتُ: وهكذا يجب أن نتناول مثل هذه القضايا على هذا النحو، بفهم شمولي لا تبعيضي، ولا شك أن هذا يساعدنا على الارتقاء في مدارج الفكر، وذلك بلا شك بعد الاستقراء الدقيق للواقع.
وأخيرًا: يجب علينا كذلك أن نترضى على الطرف الثالث الذى اعتزل الفتنة: كسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهما.
الوقفة الثانية:
لقد ذكر المؤلف في (ص 97) خلال حديثه حول القاعدة الرابعة ما نصه: “إن الخلاف الذي دار حول تقييم العديد من مواقف الصحابة وأشخاصهم، كان مرده إلى عدم التمييز بين منهج التأصيل ومنهج التاريخ”.
ولا شك أن المؤلف قد أخطأ في هذا الموطن، حيث جعل مرد الخلاف هو عدم التفريق بين منهجين حديثيين، ومن المعلوم أن المصطلحات المتباينة أو المترادفة للمناهج الحديثة، مثل: المنهج التأصيلي أو التجريببي أو الإستقرائي أو التحليلي أو الاستنباطي، وغيرها من المُسمَّيَات والمصطلحات، ليست هي النقطة الفاصلة في هذه المسألة، حيث إن التاريخ لا يُعد أحد العلوم التجريبية، بل ثمة فرق بينه وبينها؛ فإن التاريخ بمعناه العام أو الخاص لا يدرس سوى الماضي، أما العلوم التجريبية؛ فهي تدرس الظواهر الراهنة، هذا مع إقرارنا بحتمية تحليل الأحداث التاريخية.
وأما عن حقيقة الخلاف الذي وقع حول تقييم مواقف الصحابة رضي الله عنهم، فمرده يعود إلى عدم معرفة البعض بقدر الصحابة وتميُز أهل القرون الأولى، فإن كلمة أهل السنة قد اتفقت على الكف عما دار بين الصحابة الأخيار من اقتتال، وعدم ذكر مساويهم؛ إلا لما فيه مصلحة، وقد استقر هذا المنهج عبر القرون المتتالية، ولم يخالف في ذلك إلا أصحاب الأهواء والمناهج المنحرفة، وقد ذكرنا آنفًا أقوال أهل العلم في ذلك، وأن ما وقع بين الصحابة كان باجتهادٍ؛ للمصيب فيه أجران، وللمخطئ أجر، وكلهم كان مريدًا للحق والخير.
الوقفة الثالثة:
لقد ادَّعى المؤلف أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قد تأخر عن بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه كان يريد الإمرة لنفسه، بل وقد نسب المؤلف هذا القول لشيخ الإسلام حيث يقول (ص 100): “لقد بيَّن ابن تيميَّة جوانب الضَّعْف البشري هذه لدى العديد من الأكابر؛ فهو يُعلِّل امتناع عليِّ بن أبي طالب من بيعة الصِّدِّيق في الشُّهور الستَّة الأولى من خِلافته بأنَّ عليًّا كان يريد الإمْرةَ لنفسه”، وقد قام المؤلف بتكرار زعمه هذا في عدة مواطن بالكتاب.
قلتُ: وبعد التتبع الدقيق لكلام شيخ الإسلام رحمه الله، لم نجد لهذا الزعم أثرًا في كلامه، وقد توهم المؤلف هذا الكلام؛ فلقد وردت عبارة: “كان يُريد الإمرة لنفسه” وذلك في سياق كلام شيخ الإسلام عن تخلُّف بيعة سعد بن عُبادة رضي الله عنه، وليس علي بن أبي طالب كما زعم المؤلف!
وهاك نص كلام شيخ الإسلام من كتاب منهاج السنة: “ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَايَعُوهُ وَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ، وَالَّذِينَ بَايَعُوهُ هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ إِلَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَمَّا عَلِيٌّ وَسَائِرُ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ، لَكِنْ تَخَلُّفَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ الْإِمْرَةَ لِنَفْسِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ”.
فالضَّمير هنا عائد على سعد ابن عُبادة بلا ريب؛ فإنَّه الذي ذكر تخلُّفه، وهو يُعلِّل سبب تخلُّفه هذا.
ويوضِّحه أكثر قول شيخ الإسلام: “وأمَّا أبو بكر فتخلَّف عن بيعته سعد؛ لأنَّهم كانوا قد عيَّنوه للإمارة، فبقِي في نفسه ما يبقَى في نفوس البشر”([14]).
قلتُ: ولو أن المؤلف تتبع روايات اجتماع سقيفة بني ساعدة وما تبعها في كتب السنة؛ لعلم أن زعمه باطل، وأن غاية ما في الأمر أن عليًّا رضي الله عنه كان يرى أنه ينبغي أن يُستشار في هذا الأمر، فلم يكن علي رضي الله عنه يرى وجوب أن تكون الخلافة في آل البيت، ولا تأخر عن مبايعة أبي بكر الصديق لهذا السبب، بل يقر بفضله وأنه الأحق بالخلافة، ويؤيد ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بيعة علي، وفيها: “فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا” -أي: مِن الشورى- ويتضح بما لا يدع مجالًا للشك مِن قول علي بن أبي طالب: “إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ”؛ أنه لم يطلب الخلافة، ولم تَتق نفسه إليها.
ثم إنه قد وَرَد أن عليًّا رضي الله عنه قد بايع الصديق يوم السقيفة، أو في اليوم الثاني مِن اجتماع سقيفة بني ساعدة، وهذه الرواية أوردها الحافظ أبو بكر البيهقي، وقد أورد ابن كثير رحمه الله البيعتين، وقال بعد ذكر البيعة الثانية: “فهذه البيعة التي وقعت مِن علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه، بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، بيعة مؤكِّدة للصلح الذي وقع بينهما، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أولًا يوم السقيفة، كما رواه ابن خزيمة وصححه مسلم بن الحجاج، ولم يكن علي مجانبًا لأبي بكر هذه الستة الأشهر، بل كان يصلي وراءه ويحضر عنده للمشورة”([15]).
قلت: ولو طعن البعض في مسألة البيعة الأولى لعلي بن أبي طالب، وسلك مسلك الترجيح على مسلك الجمع بين الروايات، ففي نهاية الأمر قد بايع علي الصديق، وبذلك انتفت كل شبهة، ولا يوجد دليل على طمع علي بن أبي طالب في منصب الخلافة، كما زعم المؤلف.
يتبع