تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 9 من 23 الأولىالأولى 12345678910111213141516171819 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 161 إلى 180 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #161
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 857 الى صـ 862
    الحلقة (161)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 61 ] فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين

    فمن حاجك أي : جادلك من النصارى بإيراد حجة : فيه أي : في شأن عيسى ، زعما منهم أنه ليس على الشأن المتلو : من بعد ما جاءك من العلم أي : الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال : الحق أي : الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء : من ربك الذي رباك بالإطلاع على الحقائق : فلا تكن من الممترين بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله ، فإنه إطلاق مجازي ؛ لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام : فمن حاجك أي : جادلك : فيه لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل : من بعد ما جاءك من العلم القطعي الموجب لتأويله فقل لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة : تعالوا أي : أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول [ ص: 857 ] الباطل : ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ، ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة : ثم نبتهل أي : نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة : فنجعل لعنت الله أي : إبعاده وطرده : على الكاذبين منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .

    تنبيهات :

    الأول - قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما ، سببه : اتصال نفوسهم بروح القدس ، وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشرية منه ، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي بتأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد ، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ! .

    الثاني : قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكبا ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه : عبد المسيح ، والسيد ثمالهم ، وصاحب رحلهم واسمه : الأيهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الخبر من الله - عز وجل - والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم ، إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة ، فقالوا : يا أبا القاسم [ ص: 858 ] دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا . فلم يلاعنهم - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم على خراج يؤدونه إليه .

    وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا ، وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي نارا » . قال جابر : وفيهم نزلت : ندع أبناءنا الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا - رواه الحاكم في مستدركه بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .

    وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا ، وهذا أصح .

    وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .

    وروى البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا [ ص: 859 ] رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : « لأبعثن معكم رجلا أمينا ، حق أمين » . فاستشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هذا أمين هذه الأمة » . ورواه مسلم والنسائي أيضا وغيرهم .

    وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله - : إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينهحتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا .

    قال ابن كثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في ( زاد المعاد ) وأعقبها بفصل مهم في فقهها ، فليراجع .

    الثالث : قال الزمخشري : فإذا قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه . فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .

    [ ص: 860 ] الرابع : استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به - صلى الله عليه وسلم - . والمباهلة : الملاعنة .

    قال الكازروني في تفسيره : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها : أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ، ومساس الضرورة إليها .

    قال الإمام صديق خان في تفسيره : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى ذلك ، وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بـ ( النونية ) - انتهى - وقد ذكر في ( زاد المعاد ) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا ، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ، ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة - انتهى - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 62 ] إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم .

    إن هذا أي : المتقدم من شأن عيسى عليه السلام : لهو القصص الحق الذي [ ص: 861 ] لا معدل عنه ، دون أقاصيص النصارى . والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئا بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه ، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - أفاده الحرالي - .

    قال البقاعي : ولما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلا على ذلك بأنه الحي القيوم صريحا ، ختم ذلك إشارة وتلويحا فقال ، عاطفا على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله ، معمما للحكم : وما من إله إلا الله فصرح فيه بـ : من الاستغراقية ، تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم : وإن الله لهو العزيز الحكيم فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة ، ليشاركه في الألوهية .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 63 ] فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين

    فإن تولوا أي : أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليه بعدما عاينوا تلك الحجج النيرة : فإن الله عليم بالمفسدين أي : بهم ، فيجازيهم على إفسادهم . والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم بتوليهم ، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 64 ] قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

    قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أي : إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك ، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب ، وهي : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا أي : لا نرى غيره مستحقا للعبادة فنشركه معه ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل . قال الله تعالى : [ ص: 862 ] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا أي : كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون . كما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : « إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه » .

    قال الكيا الهراسي : فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، وعلى من قال : يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعي .

    قال البقاعي : ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية ، نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال : من دون الله الذي اختص بالكمال : فإن تولوا أي : عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها : فقولوا أي : تبعا لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال : أسلمت لرب العالمين . وامتثالا لوصيته إذ قال : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون اشهدوا بأنا مسلمون أي : لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . كذا قال ( الكشاف ) .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #162
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 863 الى صـ 868
    الحلقة (162)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 65 ] يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .

    يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم أي : تجادلون فيه فيدعيه كل من فريقكم : وما أنـزلت التوراة والإنجيل أي : المقرر كل منهما لأصل دين منتحله منكم : إلا من بعده أفلا تعقلون حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 66 ] ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون

    ها أنتم هؤلاء أي : الأشخاص الحمقى : حاججتم فيما لكم به علم من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ له ذكر في كتابكم ، فأمكنكم تغييره لفظا ومعنى ، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام ، أو مما نطق به التوراة والإنجيل : فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم ، فلا يمكنكم فيه التغيير : والله يعلم فيبينه لنبيه : وأنتم لا تعلمون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 67 ] ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين

    ما كان إبراهيم يهوديا أي : كما ادعى اليهود : ولا نصرانيا كما ادعى النصارى : ولكن كان حنيفا مسلما سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى : بل ملة إبراهيم حنيفا في البقرة : وما كان من المشركين تعريض بأنهم مشركون بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام .

    [ ص: 864 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 68 ] إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .

    إن أولى الناس بإبراهيم أي : أخصهم به وأقربهم منه ، من ( الولي ) وهو القرب : للذين اتبعوه أي : في دينه من أمته وغيرهم : وهذا النبي يعني : خاتم الأنبياء محمدا - صلى الله عليه وسلم - : والذين آمنوا به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم : والله ولي المؤمنين بالنصر والمعونة والمحبة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 69 ] ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون

    ودت أي : تمنت : طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم بالرجوع إلى دينهم حسدا وبغيا : وما يضلون إلا أنفسهم أي : وما يتخطاهم الإضلال ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، إذ يضاعف به عذابهم : وما يشعرون أي : أن وزره خاص بهم . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم وقوله : ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء

    [ ص: 865 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 70 ] يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون

    يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله أي : المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم - : وأنتم تشهدون أي : تعلمون حقيقتها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 71 ] يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون

    يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل أي : تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة : وتكتمون الحق أي : الذي لا يقبل تمويها ولا تحريفا : وأنتم تعلمون أي : عالمين بما تكتمونه من حقيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونبوته ، ويلبسون على الناس في ذلك ، كدأبهم في غيره . وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق ، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة . وعلى قبح التلبيس . فيجب حل الشبهة وإبطالها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 72 ] وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون

    وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار أي : أوله : واكفروا آخره لعلهم يرجعون هذه الآية حكاية لنوع آخر [ ص: 866 ] من تلبيساتهم . وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم . فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق ، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد ، وهم أولو علم وأهل كتاب ، إلا ظهور بطلانه لهم ، ولهذا قال : لعلهم يرجعون أي : عن الإسلام كما رجعتم .

    لطيفة :

    قال الرازي : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه :

    الأول : أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا .

    الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف .

    الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 73 ] ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم

    ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم من تتمة كلامهم ، أي : ولا تصدقوا إلا نبيا تابعا لشريعتكم ، لا من جاء بغيرها ، أو : ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم ، وهو إيمانهم وجه النهار ، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم : قل إن الهدى هدى الله أي : الذي هو [ ص: 867 ] الإسلام وقد جئتكم به ، وما عداه ضلال ، فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله . ثم وصل به تقريعهم فقال : ( أن ) بمد الألف على الاستفهام ، في قراءة ابن كثير . وتقديرها في قراءة غيره ، أي : دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه الآن : يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الشرائع والعلم والكتاب : أو كراهة أن : يحاجوكم أي : الذين أوتوا مثل ما أوتيتم : عند ربكم أي : بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم : قل إن الفضل أي : بإنزال الآيات وغيرها : بيد الله يؤتيه من يشاء فلا يمكنكم منعه : والله واسع كثير العطاء : عليم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 74 ] يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

    يختص برحمته من يشاء فيزيده فضلا عليكم : والله ذو الفضل العظيم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 75 ] ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون

    ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والترافع وإقامة البينة ، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمره بإظهاره طمعا في إبقاء الرئاسة والرشا عليه . ثم استأنف علة الخيانة بقوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل أي : ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة [ ص: 868 ] فهم يخونون الخلق : ويقولون أي : في الاعتذار عنه : على الله الكذب بادعائهم ذلك وغيره ، فيخونونه أيضا : وهم يعلمون أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم . كما هو في التوراة . وقد مضى نقله في البقرة في آية : إن الذين آمنوا والذين هادوا فارجع إليه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 76 ] بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين

    بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين اعلم أن ( بلى ) إما لإثبات ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي : بلى عليهم سبيل ، فالوقف حينئذ على ( بلى ) وقف التمام ، وقوله : من أوفى بعهده جملة مقررة للجملة التي سدت ( بلى ) مسدها . وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جوابا للنفي السابق ، فإن كلمة ( بلى ) قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها - كما نقله الرازي - وهذا هو الذي أرتضيه . وإن اقتصر ( الكشاف ) ومقلدوه على الأول . وقد ذكروا في ( نعم ) أنها تأتي للتوكيد إذا وقعت صدرا . نحو : نعم هذه أطلالهم ، فلتكن ( بلى ) كذلك ، فإنهما أخوان ، وإن تخالفا في صور ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على ( بلى ) . والضمير في : بعهده إما لاسم ( الله ) في قوله : ويقولون على الله الكذب على معنى : إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه . وإما لـ : من أوفى على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #163
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 869 الى صـ 874
    الحلقة (163)



    قال الزمخشري : فإن قلت فهذا عام ، يخيل أنه ولو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا [ ص: 869 ] الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل لأنهم إذا وفوا بالعهود ، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 77 ] إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .

    إن الذين يشترون أي : يستبدلون : بعهد الله أي : بما أخذهم عليه في كتابه ، أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم : وأيمانهم أي : التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل : ثمنا قليلا من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه : أولئك لا خلاق أي : لا نصيب ثواب : لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ولا يزكيهم أي : ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه ، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة : ولهم عذاب أليم أي : بالنار . واعلم أن في هذه الآية مسائل :

    الأولى : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية أن من نقض عهدا لله لغرض دنيوي ، أو حلف كاذبا ، فإنه قد ارتكب كبيرة .

    الثانية : في الجمع بين قوله تعالى هنا : ولا يكلمهم الله وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين قال القفال : المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره [ ص: 870 ] كلامه فإنما ذلك بسخط عليه ، وإذا سخط إنسان على آخر قال له : لا أكلمك . وقد يأمر بحجبه عنه ، ويقول : لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل ، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب ، نعوذ بالله منه . ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه . ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة . ومنهم من قال : معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم ، والكل حسن .

    الثالثة : روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان » . قال عبد الله : ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله - عز وجل - : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية . وفي رواية قال : « من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان » فأنزل الله تصديق ذلك : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية . فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ قلنا : كذا وكذا ، فقال : صدق ، في نزلت ، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « شاهداك أو يمينه » . قلت : إنه إذا يحلف ولا يبالي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان » ونزلت : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية .

    وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا : إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي .

    [ ص: 871 ] وروى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق ، فحلف بالله : لقد أعطى بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية . وقدمنا في مقدمة التفسير ، في بحث سبب النزول ، وفي سورة البقرة أيضا عند آية : من كان عدوا لجبريل ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات ، وأنه لا تنافي . فتذكر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 78 ] وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون

    وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون قال الإمام ابن كثير : يخبر تعالى عن اليهود ، عليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ، ولهذا قال تعالى : ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون قال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس : يلوون ألسنتهم [ ص: 872 ] بالكتاب ، ويحرفونه . وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون . وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله - عز وجل - ولكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .

    وقال وهب بن منبه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول . رواه ابن أبي حاتم . قال ابن كثير : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص . وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ، ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش . وهو من باب تفسير المعرب المعبر ، وفهم كثير منهم فاسد . وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال ، محفوظة لم يدخلها شيء - انتهى - وقد قدمنا الكلام على ذلك في مقدمة التفسير عند الكلام على الإسرائيليات ، وفي سورة البقرة أيضا عند قوله تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه

    ولما بين تعالى كذبهم عليه - جل ذكره - بين افتراءهم على رسله إذ زعموا أن عيسى عليه السلام أمرهم أن يتخذوه ربا ، فرد سبحانه عليهم بقوله :

    [ ص: 873 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 79 ] ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون

    ما كان لبشر أي : ما صح ولا استقام . وفي التعبير ببشر إشعار بعلة الحكم ، فإن البشرية منافية لما افتروه عليه : أن يؤتيه الله الكتاب والحكم أي : الفهم والعلم أو الحكمة : والنبوة وهي الخبر منه تعالى ليدعو الناس إلى الله بترك الأنداد : ثم يقول للناس أي : الذين بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى عبادته وحده : كونوا عبادا لي أي : اتخذوني ربا : من دون الله ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين أي : منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية ، بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله . أي : كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات ، حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة - أفاده القاشاني - : بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون أي : بسبب مثابرتكم على تعليم الناس الكتاب ودراسته ، أي : قراءته . فإن ذلك يجركم إلى الله تعالى بالإخلاص في عبادته .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 80 ] ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

    ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر أي : بالعود إليه وقد بعث لمحو الشرك : بعد إذ أنتم مسلمون أي : بعد استقراركم على الإسلام .

    [ ص: 874 ] تنبيهات :

    الأول : إذا كان ما ذكر في الآية لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم ، بطريق الأولى والأحرى .

    ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن ، أن يأمر الناس بعبادته ، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا - يعني : أهل الكتاب - كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية ، وفي جامع الترمذي - كما سيأتي - أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله ما عبدوهم . قال : بلى ، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم . فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه الرسل الكرام ، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام - قاله ابن كثير - .

    الثاني : في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه . والدراسة : مذاكرة العلم والفقه . فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بها ، لا لهذا المقصود ، فقد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ، ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : « نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع » كذا في فتح البيان والرازي .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #164
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 875 الى صـ 880
    الحلقة (164)





    [ ص: 875 ] الثالث : قرئ في السبع : ولا يأمركم بالرفع على الاستئناف أي : ولا يأمركم الله أو النبي ، وبالنصب عطفا على ثم يقول ، ( ولا ) مزيدة لتأكيد معنى النفي .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 81 ] وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين

    [ لم يفسر العلامة رحمه الله هذه الآية ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 82 ] فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون

    فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم . ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم ، وإن كان ناسخا لبعض أحكامهم بما دلت [ ص: 876 ] الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك ، آمنوا به ونصروه أيضا ، مبالغة في تشهير أمره . ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره . وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين . وقد قرئ في السبع بفتح اللام من : لما آتيتكم وكسرها ، فعلى الأول هي موطئة للقسم ، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، و ( ما ) حينئذ تحتمل الشرطية ، و : لتؤمنن ساد مسد جواب القسموالشرط . وتحتمل الموصولة بمعنى ( للذي آتيتكموه لتؤمنن به ( وعلى الثاني ، أعني : كسر اللام فـ : ( ما ) إما مصدرية أي : لأجل إيتائي إياكم الكتاب ، ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف ، أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه . وإما موصولة والمعنى : أخذه للذي آتيتكموه ، وجاءكم رسول مصدق له ، وقوله تعالى : فاشهدوا أي : يا أنبياء ، بعضكم على بعض ، بالإقرار . وفي قوله تعالى : وأنا معكم من الشاهدين توكيد عليهم ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة ، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء ، فمع أممهم أولى . وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمدا ، وهو حي ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . قال ابن كثير : وهذا لا يضاد ما قاله طاوس والحسن وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا ، بل يستلزمه ويقتضيه ، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قول علي وابن عباس. - انتهى - .

    ومن أثر علي عليه السلام هذا - فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنبينا - صلى الله عليه وسلم - كما نقل القاضي عياض في ( الشفاء ) عن أبي الحسن القابسي قال : استخص الله تعالى محمدا بفضل لم يؤته غيره أبانه به ، وهو ما ذكره في هذه الآية . انتهى . وقد علمت المراد .

    بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهاني ذهب إلى أن في قوله تعالى : ميثاق النبيين حذف مضاف ، أي : أممهم ، وعبارته : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب [ ص: 877 ] عليهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفا ، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين ، بل هم أمم النبيين . قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق ، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما يليق بالأمم ، أجاب القفال رحمه الله فقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية : أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ؟ ! ونظيره قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض ، فكذا هنا . وقال : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وقال في صفة الملائكة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم : لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وبأنهم : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير ، فكذا ههنا .

    ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي ، فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، [ ص: 878 ] وقد ذكر تعالى على سبيل الفرض والتقدير في قوله : لئن أشركت ليحبطن عملك فكذا ههنا - نقله الرازي .

    ولما بين تعالى أن الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شرع شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله ، فلهذا قال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 83 ] أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون

    أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها أي : استسلم له من فيهما بالخضوع والانقياد لمراده ، والجري تحت قضائه ، كما قال تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون

    فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم له كرها ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع . أفاده ابن كثير : وإليه يرجعون يوم القيامة فيجزي كلا بعمله ، والجملة سيقت للتهديد والوعيد .

    [ ص: 879 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 84 ] قل آمنا بالله وما أنـزل علينا وما أنـزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

    قل آمنا بالله وما أنـزل علينا وما أنـزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أي : أولاد يعقوب : وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ، كدأب اليهود والنصارى : ونحن له مسلمون أي : منقادون فلا نتخذ أربابا من دونه .

    لطيفة :

    نكتة الجمع في قوله : ( آمنا ) بعد الإفراد في : ( قل ) كون الأمر عاما ، والإفراد لتشريفه عليه الصلاة والسلام ، والإيذان بأنه أصل في ذلك . أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة . والجمع لإظهار جلالة قدره ورفعة محله بأمره ، بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك .

    ثانية :

    عدى أنزل هنا بحرف الاستعلاء ، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر ، وقال صاحب ( اللباب ) : الخطاب في البقرة للأمة لقوله : ( قولوا ) . فلم يصح إلا ( إلى ) لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعا . وهنا قال ( قل ) ، وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته ، فكان اللائق به ( على ) لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيها .

    وفيه نظر ، لقوله تعالى : آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا - أفاده النسفي - .

    [ ص: 880 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 85 ] ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

    ومن يبتغ أي : يطلب : غير الإسلام دينا أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى . كدأب المشركين صريحا . والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين : فلن يقبل منه لأنه لم ينقد لأمر الله . وفي الحديث الصحيح : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » : وهو في الآخرة من الخاسرين لضلاله وجوه الهداية في الدنيا .

    قال العلامة أبو السعود : والمعنى : أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع ، واقع في الخسران ، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها . وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أن حال من تدين بغير الإسلام واطمأن بذلك - أفظع وأقبح - انتهى -




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #165
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 881 الى صـ 886
    الحلقة (165)



    .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 86 ] كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين

    كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم . فإن الحائد عن الحق ، بعد ما وضح له ، منهمك في الضلال ، بعيد عن الرشاد . وقيل : نفي وإنكار له ، كما قال تعالى : ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم [ ص: 881 ] طريقا إلا طريق جهنم والمعني بهذه الآية إما أهل الكتاب ، والمراد كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين جاءهم ، بعد إيمانهم به قبل مجيئه ، إذ رأوه في كتبهم ، وكانوا يستفتحون به على المشركين وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام . فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية ، وإما المعني بالآية من ارتد بعد إيمانه ، على ما روي في ذلك كما سنذكره .
    ثم بين تعالى الوعيد على كل بقوله :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 87 ] أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

    أولئك أي : الموصوفون بما تقدم : جزاؤهم أن عليهم لعنة الله أي : طرده وغضبه : والملائكة والناس أجمعين المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم ، فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ، فقد لعن نفسه .

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 88 ] خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون

    خالدين فيها أي : في اللعنة أو العقوبة أو النار ، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما . والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار ، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء ، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن ، لأن اللعن يوجب العقاب ، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله تعالى : من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه - أفاده الرازي - : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون أي : لا يمهلون ، أو لا ينتظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر نظر رحمة إليهم .

    [ ص: 882 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 89 ] إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم

    إلا الذين تابوا من بعد ذلك أي : الكفر بعد الإيمان : وأصلحوا أي : وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة . وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح : فإن الله غفور رحيم فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم . وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه : أن من تاب إليه تاب عليه . وقد روى ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ، ولحق بالشرك ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لي من توبة ؟ فنزلت : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله : فإن الله غفور رحيم فأرسل إليه قومه فأسلم . وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله : غفور رحيم قال : فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ، ما علمت ، لصدوق ، وإن رسول الله لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .

    قال ابن سلامة : فصارت فيه توبة ، وفي كل نادم إلى يوم القيامة .

    تنبيه :

    قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية جواز لعن الكفار ، وسواء كان الكافر معينا [ ص: 883 ] أو غير معين ، على ظاهر الأدلة . وقد قال النووي : ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام . وأشار الغزالي إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر . كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم . قال : لأنه لا يدرى بما يختم له . وأما الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعيانهم يجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - علم موتهم على الكفر . وأما ما ورد في الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - : « ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذي » . فقيل : اللعان مثل الضراب للمبالغة . والمعنى : لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه . ومن ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها ، وذلك إجماع ، إلا توبة المرتد ، ففيها خلاف شاذ ، فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذه الآية وغيرها ، وعند ابن حنبل لا تقبل توبته - رواه عنه في ( شرح الإبانة ) قيل : وهو غلط . ولهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة النساء : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا فأثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان . ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضا عند جمهور العلماء ، لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال إسحاق بن راهويه : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك . أي : لظاهر آية النساء - انتهى - قلت : وفي ( زاد المستقنع ) و ( شرحه ) : من فقه الحنابلة ما نصه : ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل ؛ لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام - انتهى - وهو قريب من مذهب إسحاق ، وحكى في ( فتح الباري ) مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية .

    [ ص: 884 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 90 ] إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون

    إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون أي : الذين ضلوا سبيل الحق وأخطأوا منهاجه ، وقد أشكل على كثير قوله تعالى : لن تقبل توبتهم مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها ، وقوله سبحانه : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وغير ذلك ، فأجابوا : بأن المراد عند حضور الموت . قال الواحدي في ( الوجيز ) : لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت ، وتلك التوبة لا تقبل . - انتهى - . أي : كما قال تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت الآية . وقيل : عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم ، أي : لا يتوبون . كقوله : أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وإنما كنى بذلك تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، وقيل : لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا . وبقي للمفسرين وجوه أخرى ، هي في التأويل أبعد مما ذكر . [ ص: 885 ] ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء : إن الذين آمنوا ثم كفروا إلخ . وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته ، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا ، وذلك لرسوخه في الكفر . وقد أشار القاشاني إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد ، وعبارته عند قوله تعالى : كيف يهدي الله قوما أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم ( كذا ) . وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات ، ثم ظهرت نفسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق ، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال : والله لا يهدي القوم الظالمين لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور . وهم قسمان :

    قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت ، وتناهوا في الغي والاستشراء ، وتمادوا في البعد والعناد ، حتى صار ذلك ملكة لا تزول . وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ، ولم يصر على قلوبهم رينا ، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم ، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستجيبوا بحكم غريزة العقول . فأشار إلى القسم الأول بقوله : إن الذين كفروا بعد إيمانهم إلى آخره ، وإلى الثاني بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا بالمواظبة على الأعمال والرياضات ، ما أفسدوا - انتهى - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 91 ] ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا [ ص: 886 ] ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين )

    إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك » ! وفي رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي رب ! خير منزل ، فيقول : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم ! كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أي رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا ؟ فيقول : أي رب ! نعم . فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار » . ولهذا قال : أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين أي : من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #166
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 887 الى صـ 892
    الحلقة (166)

    لطيفة :

    في قوله تعالى : ولو افتدى به قال صاحب ( الانتصاف ) : إن هذه الواو المصاحبة للشرط [ ص: 887 ] تستدعي شرطا آخر ، يعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة . والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى . مثاله : قولك : أكرم زيدا ولو أساء ، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره : أكرم زيدا ولو أساء ، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء ، على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى . ومنه : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم معناه - والله أعلم - : لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم ، فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب ، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا ، لأن قوله : ولو افتدى به يقتضي شرطا آخر محذوفا ، يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى . وهذه الحال المذكورة ، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا ، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية ، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها ، فلذلك قدر الزمخشري الكلام بمعنى : لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا . حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها ، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى ؛ فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور . وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا ، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله . فنقول : قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال :

    منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول .

    [ ص: 888 ] ومنها : أن يقول المفتدي في التقدير : أفدي نفسي بكذا - وقد لا يفعل - .

    ومنها : أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته .

    وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا ، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ، ومع ذلك لا يقبل منه . فمجرد قوله : أبذل المال وأقدر عليه ، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى ، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة . وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم - والله أعلم - وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم . ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي هذه . فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله ولي التوفيق - انتهى - .

    وثمة وجه ثان وهو أن المراد : ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية ، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية ، ولو زيد عليه مثله ، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه . وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله . وقضية ولا أبا حسن لها ، أي : ولا مثل أبي حسن . كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت . وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد ، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى .

    [ ص: 889 ] ووجه ثالث : وهو أن لا يحمل ( ملء الأرض ) أولا على الافتداء بل على التصدق ، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق ، بل يكون شرطا محذوف الجواب ، ويكون المعنى : لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا تصدق به ، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه . وضمير به للمال من غير اعتبار وصف التصدق .

    ووجه رابع : وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي . فتبصر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 92 ] لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم

    لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم ، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم ، أي : لن تبلغوا حقيقة البر ، وتلحقوا بزمرة الأبرار . بناء على أن تعريف البر للجنس . أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته ، إذا كان للعهد، حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون ، أي : تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم ، كما في قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال : كان أبو طلحة أكثر أنصار المدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 890 ] يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله - عز وجل - أرجو برها وذخرها عند الله . فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بخ بخ، ذلك مال رابح ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين » قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه – ( وبيرحا يروى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر ، وهو اسم حديقة بالمدينة - وفي الفائق : إنها فيعـلى من البراح ، وهو الأرض الظاهرة . وبخ بخ : كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد ، ورابح بالموحدة : أي : ذو ربح ، وبالمثناة التحتية أي : يروح عليك نفعه وثوابه ) .

    وفي الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله ! لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به ؟ قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » .

    وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عمر قال : حضرتني هذه الآية : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحب إلي من جارية لي رومية ، فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها . يعني : تزوجتها .

    تنبيه :

    قال القاشاني : في هذه الآية : كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه ، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به ، وأشرك شركا خفيا ، لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم [ ص: 891 ] كحب الله ) وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه : وهي محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق ؛ فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد ، وحصل القرب ، وإلا بقي محجوبا ، وإن أنفق من غيره أضعافه ، فما نال برا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره .

    وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم أي : فمجازيكم عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، جيدا أو غيره .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 93 ] كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين

    كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قال الزمخشري : المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه .

    تنبيهات :

    الأول : روي ، فيما حرمه إسرائيل على نفسه ، أنه لحوم الإبل وألبانها ، رواه الإمام أحمد في قصة ، والترمذي وقال : حسن غريب . وروي عن ابن عباس والضحاك والسدي وغيرهم موقوفا عليهم أنه العروق . قالوا : كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه ، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقا ، ولا يأكل ولده ما له عرق ، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم [ ص: 892 ] استنانا به ، واقتداء بطريقه ، قال الرازي : ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان ، بعث بردا إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه وقال : إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جدا ، فصلى ودعا ، وقدم هدايا لأخيه ، وذكر القصة ، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت ، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق - انتهى - قلت : والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين .

    الثاني : التحريم المذكور ، على الرواية الأولى ، أعني لحوم الإبل وألبانها ، فكان تبررا وتعبدا وتزهدا وقهرا للنفس ، طلبا لمرضاة الحق تعالى . وعلى الثانية : فإما وفاء بالنذر وإما تداويا ،وإما لكونه يجد نفسه تعافه - والله أعلم - فالتحريم بمعنى الامتناع .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #167
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 893 الى صـ 898
    الحلقة (167)


    الثالث : قال الزمخشري : الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلى قوله : ذلك جزيناهم ببغيهم وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه ، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة [ ص: 893 ] على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا . إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم - انتهى - .

    قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أي : في دعواكم أنه تحريم قديم - وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به ، من أن تحريم ما حرم عليهم حادث لا قديم ، كما يدعونه - أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة . فبهتوا وانقلبوا صاغرين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 94 ] فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون

    فمن افترى أي : تعمد : على الله الكذب أي : في أمر المطاعم وغيرها : من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 95 ] قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

    قل صدق الله تعريض بكذبهم ، أي : ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون : فاتبعوا ملة إبراهيم أي : ملة الإسلام التي عليها محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه ، والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه : حنيفا أي : مائلا عن الأديان الزائفة : وما كان من المشركين تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى ، فكيف يزعمون أنهم على ملته ، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! .

    [ ص: 894 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 96 ] إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين

    إن أول بيت وضع للناس أي : لنسكهم وعباداتهم : للذي ببكة أي : للبيت الذي ببكة ، أي : فيها . وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى . وبكة لغة في مكة ، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم : ( ضربة لازب ولازم ) ، و( النميط والنبيط ) في اسم موضع بالدهناء ، وقولهم ( أمر راتب وراتم ) و ( أغبطت الحمى وأغمطت) . وقيل : مكة البلد ، وبكة موضع المسجد ، سميت بذلك : لدقها أعناق الجبابرة ، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى ، أو لازدحام الناس بها من بكه إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه ، كما أن مكة من مكه : أهلكه ونقصه ؛

    لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد ، وتنقص الذنوب أو تنفيها كما في القاموس - وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي ( ميشا ) أو ( ماسا ) المذكورة في التوراة ، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو ( مسا ) مباركا أي : كثير الخير ، لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله ، من الثواب وتكفير الذنوب : وهدى للعالمين لأنه قبلتهم ومتعبدهم .

    تنبيه :

    ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولا في الوضع والبناء ، ورووا في ذلك آثارا ، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين ، ومنها : أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور ، وذلك قبل خلق آدم ، ومنها : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام . وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه . والمتعين أن المراد : أول بيت وضع مسجدا ، كما بينته رواية ابن أبي حاتم عن علي - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه [ ص: 895 ] أول بيت وضع لعبادة الله تعالى . وفي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قلت يا رسول الله : أي : مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : « المسجد الحرام » قلت : ثم أي : ؟ قال : « المسجد الأقصى » قلت : كم كان بينهما ؟ قال : « أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله ، فإن الفضل فيه » .

    قال ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به ، فقال : معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى . وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام . وهذا من جهل القائل ، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم ، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 97 ] فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين

    فيه آيات بينات مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال ابن كثير : وقد كان ملتصقا بجدار البيت ، حتى أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال المفسرون : ثمرة الآية : الترغيب [ ص: 896 ] في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه ، لأنه تعالى وصفه بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات .

    لطيفة :

    مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين ، وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقائه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه ، مع كثرة الأعداء ، ألوف السنين ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة ( آية بينة ) على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله - عز وجل - :

    ومن دخله كان آمنا فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة أن يقال : ( وأمن من دخله ( فتكون بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك ، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان ، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها - أفاده أبو السعود - . قال المهايمي : فيه آيات بينات رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها : النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته : أن من دخله كان آمنا من نهب العرب وقتالهم ، وقد أمن صيده وأشجاره . - ا هـ - . [ ص: 897 ] قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله : أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف [ ص: 901 ] الناس من حولهم ) وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : رب اجعل هذا بلدا آمنا وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر - رضي الله عنه - : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسـسته حتى يخرج عنه . ا هـ .

    تنبيه :

    ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعي الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : « لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا » . وقال يوم فتح مكة : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته ، إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها ». فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : « إلا الإذخر » . ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ؛ [ ص: 898 ] ولهما ، واللفظ لمسلم أيضا ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب » . فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح . إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة .

    قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرما ، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلاها والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #168
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 899 الى صـ 904
    الحلقة (168)

    أحدها : وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل. كما امتنع أهلمكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير . فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع ، وإنما خالف [ ص: 899 ] في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وهواه فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصيا . فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ، ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مقيس بن صبابة وابن خطل ومن سمي معهما ؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرما . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : « فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك » ، وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته . وعن ابن عباس أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى [ ص: 900 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة » . وبأنه لو كانت الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم » . فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة - وهي فسقهن - ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : ومن دخله كان آمنا وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقوله تعالى : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء

    وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمنا من النار ، وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول محصل إن قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصا بل تقييدا لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع [ ص: 902 ] سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « وإنما أحلت لي ساعة من نهار » ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالا في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصيا ، فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث ، كما جاء مبينا في الصحيح ، فكيف يقدم على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء : وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه تحريم ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ، والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم . وذكر الأثرم عن [ ص: 903 ] ابن عباس أيضا : من أحدث حدثا في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه :

    أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .

    الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .

    الثالث : أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .

    الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .

    والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته .

    فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه . وأما قولكم : إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته [ ص: 904 ] عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها ، وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها . انتهى . ( من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180 ) .

    ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان ، وفي الآية مباحث :

    الأول : في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو : حج البيت وخبر هو : ( لله ) وقوله تعالى : على الناس متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون : ( على الناس ) هو الخبر ، و : ( لله ) متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا في محل الخبر على أنه بدل من : ( الناس ) بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي : من استطاع منهم ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير . وقيل : في محل الرفع ، على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم من استطاع . وقيل : في حيز النصب بتقدير : أعني .

    الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : وأتموا الحج والعمرة لله والأول أظهر . وفي ( فتح البيان ) : اللام في قوله : ( لله ) هي التي يقال لها [ ص: 905 ] لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف : ( على ) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان علي كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه ، وتعظيما لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا .

    الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا » . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » . ثم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج » ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : « لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع » .

    [ ص: 906 ] الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج - على ظاهر الآية - . قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلا قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : « الزاد والراحلة » - رواه الترمذي - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قول الله - عز وجل - : من استطاع إليه سبيلا فقيل : ما السبيل ؟ قال : « الزاد والراحلة » ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .

    الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي - رضي الله عنه - في ( زاد المعاد ) في سياق هديه - صلى الله عليه وسلم - في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #169
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 905 الى صـ 910
    الحلقة (169)



    الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : وأتموا الحج والعمرة لله والأول أظهر . وفي ( فتح البيان ) : اللام في قوله : ( لله ) هي التي يقال لها [ ص: 905 ] لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف : ( على ) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب . كما إذا قال القائل : لفلان علي كذا ، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه ، وتعظيما لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا .

    الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة ، بالنص والإجماع ، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا » . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » . ثم قال : « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » . وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج » ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : « لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة . فمن زاد فهو تطوع » .

    [ ص: 906 ] الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج - على ظاهر الآية - . قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلا قال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : « الزاد والراحلة » - رواه الترمذي - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قول الله - عز وجل - : من استطاع إليه سبيلا فقيل : ما السبيل ؟ قال : « الزاد والراحلة » ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .

    الخامس : قال الإمام ابن القيم الدمشقي - رضي الله عنه - في ( زاد المعاد ) في سياق هديه - صلى الله عليه وسلم - في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ .


    [ ص: 907 ] وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمدا - يعني : البخاري - عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري . وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظا . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج من غير تأخير ، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإنها ، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج ، وأردفه بعلي - رضي الله عنه - وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى :

    ومن كفر فإن الله غني عن العالمين إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر - على هذا - إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه [ ص: 908 ] النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعا : « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر » . وعن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة - أخرجه الترمذي - ولأبي داود عن جابر مرفوعا : « بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة » ولفظ مسلم : « بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة » . وروى الترمذي عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . « من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ، وذلك أن الله تعالى يقول : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » . قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن عمر بن الخطاب قال : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا . قال ابن كثير : إسناده صحيح إلى عمر - رضي الله عنه - : وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . قال السيوطي في ( الإكليل ) : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج ، وإن لم ينكره ، كفر . ثم قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر : من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية .

    [ ص: 909 ] تنبيه :

    هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله : ولله على الناس حج البيت يعني : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه : من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :

    أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .

    والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين .

    ومنها : قوله : ومن كفر مكان من لم يحج تغليظا على تارك الحج .

    ومنها : ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان .

    ومنها : قوله : عن العالمين ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه - أشار لذلك الزمخشري - ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 98 ] قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون

    قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله أي : الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوله : والله شهيد على ما تعملون حال مفيدة لتشديد التوبيخ . وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهانة وتهويل الخطب . وصيغة المبالغة في ( شهيد ) لتأكيد الوعيد ، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه. ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم ، فقال :

    [ ص: 910 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 99 ] قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون

    قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله أي : عن دينه . وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام : من آمن مفعول تصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به : تبغونها على الحذف والإيصال ، أي : تبغون لها ، أي : لسبيل الله التي هي أقوم السبل : عوجا أي : اعوجاجا وزيغا وتحريفا . قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب ، وأريد ههنا : تبغون لها عوجا ، ثم أسقطت اللام . كما قالوا : وهبتك درهما ، أي : وهبت لك درهما ، ومثله : صدتك ظبيا ، أي : صدت لك ظبيا ، وأنشد :


    فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا


    أراد : أصيد لكم .

    قال الرازي : وفي الآية وجه آخر ، وهو أن يكون ( عوجا ) في موضع الحال . والمعنى : تبغونها ضالين ، وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله ، فقال تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال .

    وذكر ناصر الدين في ( الانتصاف ) وجها آخر قال : هو أتم معنى ، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به ، و ( عوجا ) حال وقع فيها المصدر الذي هو ( عوجا ) موقع الاسم ، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج ، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم ، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم - والله أعلم - .

    وأنتم شهداء بأنها سبيل الله ، والصد عنها ضلال وإضلال : وما الله بغافل عما تعملون تهديد ووعيد .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #170
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 911 الى صـ 916
    الحلقة (170)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 100 ] يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين

    يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب أي : بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب : يردوكم بعد إيمانكم أي : بالتوحيد والنبوة : كافرين لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، كما قال تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم الآية .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 101 ] وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .

    وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب . والمعنى : من أين يتطرق لكم الكفر ؟ : وأنتم تتلى عليكم آيات الله وهي القرآن المعجز الذي هو أجل من الآيات المتلوة عليهم : وفيكم رسوله ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ، وقد هداكم من الضلالة ، وأنقذكم من الجهالة : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم أي : من يتمسك بدينه الحق الذي بينه بآياته على لسان رسوله ، وهو الإسلام ، والتوحيد ، المعبر عنه بسبيل الله ، فهو على هدى لا يضل متبعه . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم - انتهى - فالجملة حينئذ [ ص: 912 ] تذييل لقوله : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا إلخ ، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم ، فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله في دفع ذلك ، لأن من التجأ إليه كفاه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 102 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته أي : حق تقواه ، وذلك بدوام خشيته ظاهرا وباطنا والعمل بموجبها . وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية : هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر . ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعا ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

    قال ابن كثير : والأظهر أنه موقوف - والله أعلم - .

    وروي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم .

    أقول : كل ما روي ، مما تشمله الآية بعمومها ، فلا تنافي .

    تنبيه :

    زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية : فاتقوا الله ما استطعتم متأولا حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه . قال : فهذا يعجز العبد عن الوفاء ، فتحصيله ممتنع . وهذا الزعم لم يصب المحز ، فإن كلا من الآيتين سيق في معنى خاص به ، [ ص: 913 ] فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى ، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلبا وقالبا ، كما بينا . وهذا من المستطاع لكل منيب . وقوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق ، إذ : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله ، وأخلص في أعماله ، وكان مشفقا في طاعاته ، فقد اتقى الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي : مخلصون نفوسكم لله تعالى ، لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا ، كما في قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : لا تموتن على حال من الأحوال ، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه ، كما ينبئ عنه الجملة الاسمية . ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها .

    والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض . وظاهر النظم الكريم ، وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد ، هو الكون على أي : حال غير حال الإسلام ، لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ . وحيث كان الخطاب للمؤمنين ، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت . وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور . فإن النهي عن المقيد في أمثاله ، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية ، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد . فإن قولك : لا تصل إلا وأنت [ ص: 914 ] خاشع ، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك : لا تترك الخشوع في الصلاة ؛ لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط ، وذاك نهي عنه وعما يقارنه ، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة ، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل . وفيه نوع تحذير عما وراء الموت - أفاده أبو السعود - .

    وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 103 ] واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون

    واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الحبل : إما بمعنى العهد ، كما قال تعالى في الآية بعدها : ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس أي : بعهد وذمة ، وإما بمعنى القرآن ، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 915 ] « ألا وإني تارك فيكم ثقلين : أحدهما كتاب الله هو حبل الله ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة ...» الحديث ، والوجهان متقاربان ، فإن عهده أي : شرعه ودينه وكتابه حرز للمتمسك به من الضلالة ، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط . وقوله : ولا تفرقوا أي : لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم . كما اختلف اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية ، متدابرين ، يعادي بعضكم بعضا ، ويحاربه . أو ولا تحدثوا [ ص: 916 ] ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام - أفاده الزمخشري - : واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا

    قال الزمخشري : كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وقذف فيها المحبة ، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد ، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله : وكنتم على شفا أي : طرف : حفرة من النار بما كنتم فيه من الجاهلية : فأنقذكم منها أي : بالإسلام . قال ابن كثير : وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم . فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى . قال الله تعالى : هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم الآية . وكانوا على شفا حفرة من النار ، بسبب كفرهم ، فأنقذهم الله منها ، إذ هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضل عليهم في القسمة ، بما أراه الله ، فخطبهم فقال : « يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ؟ » فكلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن - انتهى - .







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #171
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 917 الى صـ 923
    الحلقة (171)



    لطيفة :

    قال الزمخشري : الضمير في : منها للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة ، وهو منها كما قال :


    كما شرقت صدر القناة من الدم


    انتهى .

    [ ص: 918 ] وقال أبو حيان : لا يحسن عوده إلا إلى الشفا ؛ لأنه المحدث عنه . انتهى .

    وفي ( الانتصاف ) : يجوز عود الضمير إلى الحفرة ، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور ، كما تقول : أكرمت غلام هند ، وأحسنت إليها ، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم ، لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا ، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوي إلى الحفرة ، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها . فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع . مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر ، خلاف رأيه في ( الإيضاح ) - نقله ابن يسعون - .

    وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها ، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا ، لولا الإنقاذ الرباني . ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : « الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه » وإلى قوله تعالى : ( أم من أسس [ ص: 919 ] بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ) وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم ، مع تأكيد ذلك بقوله : هار والله أعلم - انتهى - .

    ثم قال الزمخشري : وشفا الحفرة وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتانيث ، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة ، وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة ، الجانب والجانبة . انتهى .

    وحكى الزجاج في تثنية شفا : شفوان . قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو ، لأنه الإمالة من الياء . كذا في الصحاح .

    ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار ، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها .

    قال الرازي : وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة ، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء .

    كذلك أي : مثل ذلك البيان : يبين الله لكم آياته في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه : لعلكم تهتدون لرشدكم الديني والدنيوي فيه . ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات ، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه ، فقال :

    [ ص: 920 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 104 ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون

    ولتكن منكم أمة أي : جماعة ، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس ، أي يقصدونها ويقتدون بها : يدعون إلى الخير وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي : ويأمرون بالمعروف أي : بكل معروف ، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار : وينهون عن المنكر أي : عن كل منكر ، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة : وأولئك الداعون الآمرون الناهون : هم المفلحون الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم .

    قال بعضهم : الفلاح : هو الظفر وإدراك البغية . فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وعز بلا ذل ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل .

    لطيفة :

    قيل : عطف : ويأمرون على ما قبله ، من عطف الخاص على العام . كذا قاله الزمخشري . وناقشه في ( الانتصاف ) . وعبارته : عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام ، كقوله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال وكقوله : فيهما فاكهة ونخل ورمان وكقوله : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وشبه ذلك ، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر [ ص: 921 ] يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات . وأما هذه الآية فقد ذكر ، بعد العام فيها جميع ما يتناوله ، إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور ، أو ترك منهي ، لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات ، فالأولى في ذلك أن يقال : فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا . وفيه تنبيه : أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية - والله أعلم - إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير ، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشري ، وما أرى هذا العرف ثانيا - والله أعلم - انتهى .

    تنبيه :

    وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها - كذا في ( فتح البيان ) .

    قال الغزالي - رضي الله عنه - : في هذه الآية بيان الإيجاب . فإن قوله تعالى : ولتكن أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به ، إذ حصر وقال : وأولئك هم المفلحون وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين ، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين ؛ إذ لم يقل : كونوا كلكم آمرين بالمعروف . بل قال : ولتكن منكم أمة فإذا ، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين ، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين . وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون ، عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة . انتهى .

    فإن قلت : فمن يباشره ؟ فالجواب : كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة ، أو إن نهيه لا يؤثر ، لأنه عبث ، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام ، وتذكير الناس بأمر الدين . فإن قلت : فمن يؤمر وينهى ؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف ، إذا هم بضرر غيره منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها - ذكره الزمخشري - .

    [ ص: 922 ] وتفصيل هذا البحث في ( الإحياء ) للغزالي قدس سره ، وقد قال - قدس سره - في طليعة ذلك البحث ما نصه : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه ، واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسد هذه الثلمة ، إما متكفلا بعملها ، أو متقلدا لتنفيذها ، مجددا لهذه السنة الداثرة ، ناهضا بأعبائها ، ومتشمرا في إحيائها - كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها - انتهى - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 105 ] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم

    ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود في افتراقهم مذاهب ، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى ، وطاعة النفس ، والحسد ، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض ، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه ، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة ، المبينة للحق ، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق ، فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة ، وإلى أعقابهم تبعا . وفي قوله [ ص: 923 ] تعالى : وأولئك لهم عذاب عظيم من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين ، والتشديد في تهديد المشبهين بهم ، ما لا يخفى .

    تنبيهات :

    الأول : ذكر الفخر الرازي من وجوه قوله تعالى : ( اختلفوا ) أي : بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل . ثم قال : وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة . فنسأل الله العفو والرحمة - انتهى كلامه - وقوله : ( هذا الزمان ) . إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف ، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل ، وما أداه إليه اجتهادهم ، ولم يضلل بعضهم بعضا ، ولم يدع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب ، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد تفرق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البلاد ، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهم على وحدتهم وتناصرهم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #172
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 924 الى صـ 930
    الحلقة (172)

    الثاني : قال القاشاني : يعني بالآيات : الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة ، فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة ، وأهواء متفرقة ، وعادات وسيرا متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام ، تتحد عقائدهم وسرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته - كانوا مهملين متفرقين ، فرائس للشيطان ، كشريدة الغنم ، تكون للذئب . ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا بد للناس من إمام بر أو فاجر ، ولم يرسل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين فصاعدا لشأن ، إلا وأمر أحدهما على الآخر ، وأمر الآخر بطاعته [ ص: 924 ] ومتابعته ، ليتحد الأمر وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختل نظام المعاش والمعاد . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة » . وقال : « الله مع الجماعة » . ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذ لم تنضبط برئاسة القلب ، وطاعة العقل - كيف اختل نظامها ، وآلت إلى الفساد والتفرق ، الموجب لخسار الدنيا والآخرة ، ولما نزل قوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ، فقال : « هذا سبيل الرشد ، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه » .

    [ ص: 925 ] الثالث : قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، قدس سره ، في أول كتابه ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) . وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يعتقد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته ، دقيق ولا جليل ، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن إذا وجد لواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه ، فلا بد له من عذر في تركه . وجماع الأعذار ثلاثة أصناف :

    أحدها : عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله .

    الثاني : عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول .

    الثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .

    وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة . ثم أوسع المقال في ذلك .

    وذكر - قدس سره - في بعض فتاويه ، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون : الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر . وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى . فإذا رأى دليلا أقوى من غيره ، ولم ير ما يعارضه ، عمل به ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئا معذورا ، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه ، وخطؤه مغفور له ، وذلك الباطن هو الحكم ، لكن بشرط القدرة على معرفته ، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه ، فإذا أريد بالخطأ الإثم ، فليس المجتهد بمخطئ ، بل كل مجتهد مصيب ، مطيع لله ، فاعل ما أمره الله به ، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر ، فالمصيب واحد ، وله أجران . كما في المجتهدين في جهة الكعبة ، إذا صلوا إلى أربع جهات ، فالذي أصاب الكعبة واحد ، وله أجران لأن اجتهاده وعمله ، [ ص: 926 ] كان أكمل من غيره ، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ومن زاده الله علما وعملا زاده الله أجرا بما زاده من العلم والعمل ، قال تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم ، وكذلك قال في قصة يوسف : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا العلم ، وأن الفقه من أجل العلوم ، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن ، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر ، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر ، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر ، كما قال تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال ، في الأصول والفروع .

    [ ص: 927 ] ثم قال : وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى ، كما في مسائل الأحكام . ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار ، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه ، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون . انتهى .

    فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية ، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق ، بعد وضوحه ، برفضه ، وشتان ما بين الاختلافين . ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات ، فما وجده أقوى دليلا أخذ به ، وإلا تركه . وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيه : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه ، فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول - إذا قام يصلي من الليل - « اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » . فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت ، فاستهدوني أهدكم » . انتهى .

    [ ص: 928 ] الرابع : ذكر بعض المفسرين ، هنا ، ما روي من حديث « اختلاف أمتي رحمة » ، ولا يعرف له سند صحيح ، ورواه الطبراني والبيهقي في ( المدخل ) بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا . قال بعض المحققين : هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك

    ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تختلفوا فتختلف قلوبكم » وغيره من الأحاديث الكثيرة ، والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف - انتهى - .

    [ ص: 929 ] وقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني : الأهواء - كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة ، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ؛ والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به » . قال ابن كثير : وقد روي هذا الحديث من طرق . انتهى .

    نبذة في مبدأ الاختلاف في هذه الأمة من أهل الأهواء :

    ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب : ( الفرقان بين الحق والباطل ) أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر ، وصدرا من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم ، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعا من التفرق ، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم ، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان . ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين . وحدث في أيامه الشيعة أيضا ، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته ، بل كانوا ثلاث طوائف .

    [ ص: 930 ] طائفة : تقول إنه إله ، وهؤلاء ، لما ظهر عليهم ، أحرقهم بالنار .

    والثانية : السابة وكان قد بلغه عن أبي السوداء أنه كان يسب أبا بكر وعمر ، فطلبه قيل : إنه طلبه ليقتله فهرب منه .

    والثالثة : المفضلة الذين يفضلونه على الشيخين ، وقد تواتر عنه أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر . وروى ذلك البخاري في صحيحه .

    ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية ، ثم حدثت المرجئة ، ثم قال : وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام : منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم ، فيبدأ بالخوارج ، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية ، كما فعله كثير من أصحاب أحمد - رضي الله عنه - كعبد الله ابنه ، ونحوه ، وكالخلال ، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ، وكأبي الفرج المقدسي . وكلا الطائفتين تختم بالجهمية ، لأنهم أغلظوا البدع . وكالبخاري في صحيحه . فإنه بدأ بكتاب الإيمان والرد على المرجئة ، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #173
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 931 الى صـ 937
    الحلقة (173)


    ثم قال قدس سره : إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان ، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف ، صار أهل التفرق والاختلاف شيعا ، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدرية والإيمان بالرسول وغير ذلك . ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفهما تأولوه ، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى ، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك . والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن . ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول ، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها . ثم قال - قدس سره - : فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول ، ولا يتقدم بين يديه ، بل [ ص: 931 ] ينظر ما قال ، فيكون قوله تبعا لقوله ، وعلمه تبعا لأمره ، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين . فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس دينا غير ما جاء به الرسول . وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه ، نظر فيما قاله الله والرسول ، فمنه يتعلم وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل ، فهذا أصل أهل السنة .

    وقال - قدس سره - في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء ، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا ، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا ، فإن الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا إلى قوله : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة ، ومن النهي عن المنكر : إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى . ثم قال : ويجب على أولي الأمر ، وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر ، فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله ، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . وقوله تعالى :

    [ ص: 932 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 106 ] يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون

    يوم تبيض وجوه وتسود وجوه أي : تبيض وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين لاتباعها الدين الحق الذي هو النور الساطع . وتسود وجوه كثيرة ، وهي وجوه الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ؛ لاتباعها الضلالات المظلمة ، وليستدل بذلك على إيمانهم وكفرهم ، فيجازى كل بمقتضى حاله ، وهذه الآية لها نظائر ، منها قوله تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ومنها قوله تعالى : ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ومنها قوله : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ومنها قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ومنها : تعرف في وجوههم نضرة النعيم إلى غير ذلك . وللمفسرين في هذا البياض والنضرة والغبرة والقترة وجهان :

    أحدهما : أن البياض مجاز عن الفرح والسرور ، والسواد عن الغم . وهذا مجاز مستعمل ، قال تعالى : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ويقال : لفلان عندي يد بيضاء ، أي : جلية سارة .

    [ ص: 933 ] وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ، ومعناه الاستبشار والتهلل ، وعند التهنئة بالسرور يقولون : الحمد لله الذي بيض وجهك . ويقال لمن وصل إليه مكروه : اربد وجهه واغبر لونه ، وتبدلت صورته . فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه ، فإن كان لك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك ، إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم ، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني .

    والوجه الثاني : أن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين ، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة ، فوجب المصير إليه . ولأبي مسلم أن يقول : الدليل دل على ما قلناه ، وذلك لأنه تعالى قال :

    وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار ، فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا له ، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة والغم والحزن حتى صح هذا التقابل - أفاده الرازي - .

    لطيفة :

    ( يوم ) منصوب إما مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيرا لهم عن عاقبة التفرق بعد مجيء البينات ، وترغيبا في الاتفاق على التمسك بالدين . أي : اذكروا يوم ... إلخ ، أو ظرف للاستقرار في ( لهم ) أو لـ ( عظيم ) أو لـ ( عذاب ) .

    فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالا ، وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال ، وقوله تعالى : ( أكفرتم [ ص: 934 ] بعد إيمانكم ) على إرادة القول ، أي : فيقال لهم ذلك ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم - أفاده أبو السعود - والمعنى : أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان ، وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة ، وما يناجيكم به وجدانكم من صدق هذه الدعوى وحقيتها وشهادته بصحتها ، كما قال تعالى فيما قبل هذه الآية : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات ، وقال للمؤمنين ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم

    فقوله تعالى هنا : أكفرتم بعد إيمانكم محمول على ما ذكر ، حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها ، وهي عامة في حق كل الكفار .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 107 ] وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون

    وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون المراد برحمة الله : الجنة ، عبر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 108 ] تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين

    تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الإشارة إلى ما تقدم من الوعد والوعيد : وما الله يريد ظلما للعالمين أي : لا يشاء أن يظلم عباده ، فيأخذ أحدا بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن . قال الرازي : إنما حسن ذكر الظلم ههنا ، [ ص: 935 ] لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة ، وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك ، وقال : إنهم ما وقعوا فيه إلا لسبب أفعالهم المنكرة ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب . وقال أبو السعود : وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون ، ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد ، كما في قوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 109 ] ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور

    ولله ما في السماوات وما في الأرض أي : له تعالى وحده ، من غير شركة ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا ، وإحياء وإماتة ، وإثابة وتعذيبا : وإلى الله أي : إلى حكمه وقضائه : ترجع الأمور أي : أمورهم فيجازي كلا منهم بما وعده وأوعده ، فلا داعي له إلى الظلم ؟ لأنه غني عن كل شيء ، وقادر على كل شيء .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 110 ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .

    كنتم خير أمة أخرجت للناس كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق ، والدعوة إلى الخير ، و : كنتم من ( كان ) التامة ، والمعنى : وجدتم وخلقتم خير أمة ، أو ( الناقصة ) والمعنى كنتم في علم الله خير أمة ، أو في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة و : أخرجت للناس صفة لأمة ، واللام متعلقة بـ : أخرجت أي : أظهرت لهم حتى تميزت وعرفت ، وفصل بينها وبين غيرها . [ ص: 936 ] ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله : تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض قال أبو السعود : وتؤمنون بالله أي : إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب ، وحساب وجزاء . وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون ، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة ، وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى من شيء . قال تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة ، لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به ما بعده - انتهى - .

    روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى من الناس رعة ، فقرأ هذه الآية : كنتم خير أمة أخرجت للناس ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد [ ص: 937 ] شرط الله فيها . ونظير هذه الآية قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي : خيارا : لتكونوا شهداء على الناس أي : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

    وقد روي في معنى الآية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث وافرة ، منها ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن معاوية بن حيدة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله - عز وجل - » . قال ابن كثير : وهو حديث مشهور ، وقد حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد ونحوه . وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه أشرف خلق الله ، وأكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم ، لم يعطه نبي قبله ، ولا رسول من الرسل ، فالعمل على منهاجه وسبيله ، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه . وقد ذكر الحافظ ابن كثير ههنا حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وساق طرقه ومخرجيه فأجاد - رحمه الله تعالى - .

    ولو آمن أهل الكتاب أي : بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - : لكان خيرا لهم أي : مما هم عليه ، إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العوض القليل الفاني والرياسة التافهة ، وتركهم الغنى الدائم ، والعز الباهر . ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفا : منهم المؤمنون أي : بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ولكنهم قليل : وأكثرهم الفاسقون ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة ، خفف سبحانه عن أوليائه بقوله : القول في تأويل قوله تعالى :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #174
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 938 الى صـ 944
    الحلقة (174)




    [ 111 ] لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون

    لن يضروكم إلا أذى أي : بألسنتهم لا يبالى به من طعن وتهديد : وإن يقاتلوكم [ ص: 938 ] أي : يوما من الأيام : يولوكم الأدبار يعني منهزمين مخذولين : ثم لا ينصرون يعني لا يكون لهم النصر عليكم ، بل تنصرون عليهم . وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله قيلا ؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك . قال ابن كثير : فإنهم يوم خيبر أذلهم الله ، وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلهم الله . وكذلك النصارى بالشام ، كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين . ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ، وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام ، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .

    لطائف :

    قال الزمخشري : فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : ثم لا ينصرون ؟

    قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .

    فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟

    قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .

    فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر ؟

    قلت : جملة الشرط والجزاء . كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .

    فإن قلت : فما معنى التراخي في ثم ؟

    [ ص: 939 ] قلت : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .

    قال الناصر بن المنير : وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى ، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة ، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا ، ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو . فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود ، كأنه قال : ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان ، وأسمح في رتب الإحسان ، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة - والله أعلم - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 112 ] ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

    ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس أي : أحيط بهم الهوان والصغار كما يحيط البيت المضروب بساكنيه أينما وجدوا ، وقوله : إلا بحبل من الله في محل النصب على الحال بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسـين بحبل من الله ، وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين ، أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية . كذا في ( الكشاف ) وباءوا بغضب من الله أي : استوجبوه : وضربت عليهم المسكنة أي : الفقر ، ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل : ذلك أي : ضربت المسكنة والذلة والغضب : بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله أي : استكبارا وعتوا : ويقتلون الأنبياء [ ص: 940 ] أي : الآتين من عند الله حقا . ولما كانوا معصومين دينا ودنيا قال : بغير حق أي : يبيح القتل : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون أي : ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة ، كما هو معلل بكفرهم وقتلهم الأنبياء ، فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل : ذلك إشارة إلى علة العلة ، وهو الكفر والقتل ، أي : حصلا منهم بسبب عصيانهم واعتدائهم ، فإن الإقدام على المعاصي ، والاستهانة بمجاوزة الحدود يهون الكفر . قال الأصفهاني : قال أرباب المعاملات : من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن . ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفرائض ، ومن ابتلي بترك الفرائض وقع في استحقار الشرعية ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر .

    قال برهان الدين البقاعي - رحمه الله تعالى - : والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا. وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم ، لأنه قال في السفر الثاني : وقال الله جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ولا يكون لك آلهة ، لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق ، وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ؛ لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحباري وحافظي وصاياي - انتهى - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 113 ] ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون

    ليسوا سواء جملة مستأنفة سيقت تمهيدا للثناء على من أقبل على الحق من أهل الكتاب ، وخلع الباطل ولم يراع سلفا ولا خلفا ، وتذكيرا لقوله تعالى : منهم المؤمنون أي : ليس أهل الكتاب متساوين ومتشاركين في المساوئ ، ثم استأنف قوله بيانا لعدم استوائهم : [ ص: 941 ] من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون

    في قوله تعالى : قائمة وجوه :

    الأول : أنها قائمة في الصلاة ، وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل كقوله تعالى : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقوله : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وقوله : قم الليل وقوله : وقوموا لله قانتين

    والثاني : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة في التمسك به ، كقوله : إلا ما دمت عليه قائما أي : ملازما للاقتضاء ، ثابتا على المطالبة . ومنه [ ص: 942 ] قوله تعالى : قائما بالقسط

    الثالث : أنها مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، والآناء : الأوقات ، واحدها ( إنا ) مثل ( معى ) و ( أمعاء ) و ( إنى ) مثل ( نحى ) و ( أنحاء ) وقوله تعالى : وهم يسجدون جملة مستقلة مستأنفة ، وليست حالا من فاعل : يتلون لما صح في السـنة من النهي عن التلاوة في السجود ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إلا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم » . فمعنى الآية أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى ، يبتغون الفضل والرحمة كقوله تعالى : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقوله : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ويحتمل أن يكون المعنى : وهم يصلون ، والصلاة تسمى سجودا وسجدة كما تسمى ركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة . وعليه فالجملة يجوز فيها الوجهان ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده . ثم وصفهم تعالى بصفات أخر ، مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 114 ] يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين

    يؤمنون بالله واليوم الآخر أي : على الوجه الذي نطق به الشرع . وظاهر أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله . والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من [ ص: 943 ] المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تعريض بمداهنة اليهود في الاحتساب ، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله ، فإنه أمر بالمنكر ونهي عن المعروف ، وقوله تعالى : ويسارعون في الخيرات صفة أخرى جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير . والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه . وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها ، بل بمبادرتهم إلى الشرور : وأولئك أي : المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة : من الصالحين أي : من عداد من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه ، والوصف بالصلاح دال على أكمل الدرجات . فهو غاية المدح ، ولذا وصفت به الأنبياء في التنزيل : القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 115 ] وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين

    وما يفعلوا من خير فلن يكفروه أي : لن يعدموا ثوابه . وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء . وقرئ الفعلان بالخطاب : والله عليم بالمتقين فيوفيهم أجورهم وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله الآية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #175
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 945 الى صـ 951
    الحلقة (175)




    تنبيه :

    قال البقاعي : أرشد السياق إلى أن التقدير : وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات . وقال الرازي : لما قال تعالى : من أهل الكتاب أمة قائمة كان تمام الكلام أن يقال : ومنهم [ ص: 944 ] أمة مذمومة . إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر . وتحقيقه : أن الضدين يعلمان معا . فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما ، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر ، قال أبو ذؤيب :


    دعاني إليها القلب إني لأمره مطيع فما أدري أرشد طلابها


    أراد : أم غي ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغي ، وهذا قول الفراء وابن الأنباري . وقال الزجاج : لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكرها قد جرى قبل ، ولأنا قد ذكرنا أن العلم بالضدين معا ، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر . كما يقال زيد وعمرو لا يستويان ، زيد عاقل دين ذكي ، فيغني هذا عن أن يقال : وعمرو ليس كذلك . فكذا ههنا . لما تقدم قوله : ليسوا سواء . أغنى عن ذلك الإضمار - انتهى ملخصا - أقول : لا مانع من كون الآية الآتية هي الشق الثاني المقابل للأول . فإن عنوان الذين كفروا مقابل بمفهومه لما قبله كما لا يخفى . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 116 ] إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    إن الذين كفروا لن تغني عنهم أي : لن تدفع عنهم : ( أموالهم ولا أولادهم [ ص: 945 ] من الله شيئا ) أي : من عذاب الله ، وإن كان التصدق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين ، ويغفر لهم بموت أولادهم ، أو استغفارهم : وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ولما بين تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا ، ثم إنهم ربما أنفقوها في وجوه الخيرات ، فيخطر في البال أنهم ينتفعون بها ، فأزال تلك الشبهة ، وضرب لها مثلا بذهابها هباء منثورا بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 117 ] مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون

    مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا من المكارم ويواسون فيه من المغارم : كمثل ريح فيها صر أي : برد شديد كالصرصر : أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله : فأهلكته فكذا ريح الكفر إذا أصابت حرث إنفاق قومه تهلكه . فصار الظلم ريحا لحصوله من هوى النفس ذات برودة شديدة لكونه ظلم الكفر الذي هو الموت المعنوي فأهلكته - قاله المهايمي - .

    وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم بإرسال ريح من عنده : ولكن أنفسهم يظلمون بإرسال ريح الظلم الكفري على حرثهم الأخروي .

    لطائف :

    إن قيل : الغرض تشبيه ما أنفقوا في ضياعه ، بالحرث الذي ضربته الصر ، وقد جعل ما ينفقون ممثلا بالريح ، فما وجه المطابقة للغرض ؟ أجيب : بأن هذا من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين ، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزائيهما ، والمقصود : تشبيه الحال بالحال ؛ ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو : مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح فتحصل المشابهة .

    [ ص: 946 ] قال ناصر الدين في ( الانتصاف ) : والأقرب أن يقال أصل الكلام - والله أعلم - مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته ، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة ، وهو تقديم ما هو أهم ، لأن الريح التي هي مثل العذاب ، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث . فقدمت عناية بذكرها ، واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه . ومثل هذا ، في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة ، قوله تعالى : فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما الآية . ومثله أيضا : أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، والأصل : أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وأن أدعم بها الحائط إذا مال ، وأمثال ذلك كثيرة ، والله الموفق .

    [ ص: 947 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 118 ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون

    يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم أي : أصحابا يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون .

    قال الزمخشري : بطانة الرجل ووليجته : خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشقوره ثقة به . شبه ببطانة الثوب ، كما يقال : فلان شعاري - انتهى - ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره : أفضيت إليه بشقوري - بضم الشين وقد تفتح - أي : أخبرته بأمري ، وأطلعته على ما أسره من غيره . وفي القاموس وشرحه : البطانة : الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال ، والوليجة : هو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر . وقال الزجاج : البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون ، يقال : فلان بطانة لفلان ، أي : مداخل له مؤانس ، وهؤلاء المنهي عنهم ، إما أهل الكتاب ، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس : أنهم اليهود . وذلك لأن السياق في السورة ، والسباق معهم . وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف . وإما المنافقون لقوله بعد : وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا إلخ ، وهذه صفة المنافقين ، كقوله تعالى في سورة البقرة : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم إلخ . وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين [ ص: 948 ] ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار . وإما جميع أصناف الكفار وقوفا مع عموم قوله تعالى : من دونكم كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن ههنا غلاما من أهل الحيرة نصرانيا ، حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتبا ؟ فقال : قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين .

    قال الرازي : فقد جعل عمر - رضي الله عنه - هذه الآية دليلا على النهي من اتخاذ النصراني بطانة .

    وقال الحافظ ابن كثير : ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين ، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب .

    وقال السيوطي في ( الإكليل ) : قال الكيا الهراسي : في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين - انتهى - .

    ووجه ذلك - كما قال القاشاني - : أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ، متحابين في الله لا لغرض . كما قيل في الأصدقاء : نفس واحدة في أبدان متفرقة . فإذا كان من غير أهل الإيمان ، فبأن يكون كاشحا أحرى . ثم بين نفاقهم واستبطانهم العداوة [ ص: 949 ] بقوله : لا يألونكم خبالا أي : لا يقصرون بكم في الفساد .

    قال القاشاني : لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة . فلا تكون في غيرها لكونهم في عالم التضاد . بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع ، والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها . والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها ، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا .

    قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألوا : إذا قصر فيه . ثم استعمل معدى إلى مفعولين . في قولهم : لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه . والخبال : الفساد : ودوا ما عنتم أي : عنتكم ، على أن ما مصدرية ، والعنت : شدة الضرر والمشقة ، أي : تمنوا ما يهلككم : قد بدت البغضاء من أفواههم أي : ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم ، لأنهم لا يتمالكون ، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها ، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين . وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان : وما تخفي صدورهم أكبر مما ظهر ؛ لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة . ومثله يكون قليلا : قد بينا لكم الآيات الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها ، فتخلصوا في الدين ، وتوالوا المؤمنين ، وتعادوا الكافرين : إن كنتم تعقلون أي : من أهل العقل . أو تعقلون ما بين لكم فعملتم به . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع هذه الجمل ؟ قلت : يجوز أن يكون ( لا يألونكم ) صفة للبطانة . وكذلك ( قد بدت البغضاء ) . كأنه قيل : بطانة غير آليكم خبالا ، بادية بغضاؤهم . وأما قد بينا فكلام مبتدأ . وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة .
    ثم بين تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله :

    [ ص: 950 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 119 ] ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور

    ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم أي : تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم ولا يفعلون مثل ذلك بكم ، وقوله : وتؤمنون بالكتاب كله الواو للحال وهي منتصبة من ضمير المفعول في ( لا يحبونكم ) والمعنى : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فلا تنكرون منه شيئا ، فليس فيكم ما يوجب بغضهم لكم . فما بالكم تحبونهم وهم يكفرون بكتابكم كله ؟ .

    ولم تجعل الواو للعطف على ( ولا يحبونكم ) أو ( تحبونهم ) كما ارتضاه أبو حيان لأنه في معرض التخطئة . ولا كذلك الإيمان بالكتاب فإنه محض الصواب . وإن اعتذر له بأن المعنى : يجمعون بين محبة الكفار والإيمان وهما لا يجتمعان ، لبعده ، والحالية مقررة للخطأ فتأمل ، نقله الخفاجي .

    قال الزمخشري : فيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . ونحوه : فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وإذا لقوكم قالوا آمنا نفاقا وتغريرا : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أي : من أجله ، تأسفا وتحسرا . حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا . وعض الأنامل عادة النادم العاجز ، والمغتاظ إذا عظم حزنه على فوات مطلوبه . ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن [ ص: 951 ] الغضب . حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظا ، وإن لم يكن هناك عض : قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ : زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله . وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار . كذا في ( الكشاف ) : إن الله عليم بذات الصدور فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق . وهو يحتمل أن يكون من ( المقول ) أي : وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا . وأن يكون خارجا عنه بمعنى : قل لهم ذلك لا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم ، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم . وقيل : هو أمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطيب النفس ، وقوة الرجاء ، والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمت قول . كأنه قيل : حدث نفسك بذلك - أفاده أبو السعود -
    ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 120 ] إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط

    إن تمسسكم حسنة بظهوركم على العدو ، ونيلكم الغنيمة ، وخصب معاشكم ، وتتابع الناس في دينكم : تسؤهم وإن تصبكم سيئة بإصابة العدو منكم ، أو اختلاف بينكم ، أو جدب أو بلية : يفرحوا بها ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #176
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 952 الى صـ 958
    الحلقة (176)




    لطيفة :

    المس أصله باليد ، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسا . والتعبير به في جانب الحسنة ، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن . وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله : ( إن تصبك [ ص: 952 ] حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة ) وقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وقال : إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا

    قال ناصر الدين في ( الانتصاف ) : يمكن أن يقال : المس أقل تمكنا من الإصابة ، وكأنه أقل درجاتها ، فكأن الكلام - والله أعلم - إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها . وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها ، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم ، ولا في هذه الحال ، بل يفرحون ويسرون . والله أعلم - انتهى - .

    وهذا من أسرار بلاغة التنزيل . فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن . فإذا ساءهم أقل خيرنا ، فغيره أولى ، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلا . فكيف تتخذونهم بطانة ؟ . قال البقاعي : ولما كان هذا الأمر منكيا غائظا مؤلما - داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال : وإن تصبروا وتتقوا أي : تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب ، وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم ، والالتجاء إلى ولايتهم : لا يضركم كيدهم شيئا لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره : ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه . والمستعين بغيره : مخذول موكول إلى نفسه ، محروم عن نصرة ربه ، أفاده القاشاني .

    [ ص: 953 ] وقيل : المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به ، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال ، جريئا على الخصم . و ( الكيد ) : الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه : إن الله بما يعملون محيط قرئ بياء الغيبة ، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه . وبتاء الخطاب ، أي : بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله .

    تنبيه مهم :

    قال الرازي : إطلاق لفظ ( المحيط ) على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء ، قادرا على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله : والله من ورائهم محيط انتهى .

    أقول : ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث ، وأخذ خاصتها به ، وهو قياس مع الفارق . والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب ، لا من الوضع المحدث . فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعان ، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني ، وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير ( الرحمن الرحيم ) من البسملة أول التنزيل الجليل . فارجع إليها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 121 ] وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم

    وإذ غدوت أي : خرجت : من أهلك تبوئ أي : تنزل : المؤمنين مقاعد أي : أماكن ومراكز يقفون فيها : للقتال والله سميع عليم ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآيات نزلت في وقعة أحد ، والسر في سوق هذه الوقعة الأحدية وإيلائها البدرية ، [ ص: 954 ] هو تقرير ما سبق . فإن المدعى فيما قبلها المساءة بالحسنة والمسرة بالمصيبة ، وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدو ، إذا هم صبروا واتقوا ، والتغيير إذا غيروا . أي : اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد ، فأصيبوا ، وسرت الأعداء مصيبتكم ، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدو نصرهم . وفي توجيه الخطاب إليه - صلى الله عليه وسلم - تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل ، من غير أدنى وقوف مع المألوف كذا يستفاد من تفسير البقاعي .

    وهذه الآية هي افتتاح القصة ، وقد أنزل فيها ستون آية ، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي في هذه الوقعة ، كما سيذكر ، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب ؛ لذهاب أكابرهم ، وجاءوا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ، ولم ينل ما في نفسه ، أخذ يؤلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش . وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن ، ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريبا من جبل أحد ، واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه : أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة . وأن يتحصنوا بها ، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي ، وكان هو الرأي ، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، وألحوا عليه في ذلك ، فنهض ودخل بيته ، ولبس لأمته ، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحين ، وقالوا : أكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج ، فقالوا : يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما ينبغي لنبي ، إذا لبس لأمته ، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه » .

    وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 955 ] ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رؤيا وهو بالمدينة : رأى أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقرا تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة في سيفه : برجل يصاب من أهل بيته ، وتأول البقر : بنفر من أصحابه يقتلون ، وتأول الدرع : بالمدينة . فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط ، بين المدينة وأحد ، انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس ، مغاضبا لمخالفة رأيه في المقام . فتبعهم عبد الله بن عمرو ، والد جابر ، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع . فرجع عنهم وسبهم ، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ، وسلك حرة بني حارثة ، ومر بين الحوائط ، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به ، حتى نزل الشعب من أحد مستندا إلى الجبل ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم ، فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبعمائة . فيهم خمسون فارسا وخمسون راميا وأمر على الرماة عبد الله بن جبير . وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر . وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين يومئذ ، وأعطى اللواء مصعب بن عمير ، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو . واستعرض الشباب يومئذ . فرد من استصغره عن القتال . منهم : عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقا . منهم : سمرة بن جندب ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة . فقيل : أجاز من أجازه ، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ، ورد من رد لصغره عن سن البلوغ . وقالت طائفة : إنما أجاز من أجاز لإطاقته ، ورد من رد لعدم إطاقته ، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك . قالوا : وفي بعض ألفاظ لحديث ابن عمر : فلما رآني مطيقا أجازني . [ ص: 956 ] وتعبت قريش للقتال ، وهم في ثلاثة آلاف ، وفيهم مائتا فارس ، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه إلى أبي دجانة ( سماك بن خرشة ) ، وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب ، وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق ، واسمه : عبد بن عمرو بن صيفي ، وكان يسمى : ( الراهب ) لترهبه وتنسكه في الجاهلية ، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الفاسق ) . وكان رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه . فكان أول من لقي من المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم . قالوا : لا أنعم الله لك عينا يا فاسق ! فقاتل المسلمين قتالا شديدا ، وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديدا ، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين واشتد القتال ، وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم . فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه ، وقالوا : يا قوم ! الغنيمة ! الغنيمة ! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة ، فكر المشركون وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووصل العدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل ، وجرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة في رأسه ، يقال : إن الذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثي . وشد حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله ، فاعترضه شداد بن الأسود الليثي ، من شعوب ، فقتله . وكان جنبا . فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة غسلته . [ ص: 957 ] وأكبت الحجارة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سقط من بعض حفر هناك ، فأخذ علي بيده ، واحتضنه طلحة حتى قام ، ومص الدم من جرحه مالك بن سنان الخدري ، والد أبي سعيد ، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه - صلى الله عليه وسلم - فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح . فندرت ثنيتاه فصار أهتم . ولحق المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكر دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن ، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون . وأبو دجانة يلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان . فرجع وهي على وجنته ، فردها عليه السلام بيده فصحت . وكانت أحسن عينيه . وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة وقد دهشوا ، وقالوا : قتل رسول الله ، فقال : فما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ، ووجد به سبعون ضربة ، وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها . وقتل حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - . ونادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ، لأن عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمير ، يظن أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - . ووهن المسلمون لصريخ الشيطان . ثم إن كعب بن مالك الشاعر ، من بني سلمة ، عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فنادى بأعلى صوته يبشر الناس . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له : أنصت . فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب ، وأدركه أبي بن خلف في الشعب ، فتناول - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة وطعنه بها في عنقه ، فكر أبي منهزما . وقال له المشركون : ما بك من بأس . فقال : والله ! لو بصق علي لقتلني ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد توعده بالقتل . فمات عدو الله بسرف ، مرجعهم إلى مكة . ثم جاء علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالماء فغسل وجهه ونهض . فاستوى على صخرة من الجبل . وحانت الصلاة فصلى بهم قعودا . وغفر الله للمنهزمين من المسلمين . ونزل : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان الآية . [ ص: 958 ] واستشهد نحو من سبعين . معظمهم من الأنصار . وقتل من المشركين اثنان وعشرون . ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة . ويقال : إنه قال لعلي : لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا .

    هذا ملخص هذه القصة . وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير . وفيما ذكر كفاية . وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة ، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) فارجع إليه .

    تنبيه :

    فسر أكثر العلماء ( غدوت ) بأصلها ، وهو الخروج غدوة ، أي : بكرة . ثم استشكلوا أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير ، فكيف المطابقة ؟

    فمنهم من أجاب بأن المراد غدوة السبت ، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد ، إلا أنه لا يساعده : ( من أهلك ) لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه .

    ومنهم من قال : المراد : غدوة الجمعة أي : اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين ، ثم قال : وبنى من ( غدوت ) حالا إعلاما بأن الشروع في السبب شروع في مسببه ، فقال : ( تبوئ المؤمنين ) أي : صبيحة يوم السبت .

    وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدو بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة ، وكثيرا ما يستعمل كذلك .

    ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ، ونصه : وعبر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه - صلى الله عليه وسلم - خرج بعد صلاة الجمعة ، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال : ( أضحى ) وإن لم يكن في وقت الضحى - انتهى - .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #177
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 959 الى صـ 965
    الحلقة (177)





    [ ص: 959 ] قال البقاعي : ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق ، كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة ، من الأدلة على أن المنافقين ، فضلا عن المصارحين بالمصارمة ، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء ، مع أنه كان سببا في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل . كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد ، في غاية المناسبة . ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلا من ( إذ غدوت ) دليلا على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 122 ] إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون

    إذ همت طائفتان منكم أي : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس : أن تفشلا أي : تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم ، فعصمهما الله ، فمضيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله وليهما ناصرهما ، ومتولي أمرهما ، فأمدهما بالتوفيق والعصمة وعلى الله وحده دون ما عداه استقلالا أو اشتراكا : فليتوكل المؤمنون في جميع أمورهم ، فإنه حسـبهم ، والتوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ، ولم يتوله بنفسه . وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل . روى الشيخان عن جابر - رضي الله عنه - قال : فينا نزلت : ( إذ همت [ ص: 960 ] طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ) - قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى : والله وليهما

    أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية . وإن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 123 ] ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون

    ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر . وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عددا وعددا ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة . ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين ، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد . و ( بدر ) موضع بين الحرمين ، إلى المدينة أقرب ، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا . أو اسم بئر هناك ، حفرها رجل اسمه بدر، وقوله : لعلكم تشكرون أي : راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته . وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر ، وكانت في شهر رمضان ، السنة الثانية من الهجرة . وكان سـببها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة . معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش ، عميدهم أبو سفيان ، ومعه عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل .

    فندب - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه العير . وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج . ولم يحتفل في الحشد ، لأنه لم يظن قتالا . وخرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، لم يكن معهم من الخيل إلا فرسان ، وكان معهم سبعون بعيرا يتعقبونها . واتصل خروجه بأبي سفيان ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم . فنفروا وأوعبوا . وخرج - صلى الله عليه وسلم - لثمان خلون من رمضان ، واستخلف على الصلاة عمرو بن أم مكتوم ، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، ودفع إلى [ ص: 961 ] علي راية ، وإلى رجل من الأنصار راية أخرى ، يقال : كانتا سوداوين . وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة . وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام ، ثم إلى بئر الروحاء ، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء . وبعث - صلى الله عليه وسلم - قبلها بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر ، يتجسسان أخبار أبي سفيان وعيره ، ثم تنكب عن الصفراء يمينا ، وخرج على وادي دقران ، فبلغه خروج قريش ونفيرهم ، فاستشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون ، وأحسنوا ، وهو يريد ما يقول الأنصار ، وفهموا ذلك ، فتكلم سعد بن معاذ ، وكان فيما قال : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله . فسر بذلك ، وقال : « سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين » .

    ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر ، وبعث عليا والزبير وسعدا في نفر يلتمسون الخبر . فأصابوا غلامين لقريش ، فأتوا بهما ، وهو - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي ، وقالوا : نحن سقاة قريش ، فكذبوهما ، كراهية في الخبر ، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة ، فجعلوا يضربونهما فيقولان : نحن من العير . فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنكر عليهم ، وقال للغلامين : أخبراني أينقريش ؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب وأنهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « القوم ما بين التسعمائة والألف » .

    وقد كان بسبس وعدي مضيا يتجسسان ولا خبر ، حتى نزلا وأناخا قرب الماء ، واستقيا في شن لهما ، ومجدي بن عمرو من جهينة يقربهما . فسمع عدي جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها : العير تأتي غدا أو بعد غد ، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك ، وجاءت إلى مجدي بن عمرو ، فصدقها . فرجع بسبس وعدي بالخبر . وجاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر . فقال لمجدي : هل أحسست أحدا ؟ فقال : راكبين أناخا يميلان لهذا التل ، فاستقيا الماء ونهضا . فأتى أبو سفيان مناخهما . وفتت من أبعار رواحلهما . فقال : هذه - والله - علائف يثرب . فرجع سريعا وقد حذر ، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا . وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا .

    فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، ونقيم به ثلاثا ، وتهابنا العرب أبدا ، [ ص: 962 ] ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة ، وكان حليفهم ومطاعا فيهم ، وقال : إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت ، فارجعوا . وكان بنو عدي لم ينفروا مع القوم ، فلم يشهد بدرا من قريش عدوي ولا زهري . وسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا إلى ماء بدر ، وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم ، وأصاب مما يلي المسلمين دهس الوادي ، وأعانهم على السير . فنزل - صلى الله عليه وسلم - على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة ، فقال له الحباب بن المنذر : آلله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه ، أم قصدت الحرب والمكيدة ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « لا بل هو الرأي والحرب » . فقال : يا رسول الله ! ليس هذا بمنزل ، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونبني عليه حوضا ، ونملؤه ونغور القلب كلها ، فنكون قد منعناهم الماء ، فاستحسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    ثم بنوا عريشا على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتيه النصر من ربه ، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا .

    ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يحزر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر . ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش ، ولا يكون الحرب ، فأبى أبو جهل ، وساعده المشركون ، وتواقفت الفئتان ، وعدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفوف بيده ، ورجع إلى العريش ، ومعه أبو بكر وحده ، وطفق يدعو ويلح ، وأبو بكر يقاوله . ويقول في دعائه : اللهم ! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، اللهم ! أنجز لي ما وعدتني .

    وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه ، وأخفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انتبه ، فقال : أبشر يا أبا بكر ! فقد أتى نصر الله . ثم خرج يحرض الناس . ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول : شاهت الوجوه . ثم تزاحفوا ، فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز ، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ، فقتل حمزة وعلي شيبة والوليد ، وضرب عتبة عبيدة ، فقطع رجله فمات ، وجاء حمزة وعلي إلى عتبة فقتلاه ، [ ص: 963 ] وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلا قومهم . وجال القوم جولة ، فهزم المشركون . وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا . وأسر سبعون . واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا . ثم انجلت الحرب ، وانصرف إلى المدينة ، وقسم الغنائم في الصفراء ، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان
    ، وبسط القصة في السـير . ومن أبدعها سياقا وفقها ( زاد المعاد ) فليرجع إليه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 124 ] إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين

    إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم لتقويتكم ونصركم ودفع أعدائكم : بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين من سمائه لقتال أعدائه . وقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 125 ] بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين

    بلى إما من تتمة مقوله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين ، أو ابتداء خطاب من الله تعالى تأييدا لقول نبيه وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا . أي : نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف ، ولكنه يزيدكم : إن تصبروا على قتالهم : وتتقوا الفرار عنهم : ويأتوكم من فورهم هذا أي : ساعتهم هذه فلا تنزعجوا بمفاجأتهم : يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم : مسومين بكسر الواو أي : معلمين أنفسهم بأداة الحرب على عادة الفرسان يوم اللقاء ليعرفوا بها . وقرئ [ ص: 964 ] بفتح الواو ، أي : معلمين من قبله تعالى . روى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر : « هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة للحرب » .

    تنبيه :

    وفي وعده - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين بالإمداد بقوله : إذ تقول وجهان :

    الأول : أنه كان في يوم بدر ، فإن سياق ما قبله يدل عليه وهو قوله : ولقد نصركم الله ببدر فـ ( إذ ) ظرف لـ ( نصركم ) ، أي : نصركم وقت قولك للمؤمنين وقد أظهروا العجز واستغاثوا ربهم . فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، على هذا الوجه ، وبين قوله في سورة الأنفال في قصة بدر : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين

    فالجواب : أن التنصيص على الألف ههنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها ، لقوله ( مردفين ) بمعنى يردفهم غيرهم ، ويتبعهم ألوف أخر مثلهم ، وذلك أنهم لما استغاثوا أمدهم بألف ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا وأقوى لتقويتهم ، وأسرها من أن يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ، ونزوله مرة بعد مرة . قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . ومما يؤيد هذا الوجه أن سياق بدر في الأنفال من قوله تعالى : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآيات شبيهة بهذا السياق هنا ، كما يذوقه من تدبره .

    [ ص: 965 ] الوجه الثاني : أن هذا الوعد كان يوم أحد ، فإن القصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها ؛ ليذكرهم بنعمته عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، وإنه كذلك هو قادر على نصرهم في سائر المواطن . ثم عاد إلى قصة أحد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم الآية . ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف . فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف . وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذاك مطلق ، والقصة في هذه السورة هي قصة أحد مستوفاة مطولة ، وبدر ذكرت فيها اعتراضا ، والقصة في الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق هنا غير السياق في الأنفال - أشار لذلك ابن القيم في ( زاد المعاد ) .

    وقد انتصر للوجه الأول العلامة أبو السعود ، وبين ضعف الثاني بأوجه وجيهة . فليرجع إليه .

    ونقل الخازن عن ابن جرير أنه قال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله .

    ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم . وقد يجوز أن يكون الله - عز وجل - أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم . وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك . ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف . ولا بالخمسة الآلاف .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #178
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 966 الى صـ 972
    الحلقة (178)



    [ ص: 966 ] وغير جائز ، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة ، ولا خبر به كذلك ، فنسلم لأحد الفريقين قوله .

    غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة ، وذلك قوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين

    فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا . وذلك أنهم لو أمدوا ، لم يهزموا ، وينال منهم ما نيل منهم .

    فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره .

    هذا هو نص ابن جرير . صفحة 180 - 181 من الجزء السابع طبعة المعارف .

    فإن قلت : فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المروي في الصحيحين أنه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض ، كأشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد ، يعني : جبريل وميكائيل ؟ قلت : إنما كان ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد . انتهى .

    فائدة :

    الإمداد لغة : الإعانة . والمراد هنا إعانة الجيش . وهل إعانة الملائكة للجيش بالقتال معهم للحديث السابق . ولحديث عائشة في الصحيحين قالت : لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 967 ] من الخندق ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل فقال : قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعناه ، اخرج إليهم ! قال : فإلى أين ؟ قال : ههنا - وأشار إلى بني قريظة ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم - أو هي بتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم ، كما قال تعالى في الأنفال : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب أو بهما معا وهو الظاهر . وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة ، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه ، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش ، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده . والله فاعل الجميع - انتهى - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 126 ] وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم

    وما جعله الله إلا بشرى لكم أي : ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به ، فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم : ولتطمئن أي : تسكن : قلوبكم به أي : فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم : وما النصر إلا من عند الله وحده ، لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فالأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير ، وفيه توثيق للمؤمنين ، وعدم إقناط من النصر عند فقدان أسبابه وأماراته : العزيز أي : الذي لا يغالب في حكمه : الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته الباهرة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 127 ] ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين

    ليقطع طرفا من الذين كفروا أي : ليهلك وينقص طائفة منهم بالقتل والأسر ، [ ص: 968 ] كما كان يوم بدر ، من قتل سبعين وأسر سبعين منهم ، واللام متعلقة ، إما بقوله تعالى : ولقد نصركم الله

    وما بينهما تحقيق لحقيقته ، وبيان لكيفية وقوعه - وإما بما تعلق به الخبر في قوله تعالى : وما النصر إلا من عند الله من الثبوت والاستقرار : أو يكبتهم أي : يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة تقوية للمؤمنين : فينقلبوا خائبين أي : فيرجعوا منقطعي الآمال ، وإنما أوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 128 ] ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون

    ليس لك من الأمر شيء اعتراضا لئلا يغفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور ، فيحتجب عن التوحيد ، أي : ليس لك من أمرهم شيء ، كيفما كان ، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار . إن عليك إلا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله - أفاده القاشاني - وفي الاعتراض تخفيف من حزنه لكفرهم ، وحرصه على هداهم ، كما قال : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وقوله تعالى : أو يتوب عليهم أي : مما هم فيه من الكفر فيهديهم للإسلام بعد الضلالة : أو يعذبهم أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم : فإنهم ظالمون أي : يستحقون ذلك لاستمرارهم على العناد .

    روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع ، فربما قال ، إذا قال سمع الله لمن حمده : « اللهم ! ربنا ولك الحمد ، اللهم ! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم ! اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف » يجهر بذلك ، [ ص: 969 ] وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : « اللهم العن فلانا وفلانا » لأحياء من العرب حتى أنزل الله : ليس لك من الأمر شيء الآية .

    وقد أسند ما علقه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر ، يقول : « اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا » . بعد ما يقول : « سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد » . فأنزل الله : ليس لك من الأمر شيء الآية ، ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر أيضا ولفظه : « اللهم العن فلانا وفلانا ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه الآية : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم الآية » . فتيب عليهم كلهم .

    وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حميد ، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : « كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم - عز وجل - » ، فأنزل الله : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم الآية - انفرد به مسلم . ورواه البخاري تعليقا . وقد تقدم لنا في مقدمة التفسير تحقيق معنى سبب النزول ، وأن الآية قد تذكر استشهادا في مقام ، لكونها مما تشمله . فيطلق الراوي عليها النزول فيه ، ولا يكون قصده أن هذا كان سببا لنزولها ، والحكمة في منعه - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء عليهم ظهرت من توبتهم أخيرا ، والإلحاح في الدعاء مظنة الإجابة ، ولا سيما من أشرف خلقه . فاقتضت حكمته تعالى إمهالهم إلى أن يتوبوا لسابق علمه فيهم . وفيه طلب التفويض في الأمور الملمة، لما في طيها من الأسرار الإلهية .

    [ ص: 970 ] لطيفة :

    قوله تعالى : أو يتوب عليهم منصوب بإضمار ( أن ) في حكم اسم معطوف بـ ( أو ) على ( الأمر ) أو على ( شيء ) ، أي : ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم ، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم .

    أقول : جعل : أو يتوب منصوبا بالعطف على ( يكبتهم ) بعيد جدا . وإن قدمه بعض المفسرين على الوجه المتقدم . وذلك لأن قوله تعالى : ليس لك كلام مستأنف على ما صرحت به الروايات في سبب النزول . وهي المرجع في التأويل - والله أعلم - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 129 ] ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم

    ولله ما في السماوات وما في الأرض تقرير لما قبله من قوله : ليس لك من الأمر شيء أي : له ما فيهما ملكا وأمرا : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء فيحكم في خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل : والله غفور رحيم تذييل مقرر لمضمون قوله : ( يغفر لمن يشاء ) ، مع زيادة . وفي تخصيص التذييل به دون قرينة ، من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى - أفاده أبو السعود - .

    [ ص: 971 ]

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 130 ] يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون

    يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه ، كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وأزيد في الأجل . وفي ندائهم باسم ( الإيمان ) ؛ إشعار بأن من مقتضى الإيمان وتصديقه ترك الربا . وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى . ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وقوله : أضعافا مضاعفة أي : زيادات متكررة ، وليست لتقييد النهي به ، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ، بل لمراعاة عادتهم كما بينا . ومحله النصب على الحالية من الربا . وقرئ ( مضعفة ) : واتقوا الله فيما تنهون عنه : لعلكم تفلحون بإيفاء حقوقكم وصونكم عن أعدائكم ، كما صنتم حقوق الأشياء .


    ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد ، ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن عمرو بن أقيش - رضي الله عنه - كان له ربا في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد ، فقال : أين بنو عمي ؟ قالوا : بأحد . قال : أين فلان ؟ قالوا : بأحد ، قال : فأين فلان؟ قالوا : [ ص: 972 ] بأحد. فلبس لأمته ، وركب فرسه ثم توجه قبلهم . فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو ! قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى جرح ، فحمل إلى أهله جريحا ، فجاءه سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال لأخته : سليه : حمية لقومك وغضبا لهم أم غضبا لله - عز وجل - ؟ فقال : بل غضبا لله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . فمات ، فدخل الجنة ، وما صلى لله - عز وجل - صلاة .

    قال الدينوري : وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط ! فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة : هو أخو بني عبد الأشهل .

    وعند ابن إسحاق : فذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « إنه لمن أهل الجنة » ، فهذا ملخص ما أورده البقاعي - رحمه الله تعالى - .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 131 ] واتقوا النار التي أعدت للكافرين

    واتقوا النار التي أعدت للكافرين بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه . روي عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه كان يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 132 ] وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون

    وأطيعوا الله والرسول أي : في ترك الربا ونحوه : لعلكم ترحمون



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #179
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 973 الى صـ 979
    الحلقة (179)



    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 133 ] وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين

    وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة أي : إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار [ ص: 973 ] والتوبة والأعمال الصالحة . وقوله : عرضها السماوات والأرض أي : كعرضهما ، كما قال في سورة الحديد : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض وفي العرض وجهان :

    الأول : أنه على حقيقته . وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها ، فإن العرض في العادة أدنى من الطول ، كما قال تعالى في صفة فرش الجنة : بطائنها من إستبرق أي : فما ظنك بظاهرها ؟ فكذا هنا .

    والثاني : أنه مجاز عن السعة والبسطة . قال القفال : ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة أي : واسعة عظيمة . والأصل فيه : أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة . وقال الزمخشري : المراد وصفها بالسعة والبسطة . فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه . والله أعلم أعدت للمتقين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 134 ] الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين

    الذين ينفقون في السراء أي : في حال الرخاء واليسر : والضراء أي : في حال الضيقة والعسر . وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس ، فمخالفتها فيه منقبة [ ص: 974 ] شامخة : والكاظمين الغيظ أي : الممسكين عليه في نفوسهم ، الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه .

    روى الإمام أحمد عن جارية بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل علي لعلي أعيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تغضب » . فأعاد عليه . حتى أعاد عليه مرارا . كل ذلك يقول : « لا تغضب » - انفرد به أحمد - وروي من طريق آخر أن رجلا قال : يا رسول الله أوصني ، قال : « لا تغضب » قال الرجل : ففكرت حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله : والعافين عن الناس أي : ظلمهم لهم ، ولو كانوا قد قتلوا منهم ، فلا يؤاخذون أحدا بما يجني عليهم ، ولا يبقى في أنفسهم موجدة ، كما قال تعالى : وإذا ما غضبوا هم يغفرون قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا . فنهي المؤمنون عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين ، قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية : فمن عفي له من أخيه شيء إلى قوله : وأن تصدقوا خير لكم ويحتمل [ ص: 975 ] أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مثلوا بحمزة وقال : « لأمثلن بهم » . فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه ، والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا . قال تعالى في هذه القصة : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين - انتهى - .

    وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر ؛ إذ لا تعيين : والله يحب المحسنين اللام إما للجنس ، وهم داخلون فيه دخولا أوليا . وإما للعهد ، عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي ، وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بقوله : « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك » . والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها - أفاده أبو السعود - .

    [ ص: 976 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 135 ] والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون

    والذين إذا فعلوا فاحشة من السيئات الكبار : أو ظلموا أنفسهم أي : بأي نوع من الذنوب : ذكروا الله أي : تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه : فاستغفروا لذنوبهم أي : لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى .

    قال البقاعي : ولما كان هذا مفهما أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب ، أتبعه بتحقيق ذلك ، ونفى القدرة عليه عن غيره ، مرغبا في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله : ومن يغفر الذنوب أي : يمحو آثارها حتى لا تذكر . ولا يجازى عليها : إلا الله أي : الملك الأعلى . وقال أبو السعود : ( من ) استفهام إنكاري . أي : لا يغفر الذنوب أحد إلا الله ، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء ، فيسارع إلى الجواب به ، والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة ، والجملة معترضة بين المعطوفين ، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه ، والإشعار بالوعد بالقبول .

    وقال الزمخشري : في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه ، وجب العفو والتجاوز ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل ، وكرمه أعظم ، والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة - انتهى - .

    [ ص: 977 ] وفي مسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « عرف الحق لأهله » . وفيه أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .

    وفيه أيضا عن علي - رضي الله عنه - قال : كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر - رضي الله عنه - حدثني ، وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ، ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله - عز وجل - إلا غفر له » ، ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن : ولم يصروا أي : لم يقيموا : على ما فعلوا أي : ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار . وهم يعلمون حال من فاعل يصروا أي : لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه ، والنهي عنه، والوعيد عليه . والتقييد بذلك ؛ لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح . وقد روى أبو داود والترمذي والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن أبي بكر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » ، [ ص: 978 ] وإسناده لا بأس به . قال ابن كثير : وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك - فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى أبي بكر، فهو حديث حسن . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 136 ] أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين

    أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة : جزاؤهم مغفرة من ربهم أي : ستر لذنوبهم : وجنات تجري من تحتها الأنهار أي : من أنواع المشروبات : خالدين فيها ونعم أجر العاملين المخصوص بالمدح محذوف ، أي : ذلك . يعني : ما ذكر من المغفرة والجنات ، ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصة أحد ، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 137 ] قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

    قد خلت أي : مضت : من قبلكم سنن أي : وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين : فسيروا في الأرض التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم : فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي : وقيسوا بها عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال ، والأمر بالسير والنظر ؛ لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا في الاعتبار ، والروعة أقوى من أثر السماع .

    [ ص: 979 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 138 ] هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين

    هذا أي : القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين : بيان للناس وهدى وموعظة أي : تخويف نافع : للمتقين ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 139 ] ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين

    ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين أي : لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ، ولا تحزنوا على من قتل منكم ، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم ، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم ، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق ، وقوله : إن كنتم مؤمنين متعلق بالنهي أو بـ ( الأعلون ) . وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه . أي : إن كنتم مؤمنين ، فلا تهنوا ولا تحزنوا ، فإن الإيمان يوجب قوة القلب ، والثقة بصنع الله تعالى ، وعدم المبالاة بأعدائه . أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون . فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة - أفاده أبو السعود - .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #180
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,164

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    صـ 980 الى صـ 986
    الحلقة (180)


    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 140 ] إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين

    إن يمسسكم قرح بالفتح والضم قراءتان ، وهما لغتان ، كالضعف والضعف ، أي : [ ص: 980 ] إن أصابكم يوم أحد جراح : فقد مس القوم قرح مثله أي : يوم بدر ، ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى ، لأنكم موعودون بالنصر دونهم ، أي : فقد استويتم في الألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أصبتم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته . وقيل : كلا المسـين كان يوم أحد ، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وتلك الأيام أي : أيام هذه الحياة الدنيا : نداولها بين الناس أي : نصرفها بينهم ، نديل تارة لهؤلاء ، وتارة لهؤلاء فهي عرض حاضر ، يقسمها بين أوليائه وأعدائه . بخلاف الآخرة ، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا .

    قال ابن القـيم - قدس سره - في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد :

    ومنها : أن حكمة الله وسـنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة . فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المسلمون وغيرهم ، ولم يميز الصادق من غيره . ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة . فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة - انتهى - .

    وقوله تعالى : وليعلم الله الذين آمنوا قال ابن القيم : حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم ، علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم [ ص: 981 ] الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس .

    لطيفة :

    في الآية وجهان :

    أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا معناه : وليعلم إلخ . فعلنا ذلك .

    الثاني : أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه ، معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه - أفاده الزمخشري - .

    تنبيه :

    في هذه الآية بحث مشهور ، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله إلخ . وقوله : ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين وقوله : لنعلم أي الحزبين أحصى وقوله : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ ص: 982 ] وقوله : إلا لنعلم من يتبع الرسول

    قال الرازي : وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .

    ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه ، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة :

    منها : أنها من باب التمثيل . فالتقدير في هذه الآية : ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم .

    ومنها : أن العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب ، أي : ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم .

    ومنها : أن العلم على حقيقته ، إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم ، من حيث إنه واقع موجود بالفعل ، أي : ليعلم الثابت واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد ، وهذا ما اعتمده ابن القيم كما نقلناه أولا .

    ومنها : أن الكلام على حذف مضاف . أي : ليعلم أولياء الله ، فأضاف إلى نفسه تفخيما . والله أعلم .

    ثم ذكر حكمة أخرى ، وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء ، بقوله : ويتخذ منكم شهداء أي : وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق ، واستماتة دونه ، وإعلاء لكلمته ، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده ، وقد أعد لهم أعلى [ ص: 983 ] المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة . وفي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب ، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى . وقوله : والله لا يحب الظالمين قال ابن القيم : تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ، ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم ، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه . انتهى .

    فالتعريض بالمنافقين ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم ، تنبيها على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم ، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين . ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 141 ] وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين

    وليمحص الله الذين آمنوا أي : لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس . وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم . فحصل لهم تمحيصان : تمحيص من نفوسهم ، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدو . ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله : ويمحق الكافرين أي : يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا . فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ، إذ جرت سنة الله تعالى ، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم . ومن أعظمها - بعد كفرهم - بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم . والمحق : ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء ، وقد محق الله الذين حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، وأصروا على الكفر جميعا ، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه ، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه : فقال :

    [ ص: 984 ]
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 142 ] أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين

    أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين أي : ولما يقع ذلك منكم فيعلمه ، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة . فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، لا على مجرد العلم ، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه - أفاده ابن القيم - .

    وفي ( الكشاف ) : ولما يعلم الله بمعنى : ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه ، يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيرا ، يريد ما فيه خير حتى يعلمه ، و ( لما ) بمعنى ( لم )، إلا أن فيها ضربا من التوقع ، فدل على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل ، وتقول : وعدني أن يفعل كذا ولما . تريد : ولما يفعل ، وأنا أتوقع فعله .

    لطيفة :

    قال أبو مسلم في : أم حسبتم إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون وافتتح الكلام بذكر ( أم ) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين ، يشك في أحدهما لا بعينه . يقولون : أزيدا ضربت أم عمرا ؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما . قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا ، فلما قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ! . وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح فيها في الدين [ ص: 985 ] وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة - انتهى - .

    ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه فقال :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [ 143 ] ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون

    ولقد كنتم تمنون الموت أي : الحرب ، فإنها من مبادئه ، أو الموت على الشهادة : من قبل أن تلقوه أي : تشاهدوه وتعرفوا هوله : فقد رأيتموه أي : ما تتمنونه من أسباب الموت ، أو الموت بمشاهدة أسبابه العادية ، أو قتل إخوانكم بين أيديكم : وأنتم تنظرون حال من ضمير المخاطبين ، وفي إيثار الرؤية على الملاقاة ، وتقييدها بالنظر ، مبالغة في مشاهدتهم له .

    قال ابن عباس : لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة ، رغبوا في الشهادة ، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون إخوانهم ، فأراهم الله ذلك يوم أحد ، وسببه لهم ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فأنزل الله تعالى : ولقد كنتم تمنون الآية . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف » .

    [ ص: 986 ] قال أهل المغازي : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، أقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فذب عنه مصعب بن عمير - رضي الله عنه - وهو يومئذ صاحب رايته ، فقتله ابن قميئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع فقال : قد قتلت محمدا ، وصرخ الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل . فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال . ففي ذلك أنزل الله تعالى :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •