السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني الكرام سوف أضع لكم كلاماً مطولاً ومفصلاً عن عارض الجهل ومدى تأثيره على أفعال المكلف سواء في أبواب فروع الدين أو أصوله .. ونريد منكم أن تعلقوا على هذا الكلام الهام زادكم الله علماً وعملاً وجزاكم خير الجزاء.
وهـذا أوان الشروع في المقصود بعون الله عزوجل.
يقول شيخ المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في كتابه الرائع : ( التبصير في معالم أصول الدين ) مجيباً على من سأله عن بعض المسائل العقدية فقال بعد كلامه له:(... اعلموا رحمكم الله أن كل معلوم للخلق من أمر الدين والدنيا لا يخرج من أحد معنيين:
من أن يكون إما معلوماً لهم بإدراك حواسهم إيّاه.
وأما معلوماً لهم بالإستدلال عليه بما أدركته حواسهم.
ثم لن تعدو جميع أمور الدين الذي امتحن الله به عباده معنيين:
أحدهما: توحيد الله وعدله ، والأخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام وأقضية وأحكام .
فأما توحيده وعدله: فمُدركةٌ حقيقة علمه استدلالاً بما أدركته الحواس.
وأما شرائعه فمدركة حقيقة علم بعضها حساً بالسمع وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركته حقيقة علمه منه استدلالاً على وجهين:
أحدهما: معذور فيه بالخطأ والمخطئ ، ومأجور فيه الإجتهاد والفحص والطلب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر).
وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفة غير مؤتلفة ، والأصول في الدلالة عليه مفترقة غير متفقة وإن كانت لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه ، فميز بينه وبين السقيم منه غير أنه يغمض بعضه غموضاً يخفى على كثير من طلابه ويلتبس عليه كثير من بغاته.
والأخر منهما: غير معذور بالخطأ فيه مكلف قد بلغ حد الأمر والنهي ، ومكفر بالجهل به الجاهل ، وذلك ما كنت الأدلة الدالة على صحته متفقة غير مفترقة ، ومؤتلفة غير مختلفة وهي مع ذلك ظاهرة للحواس) إهـ.
قلت: واضح جداً أن الإمام الطبري يعتبر المسائل التي تعلم بضرورة الحس لا يعذر فيها المكلف بالجهل أو الخطأ وهذا مثل مسائل الأصول الكبار كالتوحيد بأنواعه الربوبية والألوهية والأسماء والصفات كما سيأتي من كلامه القادم إن شاء الله.
وقال أيضاً رحمه الله:(.. وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حساً ، فغير لازم فرضه أحداً إلا بعد وقوعه تحت حسه ، فأما وهو غير واقع تحت حسه فلا سبيل إلى العلم به مع ارتفاع العلم به، وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولاً يأمر الناس بإقامة خمس صلوات كل يوم وليلة لم يجز أن يكون معذباً على تركه إقامة الصلوات الخمس لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلا بالسماع ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه فلم تلزمه الحجة به وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة) إهـ.
ويقول أيضاً رحمه الله:(... فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقة على الدلالة عليه غير مختلفة وظاهرة للحس غير خفية فتوحيد الله تعالى ذكره والعلم بأسمائه وصفاته وعدله ، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه ، ويوضح له حقيقة صحة ذلك ، ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره ، والخلاف عليه بعد العلم به وبربونيته في أحكام الدنيا وعذاب الآخرة فقال جل ثناؤة:" قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أؤلئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم له يوم القيامة وزناً ".
فسوى جل ثناؤه بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عامل بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له ، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب ، وذلك لما وصفنا من استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله ، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسها فلما استويا في قطع الله جل وعز عذرهما بماأظهر لحواسهما من الأدلة والحجج وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب ، وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشرائع لما وصفت من أن من لم يقطع الله عذره بحجة أقامها عليه بفريضة ألزمه أياها من شرائع الدين فلا سبيل له إلى العلم بوجوب فرضها إذ لا دلالة على وجوب فرضها ، وإذ كان ذلك كذلك لم يكن ماموراً ، وإذا لم يكن مأموراً لم يكن بترك العمل لله عز ذكره عاصياً ولا لأمر ربه مخالفاً ، فيستحق عقابه ، لأن الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومخالفته.)إهـ.
ثم قال الطبري رحمه الله عن الفرق بين الخطأ في التوحيد والشرائع:(... وليست كذلك الأدلة على وحدانية الله جل جلاله وأسمائه وصفاته وعدله بل هي كلها مؤتلفة غير مختلفة ليس منها شئ إلا وهو في ذلك دال على مثل الذي دلت عليه الأشياء كلها ، فلذلك افترق القول في حكم الخطأ في التوحيد وحكم الخطأ في شرائع الدين وفرائضه.)إهـ.
وقال الطبري مرة أخرى:(... وأما ما لا يصح عندنا عقد الإيمان لأحد ولا يزال حكم الكفر عنه إلا بمعرفته فهو ما قدمنا ذكره.
وذلك أن الذي ذكرنا قبل من صفته لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف كان ممن أتاه من الله تعالى ذكره رسول أو لم يأته رسول ، عاين من الخلق غيره أو لم يعاين أحداً سوى نفسه ... ثم فرق رحمه الله بين حكم الجاهل بالشرائع والصفات التي لا تعلم إلا من جهة الخبر والبلاغ فقال رحمه الله:(.. فإن هذه معاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله عزوجل بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يدرك حقيقة علمه بالفكر والروية ولا نكفر بالجهل بها احداً إلا بعد انتهائها إليه ... إلخ) إهـ.