فحص المحتوى الوراثي بعد الزواج (3-3)
د. محمد بن هائل المدحجي
فحص المحتوى الوراثي بعد الزواج قد يكون قبل الحمل للبويضات الملقحة، أو بعد الحمل للأجنة في الأرحام، وبيان كلا النوعين كما يلي :
أولاً : فحص المحتوى الوراثي قبل الحمل للبويضات الملقحة : ولتوضيح هذه المسألة أقول :
أدى انتشار طريقة التلقيح الصناعي الخارجي إلى إمكانية تشخيص بعض الأمراض الوراثية في البويضة الملقحة إذا بدأت في الانقسام والتكاثر إلى خلايا، وذلك بأخذ خلية واحدة منها لفحصها، لمعرفة ما إذا كانت مصابة بالمرض الوراثي المطلوب فحصه أو لا، فإن كانت سليمة نقلت باقي الخلايا إلى الرحم، وإن كانت مصابة لم ينقل شيء منها، وهذه الطريقة تقلل من ولادة أطفال مصابين بأمراض وراثية، ولكن لها عيوب كثيرة أهمها ما يلي:
1- أنها باهظة التكاليف.
2- أنها لا تخلو من المحاذير الموجودة في التلقيح الصناعي الخارجي: كانكشاف عورة المرأة المغلظة.
3- أن الخلية التي تنقل إلى الرحم على اعتبار أنها سليمة من المرض الوراثي قد تكون مصابة بمرض وراثي آخ؛ لأن الفحص الجيني لا يكون شاملاً لجميع الأمراض الوراثية، وإنما هو لأمراض معينة، فغايته سلامة الخلية من المرض الوراثي المفحوص فحسب.
4- أن نسبة نجاح الحمل باستخدام طريقة التلقيح الخارجي لا تزال متدنية في أحسن المراكز العالمية، وهذا ما ينطبق على هذه الطريقة في الإنجاب، إلا أن النسبة سترتفع؛ نظراً لأن الزوجين لا يعانيان من العقم, ومن ثم تكون نسبة حدوث الحمل أكبر.
5- إمكانية حدوث الحمل المتعدد بسبب التلقيح الصناعي.
6- أن هذا الفحص لا يجري حتى الآن إلا في مراكز محدودة في العالم.
وما تقدم من العيوب لا يؤثر في جواز إجراء فحص المحتوى الوراثي للبويضة الملقحة، لمعرفة وجود مرض وراثي فيها قبل نقلها إلى الرحم، إذا وجدت حاجة معتبرة: مثل وجود مرض وراثي في الزوجين أو أحدهما يمكن انتقاله إلى ذريتهما، وبهذا صدر قرار جمعية العلوم الطبية الإسلامية الأردنية،ويدل على الجواز :
1- أن فحص المحتوى الوراثي للبويضة الملقحة لا يختلف عن التلقيح الصناعي خارج الجسد إلا في كون اللقائح يجرى لها الفحص قبل نقلها إلى الرحم, وما عدا ذلك فلا فرق بينهما, وقد ذهب جمهور أهل العلم المعاصرين إلى جواز التلقيح خارج الجسد؛ نظراً للحاجة إليه, وهذا المعنى موجود في فحص الخلايا, بل هو أولى, نظراً للمعاناة والمشقة الحاصلة بولادة طفل مشوه, وحينئذ يأخذ حكمه وهو الجواز.
2- أن هناك مصالح مترتبة على إجراء فحص المحتوى الوراثي للبويضة الملقحة، وهي معرفة الأمراض الوراثية الموجودة فيها، وذلك لوقاية النسل منها، أما المفاسد المترتبة على هذا الفحص فتتمثل في أمرين:
الأول: أنه يستلزم كشف العورة المغلظة: وهذا قد تقدم عند الحديث عن التلقيح الصناعي أنه لا حرج فيه عند قيام الحاجة.
الثاني: ما يمكن أن يترتب على ذلك من إتلاف للبويضات الملقحة: وهذا لا حرج فيه أيضاً؛ وذلك لأن البويضة الملقحة لا تعد جنيناً، ولا حرمة لها قبل نقلها إلى الرحم على الصحيح.
ومن قواعد الشريعة أنه "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضرراً بارتكاب أخفهما " وفي هذا الفحص تعارضت عندنا مفسدتان:
الأولى: مفسدة عدم إجراء فحص المحتوى الوراثي للبويضة الملقحة.
الثانية: المفسدة المترتبة على إجراء التلقيح خارج الجسد.
فالواجب حينئذ النظر في كلتا المفسدتين، وتقديم أعظمهما ضرراً على أخفهما، وبالنظر نجد أن المفسدة الأولى أعظم؛ وذلك لما قد يترتب عليها من ولادة جنين مشوه, فيؤدي ذلك إلى معاناة أهله, وحصول آلام له ولوالديه, ثم إذا نظرنا إلى مفسدة إجراء التلقيح خارج الجسد نجد أنها أخف، لأنها تتعلق بكشف العورة المغلظة، فهي إذاً أخف من مفسدة عدم إجراء فحص المحتوى الوراثي للبويضة الملقحة، ومن ثَم فإن الواجب مراعاة المفسدة الأولى، وذلك بإجراء هذا الفحص.
لكن لا بد من التنبه إلى أن القول بجواز الفحص قبل الحمل للبويضات الملقحة يجب أن يراعى فيه جميع الشروط التي اشترطها المجيزون للتلقيح الصناعي، والتي من أهمها :
1- أن تدعو الحاجة لإجراء هذا الفحص، بأن يوجد مرض وراثي في الزوجين أو أحدهما يمكن انتقاله إلى ذريتهما.
2- أن يتم مراعاة أحكام الفحص الطبي المتعلقة بكشف العورة، حيث يكون كشف العورة جائزاً عند الضرورة المقدرة بقدرها، وأن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلا فامرأةٌ غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة، وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب، فإن كان الذي يجري عملية التلقيح رجلاً فيشترط انتفاء الخلوة.
ونأتي الآن للحديث عن حكم الفحص الاختياري للمحتوى الوراثي بعد الحمل للأجنة في الأرحام ، فأقول وبالله التوفيق :
ساعدت التقنيات الحديثة الخاصة بفحص المحتوى الوراثي على فحص الجنين أثناء الحمل، حيث تمكن الباحثون من تشخيص بعض الأمراض الوراثية التي يحملها الجنين، وذلك بأخذ عينة من خلايا الجنين ودراستها لتحليل الجينات، والغرض من هذا الفحص هو الاكتشاف المبكر للمرض الوراثي المصاب به الجنين، ومن ثم التمكن من التصرف والعلاج بما تتطلبه كل حالة، وإعطاء الاستشارة الوراثية للوالدين لاتخاذ القرار المناسب.
وتوجد ثلاث وسائل رئيسة لفحص المحتوى الوراثي أثناء الحمل، وهي:
الوسيلة الأولى: فحص السائل المحيط بالجنين (السائل الأمنيوسي):
السائل الأمنيوسي هو السائل الذي يوجد فيه الجنين أثناء نموه في الرحم، ويوجد فيه أنواع من خلايا جسم الجنين؛ لأن الجنين أثناء نموه وتكوينه تذهب بعض خلاياه إلى هذا السائل، فيمكن معرفة التكوين الوراثي للجنين، وذلك بسحب عشرين ملليلتراً من هذا السائل بإبرة طويلة دقيقة تدخل في البطن فالرحم، ويتم ذلك بمساعدة جهاز الموجات فوق الصوتية الذي يحدد مكان الجنين والمشيمة والسائل، وذلك حتى يتفادى الطبيب إصابة الجنين أو المشيمة بأذى، ثم بعد ذلك يقوم الأخصائي بتحليل الخلايا الجينية الموجودة في السائل، وذلك بزراعتها في بيئة خاصة، ثم فحصها لمعرفة الأمراض الوراثية والتشوهات الموجودة فيها، وتتميز هذه الطريقة بسهولة إجرائها، وقلة مضاعفاتها، وتوفرها في معظم المراكز الطبية في دول العالم، وقلة تكلفتها المادية. أما أبرز عيوبها فهي:
1- أن هذا الفحص يتم إجراؤه في وقت متأخر من الحمل، حيث يتم في الأسبوع الخامس عشر أو السادس عشر من الحمل, وتحتاج زراعة الخلايا عادة من عشرة أيام إلى أربعة عشر يوماً للحصول على النتائج، ومن ثم فلا تظهر نتائج الفحص إلا بعد مضي أربعة أشهر من الحمل، وحينئذ تنتفي الفائدة منها في إمكانية الإجهاض لمن تحمل جنيناً مشوهاً ؛ لكون الجنين قد نفخت فيه الروح.
2- عملية سحب السائل من الحامل لا تخلو من مخاطر, فقد يتعرض الحمل للإسقاط، وقد يؤثر فقد جزء من السائل المحيط بالجنين على صحة الجنين واستمراره في الرحم، وقد وجد أن نسبة الإجهاض ترتفع بسبب استخدام هذه الوسيلة إلى (0.5%) وقد قدرت هذه النسبة في بعض المراجع الطبية بـ (1%).
الوسيلة الثانية: أخذ عينة من المشيمة:
حيث يوجد في المشيمة خلايا من الجنين، ويمكن أخذ عينة منها بإدخال قسطرة مرنة من عنق الرحم إذا كانت المشيمة منخفضة، كما يمكن أخذ عينة منها بإدخال إبرة في البطن إذا كانت المشيمة مرتفعة، وفي كلتا الطريقتين لابد من استخدام جهاز الموجات فوق الصوتية لتحديد مكان المشيمة، ثم تفحص خلايا المشيمة لمعرفة الإصابة بالمرض الوراثي، وتتميز هذه الطريقة بإمكانية عمل الفحص في مرحلة مبكرة من الحمل نسبياً، حيث يتم إجراء هذا الفحص في الأسبوع السابع أو الثامن من الحمل, وتحتاج زراعة الخلايا من عشرة أيام إلى أربعة عشرة يوماً للحصول على النتائج، مما يساعد على الحصول على النتائج قبل نفخ الروح في الجنين، أما عيوبها فهي أنها قد تسبب ارتفاعاً في نسبة الإجهاض تصل إلى (2% ) فوق المعدل الطبيعي.
الوسيلة الثالثة: أخذ عينة دم من الحبل السري للجنين:
يمكن أخذ عينة من دم الجنين من الحبل السري بواسطة إبرة رفيعة تدخل مباشرة في البطن فالرحم حتى تصل إلى الحبل السري الذي يمكن رؤيته بجهاز الموجات فوق الصوتية، وبعد سحب العينة تزرع الخلايا لتشخيص الجينات المعتلة الحاملة للأمراض الوراثية، ويكون إجراء هذا الفحص بعد الأسبوع الثامن عشر من الحمل، وذلك عند وجود قرائن على إصابة الجنين بمرض وراثي، وتتميز هذه الطريقة بأنها تتم بسهولة ويسر، كما أن نسبة حدوث المضاعفات فيها قليلة، أما عيوبها فتتمثل في أنه يتم إجراؤها بعد أن تكون الروح قد نفخت في الجنين، وبالتالي فلا فائدة منها في إتاحة فرصة الإجهاض لمن كانت تحمل جنيناً مشوهاً.
وقد اختلف الباحثون المعاصرون في حكم فحص المحتوى الوراثي أثناء الحمل، والصحيح جواز إجراء فحص المحتوى الوراثي أثناء الحمل إذا تم إجراؤه والحصول على نتائجه قبل نفخ الروح في الجنين وإلا حرم، مع مراعاة شرطين للجواز هما :
1- أن توجد الحاجة الداعية للتشخيص, وذلك بأن تكون هناك دلائل قوية على إصابة الحمل بمرض وراثي.
2- انتفاء الضرر من هذا الفحص على الأم والجنين.
ومن الأدلة على جواز هذا الفحص ما يلي :
1- أن فحص المحتوى الوراثي أثناء الحمل هو وسيلة لمعرفة الأمراض الوراثية التي قد يصاب بها الجنين, والغرض من ذلك هو اتخاذ القرار الصحيح بإجهاضه, فحقيقة الفحص أنه وسيلة لتحقيق مقصود, وهو إجهاض الجنين المشوه أو المصاب بأمراض وراثية خطيرة, والقاعدة عند أهل العلم أن (الوسائل لها أحكام المقاصد), وإجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه أمر محرم باتفاق أهل العلم, فكذلك ما يؤدي إليه من طرق الفحص التي تكون بعد نفخ الروح, أما إجهاضه قبل نفخ الروح فيه فليس بممنوع, فكذلك ما يؤدي إليه من وسائل الفحص.
2- أن الأصل هو تحريم كشف المرأة عورتها المغلظة, وبعض وسائل فحص المحتوى الوراثي أثناء الحمل فيها كشف للعورة المغلظة, وأخذ خلايا الجنين بعد نفخ الروح فيه لا يعد من مواطن الحاجات حتى يستثنى من الأصل الموجب للتحريم لعدم الفائدة, وهذا بخلاف أخذها قبل نفخ الروح فيه, فقد وجدت الحاجة الداعية لاستثنائه.
3- أن طرق فحص المحتوى الوراثي أثناء الحمل إن كانت بعد نفخ الروح فهذا لا تترتب عليه أي مصلحة؛ نظرا لعدم تأتي حصول المقصود منه وهو إجهاض الجنين, كما أن علاجه متعذر, لأن الطب لم يتوصل بعد إلى مداواته وهو في الرحم بطرق آمنة من الضرر, بل المترتب عليه بعض المفاسد من كشف العورة المغلظة, وصرف الأموال, وما كـان بهذه المثابة فلا تأتي الشريعة بإباحته, بخلاف ما إذا تم الفحص قبل نفخ الروح في الجنين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.