تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 30

الموضوع: الضبـط وشروطـه ، وبعـض المسائـل المتعلـقة بـه .

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي الضبـط وشروطـه ، وبعـض المسائـل المتعلـقة بـه .

    الحمد لله الذي أعلى كلمته ، وسخر رجالا حفظة لكتابه وسنة نبيه ، أقامهم تعالى حماة للدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولولاهم لطمست معالمه، وانتكست أعلامه، بتلبيس المضلّين، وتدليس الغاوين.
    وبعد .
    مما هو معلوم لدى الكافة أن أئمة المسلمين قد اشترطوا فيمن يحتج بروايته أن يكون : عدلا ضابطا لما يرويه .
    وبهذا يصبح الرواي حجة يلزم العمل بروايته وحديثه ، ويطلق عليه لفظ : ( الثقة ) .


    الضبط لغة :
    لزوم الشيء ، وحبسه ، ضبط عليه وضبطه يضبطه ضبطا وضباطة .
    وقالَ اللَّيْثُ : ضَبْطُ الشَّيْءِ : لُزُومُه لا يُفارِقُه ، يُقَالُ ذلِكَ في كلِّ شيءٍ . وضَبْطُ الشَّيْءِ : حِفْظُه بالحَزْم . وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ : ضَبَطَ الرَّجُلُ الشَّيءَ يَضْبُطُه ضَبْطاً ، إِذا أَخَذَه أَخْذاً شَديداً ، ورَجُلٌ ضَابِطٌ وضَبَنْطَى (1).

    والضبط عند أئمة الحديث ينقسم إلى نوعين
    : ضبط صدر ، وضبط كتاب .
    أما ضبط الصدر : فهو أن يثبت الراوي في صدره ما سمعه ، بحيث يتمكن من استحضاره وقت ما شاء .
    أما ضبط الكتاب : فهو صيانة الرواي كتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه .(2)

    والضابط من الرواة : هو الذي يقل خطؤه في الرواية ، وغير الضابط : هو الذي يكثر غلطه ووهمه فيها ، سواء كان ذلك لضعف استعداده أو لتقصيره في اجتهاده (3).

    شروط الضبط :
    1 ـ أن يكون الرواي متيقظا غير مغفل .
    2 ـ أن يكون الراوي حافظا إن حدث من حفظه .
    3 ـ أن يكون الرواي ضابطا إن حدث من كتابه .
    4 ـ أن يكون الرواي عالما بما يحيل المعاني إن كان يحدث بالمعنى (4).

    آثار اختلال الضبط :
    قال أبو عمرو بن الصلاح (5) : لا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ عُرِفَ بِالتَّسَاهُلِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ أَوْ إِسْمَاعِهِ ، كَمَنْ لَا يُبَالِي بِالنَّوْمِ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ ، وَكَمَنْ يُحَدِّثُ لَا مِنْ أَصْلٍ مُقَابَلٍ صَحِيحٍ ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَنْ عُرِفَ بِقَبُولِ التَّلْقِينِ فِي الْحَدِيثِ .
    وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ كَثُرَتِ الشَّوَاذُّ وَالْمَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ . جَاءَ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا يَجِيئُكَ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ إِلَّا مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ " .
    وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ فِي رِوَايَاتِهِ إِذَا لَمْ يُحَدِّثْ مِنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ ، وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه .
    وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَالْحُمَيْدِيّ ِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَنْ غَلِطَ فِي حَدِيثٍ وَبُيِّنَ لَهُ غَلَطُهُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَأَصَرَّ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ سَقَطَتْ رِوَايَتُهُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَنْهُ . وَفِي هَذَا نَظَرٌ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْعِنَادِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .أهـ

    وتفصيل ذلك :
    1 ـ لا يقبل حديث من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه ، كالمتحمل حال النوم الكثير الواقع منه أو من شيخه وعدم مبالاته ، فإن ذلك مما يخرم الضبط عند أهل الحديث ويرد روايته .
    قال عثمان بن أبى شيبة : رأيت عبد الله بن وهب أنا وأبو بكر ـ يعني أخاه صاحب المصنف ـ وأظنه ذكر بن معين وابن المديني ، رأيناه عند ابن وهب ينام نوما حسنا وصاحبه يقرأ على بن عيينة وابن وهب نائم قال : فقلت لصاحبه : أنت تقرأ وصاحبك نائم ؟! قال : فضحك ابن عيينة قال : فتركنا ابن وهب الى يومنا هذا ، فقلت له : لذا السبب تركتموه ؟ قال : نعم ، وتريد أكثر من هذا ؟.(6)

    ـ أما النعاس الخفيف فإنه لا يضر
    ، قال الحافظ ابن كثير(7) : وكان شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزّي - تغمده الله برحمته - يكتب في مجلس السماع وينعس في بعض الأحيان، ويرد على القارئ ردا جيدا بينا واضحا؛ بحيث يتعجب القارئ من نفسه! أإنه يغلط فيما في يده وهو مستيقظ، والشيخ ناعس وهو أنبه منه! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.أهـ
    وقال السبكي في طبقاته (8) : وبالجملة كان شيخنا المزي أعجوبة زمانه يقرأ عليه القارئ نهارا كاملا والطرق تضطرب والأسانيد تختلف وضبط الأسماء يشكل وهو لا يسهو ولا يغفل يبين وجه الاختلاف ويوضح ضبط المشكل ويعين المبهم يقظ لا يغفل عند الاحتياج إليه وقد شاهدته الطلبة ينعس فإذا أخطأ القارئ رد عليه كأن شخصا أيقظه وقال له : قال هذا القارئ كيت وكيت هل هو صحيح ، وهذا من عجائب الأمور ، وكان قد انتهت إليه رئاسة المحدثين في الدنيا . أهـ
    وقال الحافظ السخاوي (9): ثم إنه لا يضر في كل من التحمل والأداء النعاس الخفيف الذي لا يختل معه فهم الكلام لا سيما من الفطن ، فقد كان الحافظ المزي ربما ينعس في حال إسماعه ويغلط القارىء أو يزل فيبادر للرد عليه ، وكذا شاهدت شيخنا ـ يعني ابن حجر ـ غير مرة ، بل بلغني عن بعض العلماء الراسخين في العربية إنه كان يقرىء شرح ألفية النحو لابن المصنف وهو ناعس .أهـ

    2 ـ لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في روايته إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح مقابل على أصله أو أصل شيخه ،وإن كان هو أو القاريء أو بعض السامعين خير حافظ ، كما قاله السخاوي (10).
    أما إذا حدث من أصل صحيح فالسماع صحيح وإن عرف بكثرة السهو ؛ لأن الاعتماد حينئذ على الأصل لا على حفظه (11).
    قال الشافعي (12): ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته .

    ومن ذلك من يحدث بعد ذهاب أصوله واختلال حفظه كفعل ابن لهيعة فيما حكاه يحيى بن حسان فإنه قال كما روى الخطيب عنه في الكفاية (13) : يقول جاء قوم ومعهم جزء فقالوا سمعناه من بن لهيعة فنظرت فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث بن لهيعة فجئت الى بن لهيعة فقلت هذا الذي حدثت به ليس فيه حديث من حديثك ولا سمعتها أنت قط فقال ما أصنع ، يجيئوني بكتاب ويقولون : هذا من حديثك فأحدثهم به ، قلت ( الخطيب ) : وكان عبد الله بن لهيعة سيء الحفظ واحترقت كتبه وكان يتساهل في الاخذ وأي كتاب جاؤوا به حدث منه فمن هناك كثرت المناكير في حديثه .أهـ

    قال السخاوي (14) : وممن وصفه بالتساهل فيهما قرة بن عبد الرحمن، قال يحيي بن معين : إنه كان يتساهل في السماع وفي الحديث وليس بكذاب . والظاهر أن الرد بذلك ليس على إطلاقه وإلا فقد عرف جماعة من الأئمة المقبولين به فإما أن يكون لما انضم إليهم من الثقة وعدم المجيء بما ينكر وكلام أحمد الماضي قريبا يشهد له أو لكون التساهل يختلف فمنه ما يقدح ومنه لا يقدح .أهـ

    3 ـ لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث :
    والتلقين : أن يعرض عليه الحديث الذي ليس من مروياته ، ويقال له : إنه من مروياته وحديثه ، فيقبله ، ولا يميزه ؛ وذلك لأنه مغفل فاقد لشرط التيقظ ، فلا يقبل حديثه .
    قال الحميدي ـ كما في الكفاية ـ (15) : ومن قبل التلقين ترك حديثه الذي لقن فيه وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم ذلك التلقين حادثا في حفظه لا يعرف به قديما ، وأما من عرف به قديما في جميع حديثه فلا يقبل حديثه ولا يؤمن ان يكون ما حفظه مما لقن .
    وممن عرف واشتهر به : موسى بن دينار ، فمما وقع لحفص بن غياث فإنه نهى هو ويحيى القطان وغيرهما موسى ابن دينار المكي ، فجعل حفص يصنع له الحديث فيقول : حدثتك عائشة بنت طلحة ، عن عائشة بكذا وكذا ؟ فيقول : حدثني عائشة ، ويقول له : وحدثك القاسم بن محمد عائشة بمثله ؟ فيقول : حدثتني القاسم بن محمد ، عن عائشة بمثله ، ويقول : حدثك سعيد بن جبير، عن عباس بمثله ؟ فيقول : حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس بمثله . فلما فرغ حفص مد يده لبعض من حضر ممن لم يعلم المقصد وليست له نباهة فأخذ اللوحة التي كتب فيها محاها وبين له كذب موسى (16).
    وكل ذلك لدلالته على مجازفته وعدم تثبته . والله أعلم .

    وروى أبو يعلى في مسنده (17) : حدثنا وهب بن بقية حدثنا حماد بن زيد قال : لقنت سلمة بن علقمة فحدثني به فرجع عنه ثم قال : إذا أردت أن يكذب صاحبك فلقنه .

    4 ـ لا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير ، أي التفرد الذي لا يحتمل ، فإن ذلك مما يخرم الثقة بالرواي وضبطه .
    قال عبد الرحمن بن مهدي (18): قيل لشعبة : متى يترك حديث الرجل ؟ قال : " إذا حدث عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون ، وإذا أكثر الغلط ، وإذا اتهم بالكذب ، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه لذلك طرح حديثه ، وما كان غير ذلك فارووا عنه ".

    وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ـ فيما حكاه الخطيب (19) عنه ـ : من عرف بكثرة الغفلة والسهو وقلة الضبط رد حديثه ، قال : وكذا يرد خبر من عرف بالتساهل في الحديث النبوي دون المتساهل في حديثه عن نفسه وأمثاله وما ليس بحكم في الدين ..أهـ
    قال السخاوي (20) : وتبعه ـ أي الباقلاني ـ غيره من الأصوليين فيه .


    وقال السخاوي أيضا : ويخالفه قول ابن النفيس من تشدد في الحديث وتساهل في غيره فالأصح أن روايته ترد قال : لأن الظاهر أنه إنما تشدد في الحديث لغرض وإلا للزم التشدد مطلقا وقد يتغير ذلك الغرض أو يحصل بدون تشدد فيكذب ، إلا أن يحمل على التساهل فيما هو حكم في الدين ولم ينفرد ابن النفيس بهذا بل سبقه إليه الإمام أحمد وغيره لأنه قد يجر إلى التساهل في الحديث ولينبغي أن يكون محل الخلاف في تساهل لا يفضي إلى الخروج عن العدالة ولو فيما يكون به خادما للمروءة فاعلمه
    ، أما من لم يكثر شذوذه ولا مناكيره أو كثر ذلك مع تمييزه له وبيانه أو حدث مع اتصافه بكثرة السهو من أصل صحيح بحيث زال المحذور في تحدث من حفظه فلا وكذا إذا حدث سيء الحفظ عن شيخ عرف فيه بخصوصه بالضبط والإتقان كإسماعيل بن عياش حيث قيل في الشاميين خاصة دون غيرهم ، على أن بعض المتأخرين توقف في رد من كثرت المناكير وشبهها في حديثه لكثرة وقوع ذلك في حديث كثير من الأئمة ولم ترو روايتهم ، ولكن الظاهر أن المراد من كثر ذلك في رواياته مع ظهور إلصاق ذلك به لجلالة باقي رجال السند .أهـ

    5 ـ لا تقبل رواية من أصر على غلطه بعد البيان ولم يرجع ، وتسقط رواياته كلها ولم يكتب عنه(21) .
    وإليه ذهب الأئمة : كشعبة بن الحجاج ، وعبد الله بن الزبير الحميدي ، وأحمد بن حنبل ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم .

    قال الخطيب البغدادي (22)
    : ( باب فيمن رجع عن حديث غلط فيه وكان الغالب على روايته الصحة ان ذلك لا يضره )
    قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا عن عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وعبد الله بن الزبير الحميدي : الحكم في من غلط في رواية حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأقام على رواية ذلك الحديث أنه لا يكتب عنه وإن هو رجع قبل منه وجازت روايته وهذا القول مذهب شعبة بن الحجاج أيضا .أهـ
    وقد روى في الكفاية أيضا عن الإمام الدارقطني قوله عندما سأله حمزة بن يوسف السهمي : عمن يكون كثير الخطأ ؟ قال : إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط ، وان لم يرجع سقط .أهـ
    وقال ابن حبان (23): : إنْ بُيِّنَ لَهُ خطؤهُ ، وعَلِمَ ، فلمْ يَرْجَعْ عَنْهُ ، وتمادَى في ذلكَ كانَ كَذَّاباً بعلمٍ صحيحٍ.

    وقد تعقب ابن الصلاح هذا المذهب كما تقدم بقوله : وفي هذا نظر وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك .أهـ
    قال الحافظ العراقي (24) : وقيد أيضا بعض المتأخرين ذلك بأن يكون الذى بين له غلطة عالما عند المبين له أما إذا كان ليس بهذا المثابة عنده فلا حرج إذن.أهـ

    يتبع بإذن الله ..

  2. افتراضي

    نفع الله بكم أبا مالك.
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    كيفية معرفة ضبط الراوي :
    بعد الحديث عن معنى الضبط وشروطه وآثار اختلاله عند المحدثين ، يتوجه أن نتكلم عن : كيف يعرف الراوي الضابط الذي تحققت فيه شروط الضبط من الراوي غير الضابط الذي لم تتحقق فيه تلك الشروط ؟
    يعرف ضبط الراوي بسبر أحاديثه وعرضها على أحاديث غيره من الرواة ؛ لتعرف مدى الموافقة والمخالفة لهم، وقد لخص الإمام ابن الصلاح - رحمه الله - هذه الطريقة معتمداً في ذلك على صنيع الأئمة وصريح أقوالهم. فنذكر قوله. ثم نتبعه بأقوال أئمة النقد.
    قال أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله (25) :
    يُعْرَفُ كَوْنُ الرَّاوِي ضَابِطًا بِأَنْ نَعْتَبِرَ رِوَايَاتِهِ بِرِوَايَاتِ الثِّقَاةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ ، فَإِنْ وَجَدْنَا رِوَايَاتِهِ مُوَافِقَةً - وَلَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى - لِرِوَايَاتِهِم ْ ، أَوْ مُوَافِقَةً لَهَا فِي الْأَغْلَبِ وَالْمُخَالَفَة ُ نَادِرَةُ ، عَرَفْنَا حِينَئِذٍ كَوْنَهُ ضَابِطًا ثَبْتًا ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ كَثِيرَ الْمُخَالَفَةِ لَهُمْ ، عَرَفْنَا اخْتِلَالَ ضَبْطِهِ ، وَلَمْ نَحْتَجَّ بِحَدِيثِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ

    وهذا هو ما يعرف بميزان الاعتبار عند المحدثين ، فحين يمعن في الموافقة فلا يتفرد ولا يخالف كثيراً ، فإن نقاد الحديث يصفونه بالصدق ، ويلحقونه بزمرة الثقات .
    قال الذهبي (26) : إن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظاً ولا إسناداً يصيره متروك الحديث.
    وقال أيضاً : أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم الأثبات .

    قلت : وبقدر خطئه وغفلته وجرم ذلك وفحشه تنزل درجته ؛ ولذلك تفاوت الرواة .
    .
    وقد أشار إلى هذا الشافعي رحمه الله فقال في الرسالة (27) : إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم .أهـ
    وما ذكره ابن الصلاح من معرفة ضبط الراوي بالاعتبار ، إنما هو مستقى من واقع صنيع الأئمة رحمهم الله فيما قاموا به من مقارنة الروايات بعضها ببعض ؛ ليميزوا المقبول من المردود ، وهو كذلك مستقى من قولهم .
    قال أيوب السختياني رحمه الله بذلك فقال (28): إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره .
    وقد صرح بهذا أيضا الإمام مسلم في مقدمة صحيحه(29) ، فقال : وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من الحفظ والرضى، خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعمله .أهـ
    وكل ما سبق ذكره يعني مبدأ الاعتبار ومقارنة الروايات بعضها ببعض ليتعرف عى ضبط الضابط من غيره ، وقد تنوعت عملية المقارنة واتخذت أشكالا متعددة .
    ومن بعض أنواع المقارنة :
    1 ـ المقارنة بين روايات عدة أصحاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    2 ـ المقارنة بين روايات محدث واحد في أزمنة مختلفة .
    3 ـ المقارنة بين روايات عدد من التلاميذ لشيخ واحد .
    4 ـ المقارنة أثناء الدرس بين رواية المحدث ورواية غيره من أقرانه .
    5 ـ المقارنة بعرض الرواية على النصوص القرآنية .(30)
    وقال السخاوي في فتح المغيث (31) : ويعرف الضبط أيضا بالامتحان كما تقدم في المقلوب مع تحقيق الأمر فيه.

    مراتب الرواة من حيث الضبط :

    إن رواة الحديث ليسوا على درجة واحدة من حيث الضبط والإتقان، ففيهم من هو في الذروة العالية في الحفظ عديم الإتقان والضبط. وبينهما رواة وسط، وهؤلاء منهم من يقترب من الطبقة الأولى وفيهم من ينزل إلى الطبقة الدنيا، لكن أحسن منهم حالاً.
    وقد بيّن الإمام ابن رجب الحنبلي ذلك فقال (32) : " إن الرواة ينقسمون أربعة أقسام:
    أحدهما: من يتهم بالكذب.
    والثاني: من لا يتهم لكن الغالب على حديثه الوهم والغلط.
    والثالث: من هو صادق ويكثر في حديثه الوهم، ولا يغلب عليه.
    والرابع: الحفاظ الذين يندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل.

    فأما القسم الأول فمتفق على تركه وعدم الاحتجاج به. وأما القسم الأخير فمتفق على الاحتجاج به. وأما القسم الثاني فأكثر المحدثين لا يحتجون بهم. ووقع الخلاف في القسم الثالث، فقد روى عن يحيي بن معين أنه لا يحتج بهم، وعن ابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم أنهم حدثوا عنهم، وهو أيضاً رأى سفيان وأكثر أهل الحديث المصنفين في السنن والصحاح كمسلم بن الحجاج وغيره، وعلى هذا المنوال نسج أبو داود والنسائي والترمذي ، مع أنه خرَّج لبعض من هو دون هؤلاء وبين ذلك ولم يسكت عنه، وإلى طريقة يحيي بن سعيد يميل على ابن المديني وصاحبه البخاري .
    قال الترمذي (33) : إنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع ، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم .
    وقال أيضا : " لَمْ يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم "، ثُمَّ ساق الترمذي عدداً وافراً من الروايات التي تدلل عَلَى تفاوت أهل العلم بالحفظ وتفاضلهم بالضبط وقلة الخطأ ، ثُمَّ قَالَ : " والكلام في هَذَا والرواية عَنْ أهل العلم تكثر، وإنما بيّنا شيئاً مِنْهُ عَلَى الاختصار ليُستدل بِهِ عَلَى منازل أهل العلم وتفاضل بعضهم عَلَى بعض في الحفظ والإتقان ، ومن تُكلمَ فِيْهِ من أهل العلم لأي شيء تُكلمَ فِيْهِ ".
    وقال ابن معين : من لم يخطيء فهو كذاب .
    وقال أحمد بن حنبل : كان مالك من أثبت الناس ، وكان يخطيء .

    ولما كَانَ الخطأ في الرِّوَايَة أمرٌ بدهيٌّ ، وأنه لا يسلم إنسان مِنْهُ نجد الأكابر قَدْ وهمّوا الأكابر، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قَدْ وهّمت عدداً من الصَّحَابَة في عدد من الأحاديث ، وَقَدْ جمع ذَلِكَ الزركشي في جزءٍ ، لذا قَالَ الإمام عَبْد الله بن المبارك : (( ومن يسلم من الوهم، وَقَدْ وهّمت عائشة جَمَاعَة من الصَّحَابَة في رواياتهم للحديث ))(34).

    وفيما نقلنا عَنْ الأئمة الأعلام كفاية ودليل عَلَى أن دخول الخطأ والوهم أمرٌ نسبيٌّ ممكن في أحاديث الرُّوَاة ثقاتً كانوا أو غَيْر ذَلِكَ ، فالخطأ والوهم والنسيان سجية البشر ، وَقَدْ قَالَ الشاعر :
    نَسِيتُ وَعْدَكَ والنِّسْيَانُ مُغْتَفَرٌ ... فَاغْفِرْ فَأوَّلُ نَاسٍ أوَّلُ النَّاسِ

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    المشاركات
    951

    افتراضي

    بارك الله فيك ، وزادك الله علماً
    ✽✽✽من عامة المسلمين أسأل الله الحي القيوم التوفيق السداد
    وأن يعلمني ، وأن يستر علي ذنوبي ويغفرها
    ✽✽✽

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    418

    افتراضي

    بارك الله فيك شيخنا الحبيب ابا مالك

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    الحكم على مبلغ ضبط الرواة أمر اجتهادي ، وأثر ذلك في القبول والرد :
    تقدم أن الرواة ينقسمون بالنسبة للضبط إلى ثلاثة أقسام ، كما يلي :
    الأول : من غلب على حديثه المناكير ، لغفلته وسوء حفظه .
    الثاني : من يقع الوهم في حديثهم كثيرا ، لكن ليس هو الغالب عليهم .
    الثالث : أهل الصدق والحفظ الذين يندر الخطأ في حديثهم أو يقل ، وهؤلاء هم الثقات المتفق علي الاحتجاج بهم .
    مع أنه لا يسلم من الغلط أحد ، كما قاله ابن عبد البر(35) .

    والعلماء اختلفوا في حكم القسمين الأولين ، واتفقوا في الثالث ، وفي ضوء هذا التقسيم فإن اختلافا بين المحدثين وقع في الحكم على بعض الرواة : هل هم ممن غلب على حديثهم الوهم والغلط أم لا ؟ وهل هم ممن كثر خطؤهم وفحش أم ممن قل خطؤهم ؟ .
    حيث نجد بعض المحدثين يؤديه اجتهاده إلى أن وهم الرواي وغلطه لم يغلب عليه ، ولذلك فإنه يكون من القسم الثاني الذين يقع الوهم في حديثهم كثيرا ، لكن هو الغالب عليهم .
    ويعني هذا الاعتبار في روايته وقبولها . في حين أن البعض الآخر يؤديه اجتهاده إلى عكس ذلك ، فيعتبره من القسم الأول ، وهذا يعني أن يُردَّ وترد روايته معه .
    وكذا الاجتهاد في الحكم على راو : هل هو ممن كثر خطؤه وفحش أم ممن قل خطؤه ، فإن كان الحكم عليه بأنه ممن قل خطؤه كان من القسم الثاني المحتج به ، أما إذا كان العكس ، كان من الأول المردود .

    ومما ينبغي التنبه له : أن قبول الناقد لراو من القسم الأول ربما يكون لما عرف عنه من ضبطه لحديث شيخ معين ، أو لما عرف من ضبطه لحديث أهل بلد معين دون غيرهم ، وربما يكون قبوله له لما عرف من ضبطه لذلك الحديث الذي قبله بعينه ، وربما يكون القابل له لم يعتبر ما نسب إليه من تساهل . وربما يذهب الناقد إلى أن التساهل الذي رمي به ليس تساهلا مما يقدح بضبطه ، على عكس ما يراه ناقد آخر فيختلفان في قبوله ورده ، وفي تحديد القسم الذي يندرج تحته من أقسام القبول والرد .
    ـ وسأذكر أمثلة على كل قسم من القسمين المذكورين مما اختلف فيه العلماء .
    أولا : أمثلة من اختلف فيه هل هو ممن غلبه على حديثه الوهم والغلط أم لا :
    وقد مثل الحافظ ابن رجب الحنبلي (36) لهذا القسم بمثالين :
    الأول : عبد الله بن محمد بن عقيل .
    حيث قال : وقد ذكر الترمذي في أول كتابه عن البخاري أن أحمد وإٍسحاق والحميدي كانوا يحتجون بحديثه . وقد صحح الترمذي حديثه .وقال ابن معين وغيره : (( لا يحتج به )) .
    وقال الجوزجاني : (( عامة ما يروى عنه غريب )) ، وتوقف عنه .
    الثاني : عاصم بن عبيد الله العمري :
    فإن الترمذي يصحح حديثه في غير موضع ، والأكثرون ذكروا أنه كان مغفلاً يغلب عليه الوهم والغلط .
    قال شعبة : (( كان عاصم لو قلت له من بنى مسجد البصرة ؟ لقال : حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بناه )) .
    وقال شعبة : أيضاً : (( كان عاصم لو قلت له رأيت رجلاً راكباً حماراً لقال : حدثني أبي )) .
    وقد توسع الدكتور نور الدين عتر في كتابه : "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه والصحيحين " في الكلام على كلا الراويين المتقدمين ، وأبان عن سبب احتجاج الترمذي ومن ذهب مذهبه بهما ، وسأنقل كلامه على واحد منهما ، وهو : عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، لما فيه من توضيح لمسألة الاختلاف ودواعيه .
    قال الدكتور نور الدين عتر(37) :
    "وأما عاصم بن عبيد الله ، فقد قال فيه الحافظ ابن رجب في شرح العلل : والأكثرون ذكروا أنه كان مغفلاً يغلب عليه الوهم والغلط .أهـ
    وقد ضعفه مالك ، وقال ابن حبان : كثير الوهم ، فاحش الخطأ فترك .
    وقال أحمد : قال ابن عيينة : كان الأشياخ يتقون حديث عاصم بن عبيد الله . وقال العجلي : لا بأس به . وقال البزار : في حديثه لين . وممن قوى أمره الحاكم ، فقد أخرج حديثه في المستدرك على الصحيحين ، وقال : إلا أن الشيخين لم يحتجا بعاصم . فدل بذلك على أنه صحيح عنده .
    وقد صحح الترمذي حديثه في جامعه ، فإنه أخرج له حديث عائشة : أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ ... وقال فيه : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
    والجواب : أن تصحيح الحديث باعتبار ما تأيد من الشواهد الدالة على صحة معناه .
    فحديث عائشة قال عقبه الترمذي : وَفِي البَاب عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ ، وَعَائِشَةَ ، قَالُوا : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَيِّتٌ .أهـ
    وقد روى البخاري عن عائشة وابن عباس أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته .
    قال الشوكاني : لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر، فكان إجماعا .
    ومثل هذا لا يكون إلا بتوقيف من الشارع ، فلحديث أبي بكر حكم الرفع .
    فهذه الآثار التي تدل على أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته تقوي تصحيح حديث عاصم وفقا لعادة الترمذي التي ذكرناها .
    وقد أشار الترمذي لذلك عقب تخريج الحديث : وَفِي البَاب عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ ، وَعَائِشَةَ ، قَالُوا : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَيِّتٌ .أهـ
    فالحكم بصحته لوروده من طريق آخر ، وقد سبق ما قلناه في طريقة الترمذي وعادته هذه .
    لكننا نلاحظ أن التقوية هنا تدل على صحة المعنى الذي يفيده الحديث ، لا لسند الحديث ، فإذا لم يكن ثمة متابعات أخرى تقوي إسناد حديث عاصم فإنه يكون قد ارتفع للصحة بهذه الشواهد الصحيحة المؤيدة لمعناه .
    أهـ كلام عتر .

    ثانيا : أمثلة من اختلف فيه هل هو ممن كثر خطؤه وفحش أم ممن قل خطؤه :
    وقد مثل ابن رجب رحمه الله (38) لهذ القسم بأربعة رواة هم :
    حكيم بين جبير الأسدي الكوفي ، وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي .
    وسأكتفي بما ذكره من الاختلاف في الرواي الأول ، وهو : حكيم بن جبير الأسدي الكوفي ، حيث قال رحمه الله :
    "فإنه قليل الحديث ، وله أحاديث منكرة . قال محمد بن عبد الرحمن العنبري عن عبد الرحمن بن مهدي وسئل عن حكيم بن جبير فقال : (( إنما روى أحاديث يسيرة ، وفيها أحاديث منكرات )) .
    وقال ابن المديني . سألت يحيى بن سعيد عنه فقال : (( كم روى ؟ إنما روى شيئاً يسيراً . وقال يحيى : وقد روى عنه زائدة . قلت ليحيى : من تركه ؟ قال : شعبة . قلت : من أجل حديث الصدقة ؟ قال : نعم . ثم قال يحيى : نحن نحدث عمن دون هؤلاء )) .
    وقد خرّج الترمذي حديث الصدقة في كتاب الزكاة وحسنه . وسبق الكلام عليه هناك مستوفي .
    وقد احتج به أحمد في رواية عنه ، وعضده بأن سفيان رواه عن زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، وقد أنكر ابن معين وغيره حديث زبيد هذا ، وقال ابن حبان في حكيم بن جبير : (( كان غالياً في التشيع ، كثير الوهن فيما يروي ، كان أحمد لا يرضاه )) . وخرج له ابن حبان حديث الصدقة ، وقال : (( ليس له طريق يعرف ، ولا رواية إلا من حديث حكيم بن جبير ، وحكيم هذا روى عنه الثوري والأعمش وزائدة وغيرهم ، وتركه شعبة ويحيى وابن مهدي . وقيل : إن يحيى كان يحدث عنه ))
    وقال الجوزجاني : (( هو كذاب )) .
    وقد تقدم أن الترمذي حسن حديثه . وقال أحمد في رواية عنه في حديث الصدقة : (( هو حسن )) واحتج به .
    وقال مرة [ في حكيم ] : (( هو ضعيف الحديث مضطرب )) .
    وقال ابن معين : (( ليس بشئ )) .
    وقال أبو زرعة : (( في رأيه شئ ، ومحله الصدق إن شاء الله تعالى )) .
    وقال أبو حاتم (( ضعيف الحدي منكر الحديث ، له رأي غير محمود ، قال : وهو قريب من يونس من خباب وثوير بن أبي فاخته )) .
    وقال النسائي : (( ليس بالقوي )) . وقال الدار قطني : (( متروك )) .أهـ

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    الاختلاف في وجوه تحمل الحديث وأدائه ، وأثر ذلك في القبول والرد :لعل من أهم المسائل التي تتعلق بالضبط مما جرى فيه اختلاف بين علماء الحديث ، وكان له أثر كبير في القبول والرد :
    مسألة تحمل الحديث ووجوه أدائه .ولهذه الوجوه في التحمل والأداء صلة قوية بالهدف الرئيس لهذا العلم ، أي معرفة المقبول والمردود ، ومن أوجه ذلك :
    1 ـ أنها تعرفنا الطريقة التي حمل بها الراوي حديثه الذي نبحثه ، فنعلم هل هي صحيحه أو فاسدة، وإذا كانت فاسدة فقد اختل أحد شروط القبول في الحديث ، وربما كان الوجه الذي حمل به الراوي حديثه مما اختلف فيه ، فمن اعتبره قبل حديثه ، ومن حكم بفساده ردَّه .
    2 ـ أن الراوي إذا تحمل الحديث بطريقة دنيا من طرق التحمل ثم استعمل فيه عبارة أعلى كأن يستعمل فيما تحمله بالإجازة : (حدثنا) أو (أخبرنا) كان مدلسا ، وربما اتهمه بعض العلماء بالكذب بسبب ذلك ، وهذا عند المجمهور الذين لا يجيزون استعمال التحديث أو الإخبار في الإجازة ، مثل أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي اتهم في أحاديثه الكثيرة عن محمد بن نصر المروزي ، وإنما هو تدليس ، حصل على إجازة منه ، وصار يستعمل صيغة : (حدثنا) ونحوها ، وهذا تدليس ـ عند جمهورهم ـ وكذا إسحاق بن راشد الجزري ، كان يطلق (حدثنا) في الوجادة ، فسلكوه في عداد المدلسين .(39)
    وقد حصر علماء الحديث طرق الأخذ للحديث وتلقيه عن الرواة بثمان طرق ، هي :
    1 ـ السماع .
    2 ـ العرض .
    3 ـ الإجازة .
    4 ـ المناولة .
    5 ـ المكاتبة .
    6 ـ الإعلام .
    7 ـ الوصية .
    8 ـ الوجادة .

    أولا : السماع : وهو ينقسم إلى إملاء أو تحديث ، سواء كان من حفظ الشيخ ، أو القراءة من كتابه ، وهو أرفع درجات أنواع الرواية عند الأكثرين .
    ولا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه : حدثنا ، وأخبرنا ، وأنبأنا ، وسمعت ، وقال لنا فلان ، وذكر لنا فلان ، ونحو ذلك .وهذا الوجه من وجوه التحمل لا اختلاف فيه .
    قال الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث (40) :
    قال القاضي عياض : فلا خلاف حينئذ أن يقول السامع: حدثنا ، وأخبرنا ، وأنبأنا ، وسمعت، وقال لنا ، وذكر لنا فلان.
    قال الخطيب : أفضل العبارات سمعت، ثم حدثنا وحدثني ، قال: وقد كان جماعة من أهل العلم لا يكادون يخبرون عما سمعوه من الشيخ إلا بقولهم : أخبرنا، ومنهم حماد بن سلمة، وابن المبارك، وهشيم بن بشير، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، ويحيى بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهويه، وآخرون كثيرون.
    قال ابن الصلاح : وينبغي أن يكون حدثنا وأخبرنا أعلى من سمعت؛ لأنه قد لا يقصده بالإسماع بخلاف ذلك، والله أعلم.
    قلت (ابن كثير) : بل الذي ينبغي أن يكون أعلى العبارات على هذا ، أن يقول : حدثني؛ فإنه إذا قال : حدثنا أو أخبرنا ، قد لا يكون قصْده الشيخ بذلك أيضا، لاحتمال أن يكون في جمع كثير. والله أعلم.أهـ

    ثانيا : العرض :
    وهو القراءة على الشيخ من حفظ القاريء ، أو من كتاب بين يديه .وسواء كنتَ أنت القاريء ، أو غيرك وأنت تسمع ، أو قرأت في كتاب ، أو من حفظ ، أو كان الشيخ يحفظ ما يُقرأ عليه ، أو يمسك أصله .
    ومستند العلماء للعرض : حديث ضمام بن ثعلبة، وهو في الصحيح .
    قال البخاري في صحيحه (41) : وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ نَعَمْ.فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ.
    وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ: أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَوْفٍ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : لاََ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ.
    وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي.
    قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ ، عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ. أهـ
    قال ابن كثير (42) : وهي ـ العرض ـ دون السماع من لفظ الشيخ . وعن مالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب أنها أقوى ، وقيل: أنهما سواء، ويعزى ذلك إلى أهل الحجاز والكوفة، وإلى مالك أيضا وأشياخه من أهل المدينة، وإلى اختيار البخاري، والصحيح الأول، وعليه علماء المشرق. وقال مالك وسفيان : القراءة على العالم وقراءته سواء .أهـ

    حكمها
    : قال ابن كثير : والرواية بها سائغة عند العلماء إلا عند شذاذ لا يعتد بخلافهم .أهـ
    قلت : يحكى أن طائفة كرهت العرض ، منهم : وكيع ، ومحمد بم سلام ، وأبو مسهر ، وأبو عاصم النبيل ، وحكي ذلك عن أهل العراق .(43)
    فقد روى الخطيب (44) عن أحمد بن أبي الحواري قال : سمعت وكيعا يقول : ما أخذت حديثا قط عرضا . قلت : عندنا من أخذ عرضا قال من عرف ما عرض مما سمع فخذ منه يعني السماع .وروى أيضا عن محمد بن سلاَّم قال : أدركت مالك بن أنس فإذا الناس يقرؤون عليه فلم أسمع منه لذلك .
    لكن الحافظ ابن حجر قال في الفتح (45) : وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزىء ، وإنما كان يقوله بعض المتشددين من أهل العراق ؛ فروى الخطيب عن إبراهيم بن سعد قال : لا تدعون تنطعكم يا أهل العراق ، العرض مثل السماع أهـ.
    وقد قال القاضي عياض (46) : ولا خلاف أنها رواية صحيحة .
    واختلف العلماء هنا في مسألتين هامتين : الأولى : عدم حفظ المحدث لكتابه الذي يقرؤه عليه الثقة .
    فقد ذهب إمام الحرمين الجويني إلى عدم صحة السماع إذا كان الشيخ لا يحفظ كتابه الذي يُقرأ عليه ولم يكن بيده منه نسخة ، وتردد في القاضي أبو بكر الباقلاني وأكثر ميله إلى المنع .(47)
    ونص قول الجويني في ذلك من كتابه البرهان في أصول الفقه (48) : وإذا كان لا يحيط بها وكان لا ينظر في نسخة يعتمدها ولو فرض التدليس عليه لما شعر فإذا قرىء عليه على هذه الصفة شيء من مسموعاته فهذا باطل قطعا فإن التحمل مرتب على التحميل فإذا لم يحمل الشيخ السامع الرواية فكيف يحملها وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا لا يأمن تدليسا والتباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه والغرض المطلوب الفهم والإفهام وتردد جواب القاضي فيه إذا كانت النسخة بيد غير الشيخ وكانت الأحاديث تقرأ وذلك الناظر عدل مؤتمن لا يألو جهدا في التأمل وصغوه الأظهر إلى أن ذلك لا يصح فإن الشيخ ليس على دراية فيه فلم ينهض مفهما محملا فلئن جاز الاكتفاء بنظر الغير فينبغي أن يجوز الاكتفاء بقراءة القارىء المعتمد من النسخة المصححة أهـ .أما إذا حدث الشيخ الثقة نفسه من كتابه وهو لا يحفظ ما فيه ؛ فإن مالكا رحمه الله قال : لا يؤخذ العلم عمن هذه الصفة صفته ، لأني أخاف أن يزاد في كتبه بالليل . وحكي أيضا عن أبي حنيفة رحمه الله .
    قال الحافظ ابن رجب في شرح العلل (49) بعد ذكره قول مالك وأبي حنيفة :
    وعلى قول هؤلاء فلا يجوز العرض على من لا يحفظ ، وأن أمسك الكتاب ، كما لا يجوز له أن يحدث من الكتاب ولا يحفظ ، وأولى . وهكذا اشترط عثمان بن أبي شيبة في العرض أن يكون العالم يعرف ما يُقرأ عليه . ورخص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا يحفظ .منهم : مروان بن محمد ، وابن عيينة ، وابن مهدي ، ويحيى بن معين ، وغيرهم .
    وهذا إذا كان الحفظ معروفاً موثوقاً به ، والكتاب محفوظاً عنده . فإن غاب عنه كتابه ثم رجع إليه فكان كثير منهم يتوقى الرواية منه خشية أن يكون غيّر فيه شئ .منهم : ابن مهدي ، وابن المبارك ، والأنصاري .ورخص فيه بعضهم ، منهم : يحيى بن سعيد . وقال أحمد - في رجل يكون له السماع مع الرجل أله أن يأخذه بعد سنين ؟ - قال : (( لا بأس به إذا عرف الخط )) .
    قال أبو بكر الخطيب : (( إنما يجوز هذا إذا لم ير فيه أثر تغيير حادث من زيادة أو نقصان أو تبديل ، وسكنت نفسه إلى سلامته ، قال : وعلى ذلك يحمل كلام يحيى بن سعيد )) .
    قلت : (( وكذا إن كان له فهم ومعرفة بالحديث وإن لم يكن يحفظه .وقد قال أبو زرعة لما رُدّ عليه كتابه ورأى فيه تغيراً : (( أنا أحفظ هذا ، ولو لم أحفظه لم يكن يخفى عليّ )) .
    وقد قال أحمد في الكتاب - قد طال على الإنسان عهده لا يعرف بعض حروفه فيخبره بعض أصحابه ، ما ترى في ذاك ؟ - قال : (( إذا كان يعلم كما في الكتاب فليس به بأس )) . نقله عنه ابن هانئ .أهـ

    ـ أما المسألة الثانية التي اختلف فيها المحدثون ، فهي : في المحدث الذي لا يحفظ إذا حدث من كتاب غيره .
    قال ابن رجب (50) : فرخص طائفة فيه إذا وثق بالخط ، منهم ابن جريج ، وهو اختيار الإسماعيلي .وقال أحمد : (( ينبغي للناس أن يتقوا هذا )) .وكان يحيى بن سعيد يعيب قوماً يفعلونه .وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله قال : (( ما بالكوفة مثل هنّاد بن السري هو شيخهم )) . فقيل له : (( هو يحدث من كتاب ورّاقة )) . فجعل يسترجع ، ثم قال : (( إن كان هكذا لم يكتب عن هنّاد شئ )) . هذا كله إذا قرأ القارئ على العالم وليس معه أحد ، فإن كان معه أحد يسمع معه فقالت طائفة : لا بد لمن يسمع معه أن ينظر في نسخته ، وإلا فلا يصح سماعه ، منهم ابن وارة وغيره ... أهـ

    واختلف العلماء فيما يقول من عرض الحديث إذا حدث به :
    حيث إن الأحوط في الرواية لمن عرض الحديث أن يقول : قرأت على فلان ، أو قريء عليه وأنا أسمع . أما الرواية بـ : حدثنا أو أخبرنا .
    فقد ذهب الإمام ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن حنبل ومسلم والنسائي إلى عدم جواز أن يقول الراوي : حدثنا وأخبرنا فيما تحمله بالعرض . (51)
    قال الخطيب :هو مذهب خلق كثير من أصحاب الحديث .وروى بسنده عن الباقلاني قال : اختلف الناس في قارىء الحديث على الشيخ إذا أقر له به أو سكت عنه سكوتا يقوم مقام اقراره به هل يجوز أن يقول سمعت فلانا يحدث بكذا أو حدثني فلان بكذا أم لا يسوغ له ذلك فقال بعضهم يجوز له بغير تقييد . وقال آخرون : لا يجوز أن يقول سمعت فلانا ولا حدثني ولا أخبرني . وهذا هو الصحيح؛ لأن ظاهر قوله سمعت يفيد أن المحدث نطق به وأن القائل سمعته يحكي لفظه، وذلك باطل وإخبار بالكذب ، وكذلك ظاهر قوله: حدثنا وأخبرنا ؛ لأن ظاهر ذلك يفيد أنه نطق وتحدث بما أخبر به وذلك ما لا أصل له وليس ببعيد عندنا جواز ذلك لمن علم حاله أنه لا يقصد إيهام سماع لفظه واخباره وحديثه من لفظه وانه انما يستعمل ذلك على معنى انه قرئ عليه وهو يسمع وانه أقر به أو سكت عنه سكوت مقر به إذا كان ثقة عدلا لا يقصد التمويه والإلباس فأما ان عرف بقصد ذلك لم يقبل حديثه ولم يسغ له ذلك أهـ
    وذهب آخرون إلى جواز ذلك ، منهم : الزهري ، ويحيى القطان ، والثوري ، ,ابو حنيفة في أحد قوليه ، وصاحباه ، ومالك بن أنس ، وابن عيينة ، والبخاري ، وكثير من الحجازيين والكوفيين .
    بل ذهب مالك والسفيانان إلى جواز أن يقول : سمعت .(52)
    ومنعت طائفة قول : (حدثنا) وأجازت (أخبرنا) ، وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وابن جريج والأوزاعي وابن وهب ، وجمهور أهل المشرق ، وعزاه محمد بن الحسن التميمي الجوهري في كتابه الإنصاف لأكثر أصحاب الحديث (53)
    قال ابن الصلاح (54) : الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث .أهـ

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    المشاركات
    10,731

    افتراضي

    جزاك الله خيرا شيخنا أبا مالك .. للمتابعة
    لا إله إلا الله
    اللهم اغفر لي وارحمني ووالديّ وأهلي والمؤمنين والمؤمنات وآتنا الفردوس الأعلى

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    بارك الله في الإخوة الأفاضل : أبو عاصم ـ دحية الكلبي ـ ابن الصديق ـ رضا الحملاوي .
    نفع الله بكم جميعا على متابعتكم ومروركم العطر .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    ثالثا : الإجازة :
    والإجازة هي : إذن الشيخ للطالب ، أن يروي عنه مسموعاته أو مروياته ـ كلها أو بعضها ـ من غير أن يسمع ذلك منه أو يقرأه عليه ، كأن يقول له : أخبرتك ، أو أجزت لك أن تروي عني كتاب كذا ، كـ : ( صحيح مسلم ) ، أو كتاب الطهارة ـ مثلا ـ من صحيح مسلم ،. فيروي عنه بموجب ذلك ، وتكون إجازته له إما بخطه ولفظه ، وهو أعلى ، أو بأحدهما ، وسواء كان التلميذ حاضرا أو غائبا . (55)
    أركانها :
    1 ـ المجيز ، وهو الشيخ .
    2 ـ المجاز له ، وهو التلميذ .
    3 ـ المجاز به ، وهو كتاب الشيخ أو مروياته ؛ كلها أو بعضها .
    4 ـ الصيغة الدالة على الإذن بالإجازة .
    حكمها :
    1 ـ ذهب كثير من العلماء ، وهم الجمهور ، إلى جوازها ، قال ابن كثير في اختصار علوم الحديث (56) :
    وادعى القاضي أبو الوليد الباجي الإجماع على ذلك . ونقضه ابن الصلاح بما رواه الربيع عن الشافعي أنه منع من الرواية بها .أهـ
    وقال القاضي في الإلماع (57) : وقال القاضى أبو الوليد الباجى : لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة من سلف هذه الأمة وخلفها ، وادعى فيه الإجماع ، ولم يفصل ، وذكر الخلاف في العمل بها .أهـ
    وقد حكى الباقلاني أيضا عدم الخلاف في صحتها ، وما حكياه مردود بما سيأتي بإذن الله .

    2 ـ ذهب جماعة من أهل الحديث وغيرهم إلى عدم جوازها .
    قال ابن الصلاح (58) ـ بعد أن ذكر ادعاء الباجي للإجماع على جوازها ـ :
    هذا باطل ، فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعات من أهل الحديث والفقهاء والأصوليين ، وذلك إحدى الروايتين عن الشافعي رضي الله عنه. روي عن صاحبه الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي لا يرى الإجازة في الحديث. قال الربيع: أنا أخالف الشافعي في هذا .وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين منهم: القاضيان حسين بن محمد المروروذي وأبو الحسن الماوردي ، وبه قطع الماوردي في كتابه "الحاوي" وعزاه إلى مذهب الشافعي وقالا جميعا : لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وروي أيضا هذا الكلام عن شعبة وغيره.
    وممن أبطلها من أهل الحديث الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي ، وأبو محمد عبد الله بن محمد إلاصبهاني الملقب بأبي الشيخ والحافظ أبو نصر الوايلي السجزي. وحكى أبو نصر فسادها عن بعض من لقيه. قال أبو نصر: وسمعت جماعة من أهل العلم يقولون: قول المحدث قد أجزت لك أن تروي عني تقديره أجزت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يبيح رواية ما لم يسمع.
    قلت ـ أي : ابن الصلاح ـ : ويشبه هذا ما حكاه أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي أحد من أبطل الإجازة من الشافعية عن أبي طاهر الدباس أحد أئمة الحنفية قال: من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع فكأنه يقول أجزت لك أن تكذب علي .أهـ

    قلت : لكن جاء تراجع السجزي عما نقله ابن الصلاح وغيره ، في الوجيز في ذكر المجاز والمجيز ص 62 ، 65 : نقل ذلك عنه ، ثم ذكر تراجعه والأخذ بالإجازة والإجابة عنها ، اقتداء بأكثر من قبله من الحفاظ المتقنين .

    وإلى عدم جوازها ذهب الحافظ صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب ، الأسدي ، المعروف بـ : ( صالح جزرة ) ، حيث روى عنه الخطيب (59) قوله : الإجازة ليست بشيء .
    وروى الخطيب أيضا عن الإمام أبي زرعة الرازي ـ وقد سئل عن إجازة الحديث والكتب ؟ فقال : ما رأيت أحدا يفعله فإن تساهلنا في هذا يذهب العلم ولم يكن للطلب معني وليس هذا من مذهب أهل العلم .أهـ
    وحكى الآمدي في الإحكام (60) : عدم جواز الرواية بالإجازة عن أبي حنيفة وأبي يوسف .
    وقال ابن حزم (61) : إنها بدعة غير جائزة .
    وقال الجويني في البرهان (62) : إذا قال الشيخ المتلقى عنه أجزتك أن تروى عني ما صح عندك من مسموعاتي أو عين كتابا وأجاز له الرواية عنه فقد تردد الأصوليون في ذلك
    فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم ولا يسوغ التعويل عليها عملا ورواية .أهـ

    لكن ابن الصلاح قال : ثُمَّ إِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ، وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَغَيْرِهِمُ : الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ الْإِجَازَةِ ، وَإِبَاحَةِ الرِّوَايَةِ بِهَا .
    وَفِي الِاحْتِجَاجِ لِذَلِكَ غُمُوضٌ ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يَقُولَ : إِذَا أَجَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَرْوِيَّاتِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا جُمْلَةً ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ تَفْصِيلًا ، وَإِخْبَارُهُ بِهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّصْرِيحِ نُطْقًا كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ كَمَا سَبَقَ ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ حُصُولُ الْإِفْهَامِ ، وَالْفَهْمِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِجَازَةِ الْمُفْهِمَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
    ثُمَّ إِنَّهُ كَمَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمَرْوِيِّ بِهَا ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ : إِنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْمُرْسَلِ . وَهَذَا بَاطِلٌ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِجَازَةِ مَا يَقْدَحُ فِي اتِّصَالِ الْمَنْقُولِ بِهَا ، وَفِي الثِّقَةِ بِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ

    أنواع الإجازة وأحكامها :
    قد ذكر العلماء للإجازة أنواعا كثيرة ، ذكر القاضي عياض ستا ، وأضاف إليها ابن الصلاح نوعا آخر ، وكذلك العراقي ذكر نوعين آخرين ، فصارت تسعا . وقد ذكرها ابن الصلاح رحمه الله .
    النوع الأول : إجازة من معين لمعين في معين .
    وذلك كأن يقول الشيخ لشخص معين أو عدة أشخاص بأعيانهم : أجزتك أن تروي عني هذا الكتاب أو هذه الكتب .
    أي حال كونهما عالمين بهذا الكتاب . وهو أعلى أنواع الإجازة .(63)
    والصحيح الذي عليه الجمهور واستقر العمل عليه جواز الرواية والعمل بها . وهذا النوع من الإجازة هو الذي استحسنه العلماء وقبلوه .
    قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم (64) : تلخيص هذا الباب : أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة حاذق بها، يعرف كيف يتناولها؟ ويكون في شيء معين معروف، لا يشكل إسناده، فهذا هو الصحيح من القول في ذلك، والله أعلم.أهـ
    وقال ابن الصلاح (65) : إِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ الْإِجَازَةُ إِذَا كَانَ الْمُجِيزُ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ ، وَالْمُجَازُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهَا تَوَسُّعٌ ، وَتَرْخِيصٌ ، يَتَأَهَّلُ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لِمَسِيسِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا ،..أهـ

    أما من ذهب إلى عدم صحتها ، فهم من تقدمت الحكاية عنهم بردِّ الإجازة مطلقا .

    النوع الثاني : إجازة لمعين في غير معين .
    مثل أن يقول الشيخ لشخص معين : أجزت لك أن تروي عني ما أرويه ، أو صح عندك من مسموعاتي ومصنفاتي .
    والخلاف في هذا النوع أقوى من سابقه ، إلا أن الجمهور أجازوا الرواية بها كما أوجبوا العمل فيها .
    قال القاضي عياض رحمه الله في الإلماع (66) : والصحيح جوازه ، وصحت الرواية والعمل به بعد تصحيح شيئين : تعيين روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها ، وصحة مطابقة كتب الراوي لها .

    النوع الثالث : إجارة من معين لغير معين ( وتسمى بالإجازة العامة ).
    مثل أن يقول الشيخ : أجزت المسلمين ، أو كل أحد ، أو أهل زماني ، أو للموجودين ، أو لمن قال : لا إله إلا الله : هذا الكتاب أو مروياتي .
    وأجازها على هذا الإطلاق : أبو بكر الخطيب ، ونقلها عن شيخه أبي الطيب الطبري ، والباقلاني وابن منده وابن عتاب والحافظ أبو العلاء العطار والسلفي ونقلها الحازمي عن شيخه بي العلاء الهمداني الحافظ ، وغيرهم من محدثي المغاربة.
    قال ابن الصلاح (67) : وَلَمْ نَرَ ، وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْإِجَازَةَ فَرَوَى بِهَا ، وَلَا عَنِ الشِّرْذِمَةِ الْمُسْتَأْخِرَ ةِ الَّذِينَ سَوَّغُوهَا ، وَالْإِجَازَةُ فِي أَصْلِهَا ضَعْفٌ ، وَتَزْدَادُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ ، وَالِاسْتِرْسَا لِ ضَعْفًا كَثِيرًا لَا يَنْبَغِي احْتِمَالُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ
    لكن تعقبه النووي وغيره ، فقال النووي : الظاهر من كلام مصححها جواز الرواية بها وهذا يقتضي صحتها وأي فائدة لها غير الرواية بها .أهـ

    أما إذا قيد الشيخ الإجازة بوصف حاضر ، فتكون للجواز ؛ كأن يقول الشيخ : أجزت لمن لقيني ، أو لكل من قرأ علي العلم ، أو لأهل بلد كذا ، أو لبني هاشم ، ونحو ذلك .
    قال القاضي عياض في الإلماع (68) عن الإجازة بوصف حاضر : فما أحسبهم اختلفوا في جوازه ممن تصح عنده الإجازة ولا رأيت منعه لأحد ؛ لأنه محصور موصوف كقوله : لأولاد فلان أو إخوة فلان .أهـ

    النوع الرابع : الإجازة للمجهول أو بالمجهول :
    أما الإجازة للمجهول ، فكأن الشيخ يقول : أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي ، وهناك في وقته أكثر من واحد بهذا الاسم والنسب ، ثم لا يعين المجاز له منهم .
    والإجازة بالمجهول : كأن يقول الشيخ : أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن . وهو يروي من كتب السنن المعروفة أكثر من واحد ثم لا يعين ، وهذه الإجازة فاسدة ، كما قاله ابن كثير (69) ، ثم قال : وليس منها ما يقع من الاستدعاء لجماعة مسمين لا يعرفه المجيز أو لا يتصفح أنسابهم ولا عدتهم، فإن هذا سائغ شائع، كما لا يستحضر المسمع أنساب من يحضر مجلسه ولا عدتهم. والله أعلم.

    أما إن قال الشيخ : أجزت لمن يشاء فلان ، أو نحو ذلك ، ففيه جهالة وتعليق ، فالظاهر أنه لا يصح ، وبذلك أفتى أبو الطيب الطبري وأبو الحسن المالكي ، والقاضي أبو عبد الله الدامغاني الحنفي ، وقد استعمل ذلك بعض المتقدمين كالحافظ أبن أبي خيثمة ، ومحمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة (70).

    النوع الخامس : الإجازة للمعدوم .
    وهي نوعان : إجازة للمعدوم ابتداء من غير عطف على موجود ، كأن يقول الشيخ : أجزت لمن يولد لفلان ، أو : لطلبة العلم ببلد كذا متى كانوا ، ونحو ذلك .
    وهذا النوع أجازه بعض أهل العلم ، منهم : الخطيب البغدادي ، وأبو يعلى ابن الفراء الحنبلي ، وابن عمروس المالكي ، وأبو نصر بن الصباغ .
    ومنعه : أبو الطيب الطبري ، وقال ابن الصلاح : وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره ؛ لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز على ما قدمناه في بيان صحة أصل الإجازة ، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة للمعدوم .
    والنوع الثاني : إجازة للمعدوم مع عطف على موجود ، كأن يقول الشيخ : أجزت لفلان ولمن يولد له ، أو : أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا.
    قال ابن الصلاح(71) : ذلك ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْجَوَازِ مِنَ الْأَوَّلِ . وَلِمِثْلِ ذَلِكَ أَجَازَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْوَقْفِ الْقِسْمَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ .وَقَدْ أَجَازَ أَصْحَابُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْوَقْفِ - الْقِسْمَيْنِ وَفَعَلَ هَذَا الثَّانِيَ فِي الْإِجَازَةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَقَدِّمِي نَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِي ُّ ، فَإِنَّا رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ الْإِجَازَةَ ، فَقَالَ : " قَدْ أَجَزْتُ لَكَ ، وَلِأَوْلَادِكَ ، وَلِحَبَلِ الْحَبَلَة ِ " . يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ .أهـ

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    النوع السادس : إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله .
    كأن يقول الشيخ لشخص معين : أجزت لك أن تروي عني ما سأسمعه .
    قال القاضي عياض في الإلماع (72) : فهذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ . ورأيت بعض المتأخرين والعصريين يصنعونه .
    ثم قال :
    كنت عند القاضى بقرطبة أبى الوليد يونس بن مغيث فجاءه إنسان فسأله الإجازة له بجميع ما رواه إلى تاريخها وما يرويه بعد فلم يجبه إلى ذلك فغضب السائل فنظر إلى يونس فقلت له : يا هذا يعطيك ما لم يأخذه ، هذا محال . فقال يونس : هذا جوابي .
    قال القاضى عياض : وهذا هو الصحيح فإن هذا يجيز بما لا خبر عنده منه ويأذن في الحديث بما لم يتحدث به بعد ويبيح مالم يعلم هل يصح له الإذن فيه فمنعه الصواب كما قال القاضي أبو الوليد يونس وصاحبه أبو مروان .أهـ
    قال العراقي في التقييد والإيضاح (73) : قلت: ينبغي أن يبنى هذا على أن الإجازة في حكم إلاخبار بالمجاز جملة أو: هي إذن ؟ فإن جعلت في حكم إلاخبار لم تصح هذه الإجازة إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه. وإن جعلت إذنا انبنى هذا على الخلاف في تصحيح إلاذن في باب الوكالة فيما لم يملكه إلاذن الموكل بعد مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه. وقد أجاز ذلك بعض أصحاب الشافعي ، والصحيح بطلان هذه الإجازة. وعلى هذا يتعين على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلا: أن يبحث حتى يعلم أن ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ هذه الإجازة. وأما إذا قال: أجزت لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي فهذا ليس من هذا القبيل. وقد فعله الدارقطني وغيره. وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة. ويجوز ذلك وإن اقتصر على قوله: ما صح عندك ولم يقل وما يصح لأن المراد: أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك. فالمعتبر إذا فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية. والله أعلم.أهـ


    النوع السابع : إجازة المجاز .
    مثل أن يقول الشيخ لشخص ما : أجزت لك مجازاتي ، أو : أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته .
    وقد منعه الحافظ أبو البركات عبد الوهاب بن امبارك الأنماطي شيخ ابن الجوزي ، وصنف في ذلك جزءا ؛ لأن الإجازة ضعيفة فيقوى الضعف باجتماع إجازتين . وحكاه الحافظ أبو علي البرداني عن بعض منتحلي الحديث ولم يسمه .

    وقال ابن الصلاح (74) :
    وحكى الخطيب الحافظ تجويز ذلك عن الحافظ إلامام أبي الحسن الدارقطني والحافظ أبي العباس المعروف بابن عقدة الكوفي وغيرهما. وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة حتى ربما والى في روايته بين إجازات ثلاث وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه ومقتضاها حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها. فإذا كان مثلا صورة إجازة شيخ شيخه أجزت له ما صح عنده من سماعاتي فرأى شيئا من مسموعات شيخ شيخه فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه حتى يستبين أنه مما كان قد صح عند شيخه كونه من سماعات شيخه الذي تلك إجازته ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده إلان عملا بلفظه وتقييده. ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره والله أعلم.
    قال ـ قبل الكلام السابق ـ : وَالصَّحِيحُ - وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ - أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَا امْتَنَعَ مِنْ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُوَكِّلِ ، وَوَجَدْتُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو السَّفَاقُسِيِّ الْحَافِظِ الْمَغْرِبِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا نُعَيْمٍ الْحَافِظَ الْأَصْبَهَانِي َّ يَقُولُ : " الْإِجَازَةُ عَلَى الْإِجَازَةِ قَوِيَّةٌ جَائِزَة ٌ ".أهـ

    أما العبارة عن التحمل بالإجازة :
    ذهب أبو نعيم الأصبهاني وأبو عبيد الله المرزباني إلى جواز إطلاق : حدثنا وأخبرنا في الإجازة المجردة . وحكاه القاضي عياض (75) عن ابن جريج وبعض أهل العلم من المتقدمين .
    وصححه إمام الحرمين الجويني في البرهان (76) .

    قال ابن الصلاح (77) : وَالصَّحِيحُ - وَالْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْجُمْهُورِ ، وَإِيَّاهُ اخْتَارَ أَهْلُ التَّحَرِّي ، وَالْوَرَعِ - الْمَنْعُ فِي ذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ (حَدَّثَنَا ، وَأَخْبَرَنَا) ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْعِبَارَاتِ ، وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ تُشْعِرُ بِهِ ، بِأَنْ يُقَيِّدَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فَيَقُولُ : (أَخْبَرَنَا ، أَوْ حَدَّثَنَا فُلَانٌ مُنَاوَلَةً وَإِجَازَةً ، أَوْ أَخْبَرَنَا إِجَازَةً ، أَوْ أَخْبَرَنَا مُنَاوَلَةً ، أَوْ أَخْبَرَنَا إِذْنًا ، أَوْ فِي إِذْنِهِ ، أَوْ فِيمَا أَذِنَ لِي فِيهِ ، أَوْ فِيمَا أَطْلَقَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ) ، أَوْ يَقُولُ : (أَجَازَ لِي فُلَانٌ ، أَوْ أَجَازَنِي فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ نَاوَلَنِي فُلَانٌ) ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ .وَخَصَّصَ قَوْمٌ الْإِجَازَةَ بِعِبَارَاتٍ لَمْ يَسْلَمُوا فِيهَا مِنَ التَّدْلِيسِ ، أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ ، كَعِبَارَةِ مَنْ يَقُولُ فِي الْإِجَازَةِ (أَخْبَرَنَا مُشَافَهَةً) إِذَا كَانَ قَدْ شَافَهَهُ بِالْإِجَازَةِ لَفْظًا ، كَعِبَارَةِ مَنْ يَقُولُ : (أَخْبَرَنَا فُلَانٌ كِتَابَةً ، أَوْ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ ، أَوْ فِي كِتَابِهِ) إِذَا كَانَ قَدْ أَجَازَهُ بِخَطِّهِ . فَهَذَا - وَإِنْ تَعَارَفَهُ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَأَخِّرِي نَ - فَلَا يَخْلُو عَنْ طَرَفٍ مِنَ التَّدْلِيسِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ ، وَالِاشْتِبَاهِ بِمَا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ .
    وَوَرَدَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ خَصَّصَ الْإِجَازَةَ بِقَوْلِهِ : " خَبَّرَنَا " بِالتَّشْدِيدِ ، وَالْقِرَاءَةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " أَخْبَرَنَا " .
    وَاصْطَلَحَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ عَلَى إِطْلَاقِ (أَنْبَأَنَا) فِي الْإِجَازَةِ ، وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ بِكْرٍ صَاحِبُ (الْوَجَازَةِ فِي الْإِجَازَةِ) . وَقَدْ كَانَ (أَنْبَأَنَا) عِنْدَ الْقَوْمِ - فِيمَا تَقَدَّمَ - بِمَنْزِلَةِ (أَخْبَرَنَا) ، وَإِلَى هَذَا نَحَا الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ إِذْ كَانَ يَقُولُ : " أَنْبَأَنِي فُلَانٌ إِجَازَةً " ، وَفِيهِ أَيْضًا رِعَايَةٌ لِاصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2012
    المشاركات
    13,372

    افتراضي

    بارك الله فيكم شيخنا، ونفع بكم
    لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله
    الرد على الشبهات المثارة حول الإسلام

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    وفيكم بارك الله أبا يوسف .

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي

    للرفع
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    رابعا : المناولة :
    وهي : إعطاء الشيخ الطالب شيئا من مروياته مع إجازته به صريحا أو كناية .
    قال السيوطي في التدريب (78) : والأصل فيها ما علقه البخاري في العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتابا وقال : لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وصله البيهقي والطبراني بسند حسن .
    قال السهيلي (79) : احتج به البخاري على صحة المناولة ، فكذلك العالم إذا ناول التلميذ كتابا جاز له أن يروى عنه ما فيه قال وهو فقه صحيح .
    قال البلقيني في محاسن الاصطلاح (80) : وأحسن ما يستدل به عليها ما استدل به الحاكم من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى .أهـ
    وقال البلقيني في محاسن الاصطلاح أيضا (81) : ففي ((معجم البغوي الكبير)) عن يزيد الرقاشي قال: " كنا إذا أكثرنا على أنَس ِ بن مالك أتانا بِمخَال ٍ له فألقاها إلينا وقال: هذه أحاديثُ سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتبتُها وعرضتها ".أهـ
    وقال العيني في عمدة القاري (82) : وجه الاستدلال به ـ أي الحديث ـ أنه جاز له الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه ، وإن كان النبي عليه السلام لم يقرأه ولا هو قرأ عليه ، فلولا أنه حجة لم يجب قبوله ففيه المناولة ومعنى الكتابة .أهـ

    أنواع المناولة :

    النوع الأول :
    وهو أعلاها وأرفعها ، المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة .
    مثل أن يدفع الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخة منه وقد صححها ، أو أحاديث من حديثه وقد انتخبها بخطه ، أو كتبت عنه فعرفها ، فيقول للطالب : هذه روايتي ، باروها عني ويدفعها إليه . أو يقول له : خذها فانسخها وقابل بها ثم اصرفها إلي ، وقد أجزت لك أن تحدث بها عني ، أو اروها عني .
    أو يأتيه الطالب بنسخة صحيحة من رواية الشيخ ، أو بجزء من حديثه ، فيقف عليه الشيخ ويعرفه ويحقق جميعه وصحته ويجيزه له .
    وهي رواية صحيحة عند كثير من أهل العلم ، وهو مذهب يحيى بن سعيد الأنصارى والحسن والأوزاعي وعبيد الله العمري وحيوة بن شريح والزهرى وهشام بن عروة وابن جريح ، وحكاه الحاكم عن أبى بكر بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والشعبى والنخعى وقتادة في جماعة عذهم من أئمة المدينة والكوفة والبصرة ومصر وهو قول كافة أهل النقل والأداء والتحقيق من أهل النظر.(83) أهـ

    النوع الثاني :
    مناولة مع إجازة من غير تمكين من النسخة .
    كأن يعرض الشيخ كتابه ، ويناوله الطالب ، ويأذن له في الحديث به عنه ، ثم يمسكه الشيخ عنده ولا يمكنه منه .
    قال ابن الصلاح (84) : فَهَذَا يَتَقَاعَدُ عَمَّا سَبَقَ ، لِعَدَمِ احْتِوَاءِ الطَّالِبِ عَلَى مَا تَحَمَّلَهُ ، وَغَيَّبْتَهُ عَنْهُ ، وَجَائِزٌ لَهُ رِوَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُ ، إِذَا ظَفِرَ بِالْكِتَابِ ، أَوْ بِمَا هُوَ مُقَابَلٌ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَثِقُ مَعَهُ بِمُوَافَقَتِهِ لِمَا تَنَاوَلَتْهُ الْإِجَازَةُ ، عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَازَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْمُنَاوَلَةِ .
    ثُمَّ إِنَّ الْمُنَاوَلَةَ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَكَادُ يَظْهَرُ حُصُولُ مَزِيَّةٍ بِهَا عَلَى الْإِجَازَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مُعَيَّنٍ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُنَاوَلَةٍ . وَقَدْ صَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّ ينَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا وَلَا فَائِدَةَ ، غَيْرَ أَنَّ شُيُوخَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ - أَوْ مَنْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْهُمْ - يَرَوْنَ لِذَلِكَ مَزِيَّةً مُعْتَبَرَةً ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .أهـ

    النوع الثالث : المناولة المجردة من الإجازة .
    كأن يقول الشيخ للتلميذ : هذا من حديثي ، أو من مسموعاتي ، ولا يقول له : اروه عني ، أو أجزت لك روايته عني ، أو نحو ذلك .
    وقد اختلف العلماء في حكمها : فقد حكى الخطيب البغدادي في الكفاية(85) عن طائفة من أهل أهل أنهم صححوها وأجازوا الرواية بها .
    وقال ابن الصلاح (86) : هذه مناولة مختلفة لا تجوز الرواية بها.وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها.أهـ

    القول في عبارة الراوي بطريق المناولة :
    اختلف العلماء في ذلك : فذهب الزهري ومالك بن أنس والحسن البصري وغيرهم إلى جواز إطلاق ( حدثنا ، وأخبرنا ) في الرواية بالمناولة .
    وذهب الجمهور إلى عدم جواز ذلك وقالوا بتخصيص ذلك بعبارة تشعر به بأن يقيد هذه العبارات فيقول : أخبرنا مناولة ، أو حدثنا مناولة ، ونحوه .(87)

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    خامسا : المكاتبة :
    وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب لمن حضر عنده ، أو لمن غاب عنه ، شيئا من حديثه بخطه ، وسواء كتبه بنفسه أم أمر غيره أن يكتبه (88).
    وهي على نوعين :
    النوع الأول : المكاتبة المقرونة بالإجازة .
    كأن يقول الشيخ لمن كتب له : أجزت لك ما كتبته لك ، أو ما كتبت به إليك ، ونحو ذلك من عبارات الإجازة .
    وهذه في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة .
    والرواية بها صحيحة بلا خلاف كما قال ابن النفيس (89).

    النوع الثاني : المكاتبة المجردة من الإجازة .
    واختلف في جوازها ؛ فقطع الماوردي والآمدي وابن القطان إلى عدم جوازها .
    وأجازها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم : أيوب السختياني ، ومنصور بن المعتمر ، والليث بن سعد ، وقاله غير واحد من الشافعية والأصوليين (90).

    قال ابن كثير (91) :
    وهو المشهور، وجعلوا ذلك أقوى من الإجازة المجردة .
    وقال ابن الصلاح في علوم الحديث (92)
    : هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي مَسَانِيدِهِمْ ، وَمُصَنَّفَاتِه ِمْ قَوْلُهُمْ : " كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ قَالَ : حَدَّثَنَا فُلَانٌ " ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا . وَذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ ، مَعْدُودٌ فِي الْمُسْنَدِ الْمَوْصُولِ ، وَفِيهَا إِشْعَارٌ قَوِيٌّ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْإِجَازَةِ لَفْظًا فَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْإِجَازَةَ مَعْنًى .ثُمَّ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ خَطَّ الْكَاتِبِ ، وَإِنْ لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ .أهـ

    قال الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (93) :
    ( قوله ) " ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب " إلى آخره
    قال ابن أبي الدم :" ذهب بعض المحدثين وغيرهم إلى أنه لا يجوز الاعتماد على الخط من حيث إن الخط يتشابه أخذا من الحاكم بأنه لا يجوز له العمل بما يرد عليه من المكاتبات الحكمية من قاض آخر إذا عرف الخط على القول الصحيح ، وهذا وإن كان له اتجاه على الحكم ، فالأصح الذي عليه العمل جواز الاعتماد على الخط ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى عماله فيعملون بها واعتمادهم على معرفها . واعلم أنا حيث قلنا بصحة المكاتبة فهي أنزل رتبة من السماع حتى يرجح ما روي بالسماع على ما روي عليها ".
    ووقع في مثل ذلك مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه بحضرة أحمد بن حنبل في جلود الميتة إذا دبغت فقال الشافعي : دباغها طهورها . قال إسحاق : ما الدليل ؟ فقال : حديث ابن عباس ، عن ميمونة : " هلا انتفعتم بجلدها ". يعني الشاة الميتة فقال إسحاق : حديث ابن عكيم كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر: " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " أشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة ؛ لأنه قبل موته بشهر .
    فقال الشافعي : هذا كتاب وذاك سماع . فقال إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكان حجة عليهم . فسكت الشافعي. قال الشيخ أبو الفتح القشيري : كان والدي رحمه الله يحكي عن شيخه الحافظ أبي الحسن المقدسي المالكي : أنه كان يرى أن حجة الشافعي باقية يريد لأن الكلام في الترجيح بالسماع والكتاب ولا في إبطال الاستدلال بالكتاب يعني فلم يكن لقول إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب . إلى آخره معنى لأنه ليس الكلام فيه .

    القول في عبارة الراوي بطريق المكاتبة :
    قد اختلف العلماء في ذلك : حيث ذهب الليث ومنصور بن المعتمر وغيرهما إلى جواز إطلاق : حدثنا وأخبرنا دون تقييده بالكتابة .
    وذهب جمهور أهل الحديث إلى منع الإطلاق ، وصححوا التقييد بالكتابة ، فيقول : حدثنا أو أخبرنا كتابة أو مكاتبة (93).
    قال ابن كثير (94) : وجوز الليث ومنصور عن المكاتبة أن يقول: "أخبرنا" و"حدثنا" مطلقا ، والأحسن أن يكون تقييده بالمكاتبة.أهـ
    وقال ابن الملقن في المقنع في علوم الحديث (95) :
    وفي الصحيح أحاديث من هذا النوع :
    منها عند مسلم 10 - ( 1822 ) حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : ( كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فكتب إلي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة عشية رجمه الأسلمي ) فذكر الحديث .
    وقال خ في كتاب الأيمان والنذور (6673) :" كتب إلي محمد بن بشار ".أهـ
    قال الجديع في تحرير علوم الحديث (96) :
    والسنة وعمل المسلين في الصدر الأول بالمكاتبة متواتر ، وهي عندهم حجة ، كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك ، وكتب أبو بكر وعمر إلى الأمراء والولاة ، ولزمت الحجة بتلك الكتب .
    قال القاضي عياض : " استمر عمل السلف فمن بعدهم من المشايخ بالحديث بقولهم : ( كتب إلي فلان ، قال : أخبرنا فلان ) ، وأجمعوا على العمل بمقتضى هذا التحديث ، وعدوه في المسند بغير خلاف يعرف في ذلك ".
    وما ذكرنا من اشتراط صحة ذلك الكتاب عمن نسب إليه ، طريقه : اعتماد نسبة الراوي عن الشيخ ذلك الكتاب إليه ، مادام الراوي ثقة .
    وقد يتأكد ذلك بقرينة زائدة ، كقول عبد الله بن أحمد بن حنبل : " كتب إلي قتيبة بن سعيد : كتبت إليك بخطي ، وختمت الكتاب بخاتمي ، يذكر الليث بن سعد حدثهم ".

    فهذه زيادة وتوكيد ، وإلا فمجرد أن يقول عبد الله : ( كتب إلي قتيبة ) فقد بين أن ذلك الكتاب كتاب قتيبة : ومادام ثقة فهو صادق في تلك النسبة .
    ومن أمثلة ما احتجوا به وهو مما روي بهذه الطريق :
    1 ـ قال قتادة : كتبنا إلى إبراهيم بن يزيد النخعي نسأله عن الرضاع ؟ فكتب : إن شريحاً حدثنا ، أن علياً وابن مسعود كانا يقولان : يحرم من الرضاع قليله وكثيره . وكان في كتابه : إن أبا الشعثاء المحاربي حدثنا ، أن عائشة حدثته ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تحرم الخطفة والخطفتان ".
    2 ـ وقال عبد الله بن عون : كتب إليَّ نافع : أن ابن عمر قال : " نُهي عن لحوم الحمر الإنسية ".
    3 ـ وقال الأوزاعي : كتب إلي قتادة ، قال : حدثني أنس بن مالك : أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون بـ( الحمد لله رب العالمين ) ، لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول القراءة ولا في آخرها .
    4 ـ ومما اتفق عليه الشيخان مما جاء بهذا الطريق :
    رواية أبي عثمان النهدي ، قال : " أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث في النهي عن الحرير .
    وفي لفظ ، قال أبو عثمان : " كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان " ، وفي لفظ ثالث : " كنا مع عتبة ، فكتب إليه عمر ".
    5 ـ وما أخرجه البخاري من طريق هشام الدستوائي ، قال : " كتب إلي يحيى " يعني ابن أبي كثير ، وساق حديثاً في الصلاة ".
    6 ـ وما أخرجه البخاري من طريق الليث بن سعد ، قال : " كتب إلي هشام " يعني ابن عروة ، وساق حديثاً في فضل خديحة .
    7 ـ وما أخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني قال : " كتب إلي يعلى بن حكيم " وساق حديثاً في كراء الأرض .
    بل إن البخاري ومسلماً خرجا رواية الرجل عن الرجل ممن لم يثبت السماع بينهما البتة ، وإنما كان ذلك مكاتبة ، وتلك رواية الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر المصري ، فإنه صح عن الليث قال : " لم أسمع من عبيد الله بن أبي جعفر ، إنما كان صحيفة كتب إلي ، ولم أعرضه عليه ".
    نعم الرواية في الكتابين بصيغة العنعنة ، لكن المقصود أن الشيخين لم يريا تلك الصورة انقطاعاً ، مع أن طريق التلقي فيها لم يكن إلا المكاتبة ، بل قال البخاري في ترجمة ( ابن أبي جعفر ) : " سمع منه الليث " ، فعد المكاتبة بمنزلة السماع .
    وهو مذهب الليث بن سعد نفسه ، فإن عبد الله بن وهب قال : لقد كان يحيى بن سعيد يكتب إلى الليث بن سعد ، فيقول : " حدثني يحيى بن سعيد " ، وكان هشام بن عروة يكتب إليه ، فيقول " حدثني هشام ".أهـ

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    سادسا : الإعلام :
    وهو إعلام الشيخ أن هذا الكتاب سماعه من فلان ، من غير أن يأذن له في روايته عنه .
    وقد اختلف العلماء في جوازها على النحو الآتي :
    فقال بجوازها طوائف من المحدثين والفقهاء والأصوليين ، كابن جريج ، واختاره القاضي أبو محمد الرامهرمزي ، والوليد بن بكر الغمري المالكي في كتاب "الوجازة في تجويز الإجازة" . وكذا قالت به بعض الظاهرية .
    وروي أيضا عن عبيد الله العمري وأصحابه المدنيين ، وهو مذهب عبد الملك بن حبيب من أئمة المالكية ، وبه قطع أبو نصر ابن الصباغ من الشافعية (97).
    قال القاضي عياض في الإلماع (98) :
    هذا صحيح لا يقتضي النظر سواه ؛ لأن منعه ألا يحدث بما حدثه ، لا لعلة ولا ريبة في الحديث لا تؤثر ؛ لأنه قد حدثه فهو شيء لا يرجع فيه .أهـ
    قال ابن الصلاح (99) :
    وَوَجْهُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ ، فَإِنَّهُ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ ، وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ رِوَايَتُهُ عَنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ لَفْظِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ : " ارْوِهِ عَنِّي ، أَوْ أَذِنْتُ لَكَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِّي " ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ
    وذهبت طائفة أخرى من المحدثين والفقهاء والأصوليين إلى عدم جواز ذلك ، وبه قطع الغزالي في المستصفى (100) .
    قال النووي في التقريب (101) : والصحيح ما قاله غير واحد من المحدثين وغيرهم : أنه لا تجوز الرواية به .أهـ
    قالوا : لأنه قد يكون ذلك مسموعه وروايته ، ثم لا يأذن له في روايته عنه ؛ لكونه لا يجوِّز روايته لخلل يعرفه فيه ، ولم يوجد منه التلفظ به ، ولا ما يتنزل منزلة تلفظه به ، وهو تلفظ القاريء عليه وهو يسمع ، ويقر به حتى يكون قول الراوي عنه السامع ذلك : ( حدثنا وأخبرنا ) صدقا ، وإن لم يأذن له فيه .
    واستدل المانعون من الرواية بذلك بقياسه على الشهادة على الشهادة ، فإنها لا تصح إلا إذا أذن الشاهد الأول للثاني بأن يشهد على شهادته .
    وأجاب القاضي بأن : هذا غير صحيح ؛ لأن الشهادة لا تصح إلا مع الإذن في كل حال ، والحديث عن السماع والقراءة لا يحتاج فيه إللا إذن باتفاق ، وأيضا : فالشهادة تفترق عن الرواية في أكثر الوجوه .
    والذي اختاره القاضي عياض هو الراجح الموافق للنظر الصحيح ، بل إن الرواية على هذه الصفة أقوى وأرجح عند بعض أهل العلم من الرواية بالإجازة المجردة عن المناولة ؛ لأن في هذه شبه مناولة ، وفيها تعيين للمروي بالإشارة إليه ، ولفظ الإجازة لن يكون وحده أقوى منها ولا مثلها (102).


  18. #18

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا ، ونفع بكم الأمة الإسلامية .

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    سابعا : الوصية :
    وهي أن يوصي الشيخ بدفعه كتبه عند موته أو سفره لشخص .
    حكمها :
    قد اختلف العلماء في حكمها ؛ حيث أجاز بعض السلف أن يروي الموص له بذلك عن الموصي ورخصوا فيها ؛ لأن في دفعها له نوعا من الإذن وشبهًا من العرض والمناولة ، كما قاله القاضي عياض في "الإلماع"(102).
    وممن أجازها منهم : محمد بن سيرين ، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، وقال ابن أبي الدم الحموي : إن الرواية بالوصية مذهب الكثيرين .

    وذهب آخرون إلى عدم جوازها ،
    قال الخطيب البغدادي في "الكفاية" (103) : "وعلى ذلك أدركنا كافة أهل العلم" .
    وقال في الاستدلال على عدم الجواز إنه " لا فرق بين أن يوصي العالم لرجل بكتبه ، وبين أن يشتريها ذلك الرجل بعد موته ، في أنه لا يجوز له الرواية منها إلا علي سبيل الوجادة" .
    وقد رد جوازها الحافظ ابن االصلاح (104) فقال : هذا بعيد جدا ، وهو إما زلة عالم أو متأول ، عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الرِّوَايَةَ عَلَى سَبِيلِ الْوِجَادَةِ وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ ، فَشَبَّهَهُ بِقِسْمِ الْإِعْلَامِ ، وَقِسْمِ الْمُنَاوَلَةِ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ ، فَإِنَّ لِقَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ ، وَالْمُنَاوَلَة ِ مُسْتَنَدًا ذَكَرْنَاهُ ، لَا يَتَقَرَّرُ مِثْلُهُ ، وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ هَاهُنَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .أهـ
    وقال النووي (105) : الصواب أنه لا يجوز . أهـ

    مثال الوصية ما فعله أبو قلابة الجرمي ـ أحد الأعلام من التابعين ـ حيث أوصى عند موته وهو بالشام بكتبه إلى تلميذه أيوب السختياني إن كان حيا وإلا فلتُحرَق ، ونُفِّذت وصيته ، وجيء بالكتب الموصى بها من الشام لأيوب الموصى له وهو بالبصرة ، فسأله ابن سيرين : أيجوز له التحديث بذلك ؟ فأجاز له أن يرويه ، ثم قال له : لا آمرك ولا أنهاك .أهـ

    وقال السخاوي في فتح المغيث (106) :
    وعلى كل حال فالبطلان هو الحق المتعين ؛ لأن الوصية ليست بتحديث لا إجمالا ولا تفصيلا ولا يتضمن الإعلام لا صريحا ولا كناية على أن ابن سيرين المفتي بالجواز كما تقدم توقف فيه بعد وقال للسائل نفسه : لا آمرك ولا أنهاك ، بل قال الخطيب عقب حكايته : يقال : إن أيوب كان قد سمع تلك الكتب غير أنه لم يكن يحفظها ؛ فلذلك استفتى ابن سيرين في التحديث منها .أهـ

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو آدم البيضاوي مشاهدة المشاركة
    جزاكم الله خيرا ، ونفع بكم الأمة الإسلامية .
    آمين ، وجزاكم الله خيرا .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •