...إلى طالب "المجد" و "التفوق"
-1-
يا من حدثت نفسك بأن تكون - في يوم من الأيام - عالما و داعيا إلى الهدى ، سمعت بأمثال : الفضيل ...ومالك ...و الليث ...و البخاري ...و ابن المديني...و غيرهم من أعلام الدجى و أئمة الهدى فتمنيت أن تسلك سبيلهم .

يا من طرقت سمعه أخبار أمثال ...خالد بن الوليد...و عمرو بن العاص ...و ابن المبارك...و صلاح الدين ...و ابن تيمية ...و ابن عبد الوهاب ....و أدمت قلبه أخبار نكبات الأمة و ما حل بها من إحن و محن ..وبلايا و رزايا ...فحدث نفسه و مناها بأن يكون هؤلاء قدوته .

كن رجلا رجله في الثرى و همته في الثريا ،
اعلم أن المجد لا ينال براحة الجسد ،
و ما العز إلا تحت ثوب الكد ،
بالصبر و اليقين تنال الإمامة في الدين ،
و النصر مع الصبر ،
و ما يحصل برد العيش إلا بحر التعب ،
و على قدر الاجتهاد تعلو الرتب ،
بادر من يومك و لحظتك ،
إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ...و إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ،
احذر التسويف فإنه من جند إبليس ،
و من زرع (سوف) جنى (لعلَّ) ...

هذا الإمام ابن القيم يحدثك بسر المجد و التفوق :

"... طَالب النّفُوذ إِلَى الله وَالدَّار الْآخِرَة بل وَإِلَى كل علم وصناعة
ورئاسة بِحَيْثُ يكون رَأْسا فِي ذَلِك مقتدى بِهِ فِيهِ يحْتَاج أَن يكون: شجاعا مقداماحَاكما على وهمه غير مقهور تَحت سُلْطَان تخيّله زاهدا فِي كل مَا سوى مَطْلُوبه عَاشِقًا لما توجه إِلَيْهِ عَارِفًا بطرِيق الْوُصُول إِلَيْهِ والطرق القواطع عَنهُ مِقْدَام الهمة ثَابت الجأش لَا يثنيه عَن مَطْلُوبه لوم لأثم وَلَا عذل عاذل كثيرالسّكُوندَائِم الْفِكرغير مائل مَعَ لَذَّة الْمَدْح وَلَا ألم الذَّم قَائِما بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَسبَاب معونته لَا تستفزهالمعارضات شعاره الصَّبْر وراحته التَّعَب محبا لمكارم الْأَخْلَاق حَافِظًا لوقته لَا يخالط النَّاس إِلَّا على حذر كالطائر الَّذِي يلتقط الْحبّ بَينهم قَائِما على نَفسه بالرغبة والرهبة طامعا فِي نتائج الِاخْتِصَاص على بني جنسه غير مُرْسل شَيْئا من حواسه عَبَثا وَلَا مسرحا خواطره فِي مَرَاتِب الْكَوْن "
ثم يجمل كل ذلك فيقول :
" وملاك ذَلِك هجر العوائد وَقطع العلائق الحائلة بَيْنك وَبَين الْمَطْلُوب وَعند الْعَوام أَن لُزُوم الْأَدَب مَعَ الْحجاب خير من إطراح الْأَدَب مَعَ الْكَشْف ""الفوائد ص192"

...و لكن اعلم أن لطلب العز ضريبة ...و للهمة متطلبات ،
يقول ابن الجوزي :
" من رزق همة عالية، يعذب بمقدار علوها! كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسامُ
وقال الآخر:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
وبيان هذا أن من علت همته؛ طلب العلوم كلها، ولم يتقصر على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن.
ثم يرى أن المراد العمل، فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لا بد منه، ويحب الإيثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، ويمنعه عز النفس عن الكسب؛ فإن هو جرى على طبعه من الكرم، احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك، فطبعه يأبى ذلك.
وفي الجملة، يحتاج إلى معاناة، وجمع بين أضداد؛ فهو أبدًا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ، ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال، زاد تعبه، وقوي وصبة3.
فأين هو، ومن دنت همته؟! إن كان فقيهًا، فسئل عن حديث، قال: ما أعرفه! وإن كان محدثًا، فسئل عن مسألة فقهية، قال: ما أدري! ولا يبالي إن قيل عنه: مقصر!!
والعالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة قد كشفت عيبه، وقد أرت الناس عورته. والقصير الهمة لا يبالي بمنن الناس، ولا يستقبح سؤالهم، ولا يأنف من رد.
والعالي الهمة لا يحمل ذلك "
قلت : و لكن ... ! ! ! الأمر كما قال رحمه الله في آخر كلامه
"ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين، إن كان ثم فهم.
والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي؛ فينبغي لذي الهمة ألا يقصر في شوطه، فإن سبق، فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده، لم يلم "
"صيد الخاطر 522-523"

وبعد أن عرفت سر المجد ،
أستسمحك أخي في أن آخذك معي في رحلة لا تعترف بحدود الزمان و المكان ،
كي نصحب بعض أعلام أمتنا ،
و نرى شيئا من أثر همة القوم و جدهم ،
لعل ذلك يكون محركا لهمتك ...موقظا لك من غفلتك ،

" أخي " اسلك مناهج السادات***و تخلقن بأشرف العادات
لا يلهينك عن معادك لذة***تفنى و تبقى دائم الحسرات

هذا ابن القاسم صاحب إمامنا إمام دار الهجرى مالك بن أنس...

آه ...قبل أن نعود لابن القاسم ...أهمس في أذنك بسر : و هو أني لم آخذك إلى عصر الصحابة ...لأني عزمت على أن أفرد لهم مقالا فهم جيل لا نظير لهم في التاريخ ، من أراد القدوة فعليه بسيرهم ، الكلام عن مآثرهم و مناقبهم يطول ...و يتطلب مجالس كثار و مجلدات كبار ...

و لله در القائل :

انْظُرْ إلى هدْىِ الصَّحَابَةِ وَالذِى ... كانُوا عَلَيْهِ فى الزَّمَانِ الَخْالِى
واسْلُكْ طَرِيقَ القَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا ... خُذْ يَمْنَةً ما الدَّرْبُ ذَاتَ شِمَالِ

و ذلك أنهم :

نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِى الْهُدى ... فمآلُهُ فى الَحْشْرِ خَيْرُ مآلِ
القَانِتِينَ المُخْبِتينَ لِرَبهِمْ ... النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقوَالِ
التَّارِكِينَ لكل فِعْلٍ منكر ... وَالعَامِلينَ بأَحْسَنِ الأعمَالِ
أَهوَاؤُهُمْ تَبَعٌ لِدينِ نَبِيهمْ ... وَسِوَاهُمُ بِالضِّدَّ فى ذِى الحْالِ
مَا شَانَهُمْ فى دِينْهِمْ نَقْص، وَلا ... فى قَوْلِهمْ شَطْحُ الَجْهُولِ الْغالِى
عَمِلُوا بمَا عَلِمُوا، وَلم يَتَكَلّفُوا ... فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ
وَسوَاهم بالضد فى الأَمْرَيْنِ، قد ... تَرَكُوا الْهُدَى، وَدَعَوْا لكل ضْلالِ
فَهُمُ الأدِلةُ لِلْحَيارَى، مَنْ يَسرْ ... بهُدَاهُمُ لَمْ يَخْش مِنْ إضْلالِ
وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وإِضاءَةً ... وعُلوَّ مَنْزِلةً، وبُعْدَ مَنالِ
يمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْناً، نُطْقُهمْ ... بالَحْق، لا بجَهَالَةِ الْجُهَّال
حِلماً، وَعِلْمًا، مَعْ تُقًى وَتَوَاضُعٍ ... ونَصِيحَةٍ، مْعَ رُتبةِ الإفضَالِ
يُحْيُونَ لَيْلَهُمُ بِطَاعَةِ رَبهِمْ ... بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُؤَالِ
وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ ... مِثْلِ انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطَّالِ
فى الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ ... لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأبطالِ
وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرَهَانِ رأَيتَهُمْ ... يَتَسَابَقُونَ بِصَالِح الأعمالِ
بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبهمْ ... وَبهَا أَشِعَّةُ نُورِهِ المُتَلالى
ولَقدْ أَبَانَ لك الكِتَابُ صِفَاتهِمْ ... فى سُورَةِ الفَتْحِ المبِينِ العَالِى
وَبِرَابِع السبع الطوَالِ صِفَاتهُم ... قَوْمٌ يحُبُّهُمُ ذَوُو إِدْلالِ
وَبَرَاءَةٍ، والْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ ... وَبِهَلْ أَتَى، وَبسُورَةِ الأنفالِ
"انظر إغاثة اللهفان 1/237"

كان ذلك حالهم فقذف الله في قلوب أعدائهم الرعب من لقائهم

وهذا الإمام الطبري يروي لنا هذا الأثر العجيب عن عروة قال: لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة، ثم ائتني بخبرهم قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: ما وراءك؟ قال:
بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله ان يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم علي
قال: ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين، قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يوما أشد من هذا! قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
" تاريخ الطبري 3/417-418 "

سبحان الله ... ! ! !و الله أكبر ... ! ! !

نعود إلى صاحبنا ابن القاسم كي يحدثنا عن قصته مع مالك :

" كنت أسمع من مالك كل يوم غلساً إذا خرج من المسجد ثلاثة أحاديث، سوى ما أسمع مع الناس معه بالنهار. وفي رواية: كنت آتي مالكاً غلساً، فأسأله عن مسألتين ثلاثة أربعة، وكنت اجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتي كل سحر، فتوسدت مرة في عتبته فغلبتني عيني، فنمت وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: أن مولاك قد خرج ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة. ظنت السوداء انه مولاه من كثرة اختلافه إليه. وفي جزء آخر أنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً. قال: فبينما انا عنده إذ أقبل حاج مصر، فإذا شاب متلثم دخل علينا فسلم على مالك. فقال أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إلي فاقبل يقبل عيني ووجدت منه ريحاً طيبة، فإذا هي رائحة الولد وإذا هو ابني، وكان ترك أمه به حاملاً، وكانت ابنة عمه، وكان اسمع عبد الله، وكان خبر أمه عند سفره لطول إقامته فاختارا البقاء "
"ترتيب المدارك 3/250"

و يقول ابْنُ المُسَيِّبِ مخبرا لنا بشيء من عجيب أمره : "إِنْ كُنْتُ لأَسِيْرُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الحَدِيْثِ الوَاحِدِ" "تذكرة الحفاظ" 2/222"

و هذا مسروق رحل في حرف " جامع بيان العلم 1/396"


بل هذا أبو حاتم الرازي يقول: "أول ما رحلت أقمت سبع سنين ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا ثم إلى الرملة ماشيا ثم إلى طرسوس ولي عشرون سنة " "تذكرة الحفاظ 2/112"

...نقف هنا لنواصل رحلتنا في حلقة مقبلة ،

بالله التوفيق ...و له الأمر من قبل و من بعد .