الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد ، فإنه معلوم لدى طالب العلم أن هناك أحاديث قد انتشرت بين عموم المسلمين ، وهذه الأحاديث لم تصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أن هناك أحاديث وأخبار أخرى صحيحة تؤدي إلى نفس المعنى ، وتغني عن تلك الأحاديث الضعاف ، وكما قيل : في الصحيحِ غُنْيَةٌ .
وقد قصدت من ذلك إيراد ما جاء من الأحاديث الصحيحة التي تغني عن الأحاديث الضعيفة ، من حيث المعنى أو المبنى ، وذلك من خلال كلام أهل العلم ( ومما وقفت عليه من زيادات في ذلك مما لم ينص عليه أحد ) مثل قولهم عند ذكر حديث ضعيف :
ويغني عنه كذا .
ونحوها من العبارات التي يوردها العلماء .
نبدأ مستعينين بالله تعالى ، وبه توفيقنا.
الحديث الأول :
قال ابن الملقن في البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير 1 / 669 - 672 :
رُوِيَ «أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ إِذَا تَوَضّأَ (أَدَارَ) المَاءَ عَلَى مرْفَقَيْهِ» ، وَيُروَى «أَنَّهُ (أَدَارَ) المَاءَ عَلَى مرْفَقَيْهِ ، ثَمَّ (قَالَ) : هَذَا وضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ» .
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأوَّل : الدَّارَقُطْنِي ّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنَيْهِمَا» من رِوَايَة عباد بن يَعْقُوب ، ثَنَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد (بن عبد الله بن مُحَمَّد) بن عقيل ، عَن جدِّه ، عَن جَابر بن عبد الله ، عَن النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - .
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن سُوَيْد بن سعيد ، عَن الْقَاسِم بالسند الْمَذْكُور عَن جَابر ، قَالَ : «رَأَيْتُ النَّبِي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُدِيرُ المَاءَ عَلَى المرْفَقِ» . وَسكت الدَّارَقُطْنِي ّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن هَذَا الحَدِيث ، وَلم يعقباه بتصحيح وَلَا بِتَضْعِيف . وَذكره الشَّيخ زكي الدَّين فِي «كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب» بِإِسْنَادِهِ ، ثمَّ بَيَّضَ لَهُ بَيَاضًا . وكأنَّه - وَالله أعلم - إنَّما فعل ذَلِكَ (لضَعْفه) ، وَهُوَ ضَعِيف كَمَا صرح بِهِ الشَّيخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي «كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب» وَلم يبَيِّن سَبَب ضعفه .
وَأَقُول : سَببه أَن فِي إِسْنَاده (ثَلَاثَة) رجال مُتَكَلم فيهم .
أحدهم : عباد بن يَعْقُوب الروَاجِنِي ، رَوَى لَهُ البُخَارِيّ مَقْرُونا بآخر ، قَالَ فِي حقِّه ابْن حبَان : إِنَّه رَافِضِي دَاعِيَة ، يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير ، فاستحقَّ التَّرك .
الثَّانِي : الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عقيل ، قَالَ ابْن عدي : قَالَ الإِمام أَحْمد : لَيْسَ بِشَيْء ، وَقَالَ الْعقيلِيّ : قَالَ عبد الله بن أَحْمد : سَأَلت يَحْيَى بن معِين عَنهُ فَقَالَ : لَيْسَ بِشَيْء . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : مَتْرُوك الحَدِيث . وَقَالَ أَبُو زرْعَة : أَحَادِيثه مُنكرَة ، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث . وَخَالف أَبُو حَاتِم (بن حبَان) ، فَذكره فِي «ثقاته» فِي أَتبَاع التَّابعين . وَهَذِه قولة مِنْهُ تفرد بهَا . وَقد نصَّ غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى ضعف هَذَا الحَدِيث بِسَبَب الْقَاسِم هَذَا . فَقَالَ الْحَافِظ جمال الدَّين أَبُو الْفرج ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه «التَّحْقِيق» بعد استدلاله بِهِ : هَذَا الحَدِيث ضَعِيف ، ثمَّ ذكر مقَالَة أَحْمد وَأبي حَاتِم فِي الْقَاسِم .
وَقَالَ الشَّيخ تَقِيّ الدَّين فِي «الإِمام» - بعد رِوَايَته لَهُ من طَرِيق الدَّارقطني وَالْبَيْهَقِيّ - : سكت عَنهُ الْبَيْهَقِيّ ، وَلم يتعرَّض لَهُ بِشَيْء . ثمَّ نقل مَا قدمْنَاهُ عَن الْأَئِمَّة فِي تَضْعِيف الْقَاسِم .
وَقَالَ ابْن الصّلاح ، ثمَّ النَّووي فِي كَلَامهمَا عَلَى «الْمُهَذّب» : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف .
وَالثَّالِث : جده عبد الله بن مُحَمَّد (بن عقيل) . وَفِيه مقَال قريب سَنذكرُهُ وَاضحا - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي أخريات هَذَا الْبَاب .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» : فِي بَاب لَا يتَطَهَّر بِالْمُسْتَعْمل ِ لم يكن بِالْحَافِظِ وَأهل الْعلم (مُخْتَلفُونَ) فِي الِاحْتِجَاج بِرِوَايَاتِهِ .
وسُويد (بن سعيد) ، (فِي الراوية الْأُخْرَى) وَإِن أخرج لَهُ مُسلم ، فقد قَالَ ابْن معِين : هُوَ حَلَال الدَّم . (وَقَالَ) : كَذَّاب سَاقِط ، لَو كَانَ (فِي يَدي) فرس ورمح (كنت) أغزوه . وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ : لَيْسَ بِشَيْء . وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِثِقَة . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : صَدُوق وَكَانَ كثير التَّدليس . وَقيل : إِنَّه عمي فِي آخر عمره ، فَرُبمَا لقن مَا لَيْسَ فِي حَدِيثه ، فَمن سمع مِنْهُ وَهُوَ بَصِير فَحَدِيثه عَنهُ حسن . وَقَالَ أَحْمد : مَتْرُوك الحَدِيث . وَقَالَ البُخَارِيّ : كَانَ قد عمي فتلقن مَا (لَيْسَ) من حَدِيثه .
وَقَالَ ابْن حبَان : يَأْتِي بالمعضلات عَن الثِّقَات ، يجب مجانبة مَا رَوَى . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ : هُوَ ثِقَة ، (غير أَنه لما كبر) قُرئ عَلَيْهِ حَدِيث فِيهِ بعض (النكارة) فيجيزه .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» فِي بَاب من قَالَ لَا يقْرَأ : تغيَّر بِأخرَة ، فَكثر الْخَطَأ فِي رِوَايَته .
قُلْتُ : ويغني عَن هَذَا الحَدِيث فِي الدّلَالَة عَلَى دُخُول الْمرْفقين فِي غسل الْيَد :
حَدِيث أبي هُرَيْرَة الثَّابِت فِي «صَحِيح مُسلم» : «أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغََسَلَ يَدَيهِ حتَّى أَشْرَعَ فِي العَضدَيْنِ ، وَغَسَلَ رِجْلَيهِ حتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَتَوَضَّأ» .
وَسَيَأْتِي بِطرقِهِ عقب هَذَا الحَدِيث . فَثَبت بِهَذَا أَنه - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم - غسل مرفقيه ، وَفعله بَيَان للْوُضُوء الْمَأْمُور بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : (وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق) ، وَلم ينْقل تَركه ذَلِكَ .اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1 / 139 - 140:
55 - [157]- قوله: روى أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أَمَرَّ الماء على مرفقيه. وقد روى: أنّه أدار الماء على مرفقيه، ثمّ قال: "هَذَا وُضُوءٌ لا يَقْبَل الله الصلاةَ إلاَّ بِه".
الدّارَقطني والبيهقي من حديث القاسم بن محمّد بن عبد الله بن محمد ابن عقيل، عن جده، عن جابر، بلفظ: يدير الماء على المرفق.
والقاسم متروك عند أبي حاتم، وقال أبو زرعة: منكر الحديث ، وكذا ضعفه أحمد ، وابن معين . وانفرد ابن حبان بذكره في "الثقات" ، ولم يُلتَفت إليه في ذلك.
وقد صرّح بضعف هذا الحديث المنذري وابن الجوزي ، وابن الصلاح، والنووي ، وغيرهم.
ويغني عنه:
[158]- ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة: أنه توضأ حتى أشرع في العضد، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ.
وأمَّا الزيادة في الحديث الثاني، فلم ترد في هذا الحديث، بل هي في حديث آخر يأتي في آخر (سنن الوضوء).
الحديث الثاني :
قال العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة :
8 - " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " .
لا أصل له مرفوعا ....
وقد وجدت له أصلا موقوفا ، رواه ابن قتيبة في " غريب الحديث " ( 1 / 46 / 2 ) حدثني السجستاني حدثنا الأصمعي عن حماد بن سلمة عن عبيد الله بن العيزار عن عبد الله بن عمرو أنه قال : فذكره موقوفا عليه إلا أنه قال : " احرث لدنياك " إلخ .
وعبيد الله بن العيزار لم أجد من ترجمه .
ثم وقفت عليها في " تاريخ البخاري " ( 3 / 394 ) و" الجرح والتعديل " ( 2 / 2 / 330 ) بدلالة بعض أفاضل المكيين نقلا عن تعليق للعلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله تعالى وفيها يتبين أن الرجل وثقه يحيي بن سعيد القطان وأنه يروي عن الحسن البصري وغيره من التابعين فالإسناد منقطع .
ويؤكده أنني رأيت الحديث في " زوائد مسند الحارث " للهيثمي ( ق 130 / 2 ) من طريق أخرى عن ابن العيزار قال : لقيت شيخا بالرمل من الأعراب كبيرا فقلت : لقيت أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، فقلت : من ؟ فقال : عبد الله بن عمرو بن العاص ....
ثم رأيت ابن حبان قد أورده في " ثقات أتباع التابعين " ( 7 / 148 ) .
ورواه ابن المبارك في " الزهد " من طريق آخر فقال ( 218 / 2 ) : أنبأنا محمد ابن عجلان عبد الله بن عمرو بن العاص قال : فذكره موقوفا ، وهذا منقطع وقد روي مرفوعا ، أخرجه البيهقي في سننه ( 3 / 19 ) من طريق أبي صالح حدثنا الليث عن ابن عجلان عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : فذكره في تمام حديث أوله : " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك ، فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى ، فاعمل عمل امريء يظن أن لن يموت أبدا ، واحذر حذر امريء يخشى أن يموت غدا " .
وهذا سند ضعيف وله علتان: جهالة مولى عمر بن عبد العزيز وضعف أبي صالح وهو عبد الله بن صالح كاتب الليث كما تقدم في الحديث .
ثم إن هذا السياق ليس نصا في أن العمل المذكور فيه هو العمل للدنيا ، بل الظاهر منه أنه يعني العمل للآخرة ، والغرض منه الحض على الاستمرار برفق في العمل الصالح وعدم الانقطاع عنه ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم : " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " متفق عليه والله أعلم .
هذا والنصف الأول من حديث ابن عمرو رواه البزار ( 1 / 57 / 74 ـ كشف الأستار ) من حديث جابر ، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 1 / 62 ) : وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب .
قلت : ومن طريقه رواه أبو الشيخ ابن حيان في كتابه " الأمثال " ( رقم 229 ) .
لكن يغني عنه :
قوله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ... " أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا ...اهـ