النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد الشهداء، ويرىٰ عمه الحمزة رضي الله عنه وسطهم، ثم يأمر بدفنهم:
عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَىٰ حَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتَّىٰ تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ([1]) حَتَّىٰ يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا» ثم دعا بنمرة فكفنه فيها فكانت إذا مُدَّت علىٰ رأسه بدت رجلاه وإذا مدت علىٰ رجله بدا رأسه، وَقَلَّتْ الثِّيَابُ وَكَثُرَتْ الْقَتْلَىٰ فَكَانَ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ يُكَفَّنُونَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُدْفَنُونَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عنهم: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ قُرْآنًا» فَيُقَدِّمُهُ إِلَىٰ الْقِبْلَةِ([2]).
وعَنْ أَنَسٍ أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِحَمْزَةَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ غَيْرِهِ([3]).
وعَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَىٰ أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟» فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَىٰ أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَىٰ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ([4]).
وعَنْ خَبَّابٍ بن الأرت رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ الله فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَىٰ الله فَمِنَّا مَنْ مَضَىٰ أَوْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً([5]) كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَىٰ رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ»، أَوْ قَالَ: «أَلْقُوا عَلَىٰ رِجْلَيْهِ مِنْ الْإِذْخِرِ»([6]).
وقَالَ جابر رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأبي لِتَدْفِنَهُ فِي مَقَابِرِنَا، فَنَادَىٰ مُنَادِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رُدُّوا الْقَتْلَىٰ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ([7]).
حُزْن النبي صلى الله عليه وسلم علىٰ الشهداء:
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: «أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابِ نُحْض الْجَبَلِ»([8]).
النبي صلى الله عليه وسلم يثني علىٰ ربه:
ولما انصرف العدو من الميدان قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْتَوُوا حَتَّىٰ أُثْنِيَ عَلَىٰ رَبِّي تعالى» فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ اللهمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللهمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الْحَقِّ آمين»([9]).
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعبد فِي الْأَرْضِ»([10]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللهمَّ الْعَنْ الْحَارِثَ بن هِشَامٍ، اللهمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ» فَنَزَلَتْ: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) [آل عمران: 128]. فَتَابَ الله عَلَيْهِمْ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ([11]).
ولقد عفا الله تعالى عن المؤمنين الذين فروا يوم أحد فأنزل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[آل عمران: 155].
وربط الله تعالى من جأش المسلمين فقال: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 139، 140].
وبعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ المدينة مرَّ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، فلما نُعُوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتىٰ أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه، حتىٰ إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة([12]).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: مر رَسُولُ الله بنسَاءِ عبد الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ»، فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «وَيْحَهُنَّ مَا انْقَلَبْنَ([13]) بَعْدُ؟ مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْن َ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَىٰ هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ»([14]).
([1]) العافية: قال الخطابي: هي السباع والطير تقع علىٰ الجيف فتأكلها. «عون المعبود» 6/43.
([2]) صحيح: أخرجه أبو داود (3136)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يُغسل، وأحمد 3/128، والترمذي (1016)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قتلىٰ أحد وذكره حمزة، وصححه الألباني «صحيح سنن الترمذي».
([3]) حسن: أخرجه أبو داود (3137)، كتاب: الجنائز، باب: في الشهيد يغسل، وصححه الألباني «صحيح سنن أبي داود».
([4]) صحيح: أخرجه البخاري (1343)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة علىٰ الشهيد، وفي رواية للبخاري أيضًا قال جابر: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة.
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلىٰ علىٰ حمزة رضي الله عنه والظاهر – والله أعلم- كما قال بعض العلماء منهم ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم مخير بين الصلاة علىٰ الشهداء وعدم الصلاة.
([5]) النَّمِرة: نوع من الكساء.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4082)، كتاب: المغازي، باب: من قتل من المسلمين يوم أحد، ومسلم (940)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن الميت. والإذخر: حشيش معروف طيب الرائحة.
([7]) صحيح: أخرجه الترمذي (1717)، كتاب: الجهاد، باب: في دفن القتيل في مقتله، صححه الألباني «صحيح سنن الترمذي»، أحمد (14101)، وصححه أحمد شاكر.
([8]) صحيح: أخرجه أحمد (14965)، الحاكم 3/28.
نحض الجبل: سفح الجبل، والمعنىٰ: لوددت أني قتلت معهم، وهذا من شدة حزنه عليهم صلى الله عليه وسلم.
([9]) صحيح: أخرجه أحمد 3/414، الحاكم 1/507، 3/23، 24، وقال: صحيح علىٰ شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في تخريج «فقه السيرة» (269).
([10]) صحيح: أخرجه مسلم (1743)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
([11]) صحيح: أخرجه البخاري (4069)، كتاب: المغازي باب: ليس لك من الأمر شيء، والترمذي (3004)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران واللفظ له.
([12]) حسن: أخرجه ابن هشام في «السيرة» 3/29، عن ابن إسحاق بسند حسن إلىٰ سعد بن أبي وقاص صلى الله عليه سلم.
([13]) أي: ما رجعن إلىٰ بيوتهن.
([14]) صحيح: أخرجه أحمد 2/84، ابن ماجه (1591)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء علىٰ الميت، وصححه الألباني في «صحيح السنن».