من حسنت بدايته حسنت نهايته
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، أما بعد فيا عباد الله:
منذ أسبوعين حدَّثْتُكُمْ عن الأحاديث الكثيرة التي بلغت مبلغ التواتر المعنوي والتي تنص على أن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرَّم الله عليه النار ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني عبده ورسوله ما يلقى اللهَ بهما عبدٌ يوم القيامة فتحجب عنه الجنة، ففي الناس من فهم من هذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكده معنىً لم يقصد إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، في الناس من تصوروا ألا حرج على الإنسان في أن يتقلب في أنواع الفسوق والمعاصي وأن ينال حظه ما شاء من الشهوات والأهواء والمحرمات مادام أنه يحتفظ بقلبه ولسانه بهذه الشهادة عند الموت، وهذه رقية من رقى الشيطان وليس معنى هذا الذي ذكره المصطفى صلى الله عليه وسلم ما قد طاف بمخيلة بعض الناس من هذا المعنى الذي فهموه، إن نهاية الإنسان ليس إلا صدىً لحياته التي كانت من قبل أرأيتم إلى النبات يينع من باطن الأرض ثم يتطاول ثم يثمر، إن الثمرة التي تأتي في أعقاب ذلك إنما هي نتيجة للتربة التي رُعِيَتْ وللنبات الذي غُذِّي، هذه الحقيقة ينبغي ألا نتيه عنها، ولو صح هذا الذي يتخيله البعض إذاً لما كان ثمة معنى لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30]، إذاً لما كان ثمة معنى لقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: من الآية143]، إذاً لما كان ثمة معنى لقول الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: من الآية195]، من زرع في شبابه وكهولته وشيخوخته استحصد ذلك الزرع في ساعة موته فانظر ما هو الزرع الذي تتعب نفسك فيه وانظر ما هو العمل الذي تعكف عليه لابد أن تجد ثمرات هذا العمل الذي أنت ماضٍ فيه عاكف عليه ساعةَ رحيلك من هذه الحياة الدنيا، قلت لكم وأقول، وهو الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه، إن الحال التي يكون فيها أحدنا عند رحيله عن هذه الحياة الدنيا إنما هي صدىً ونتيجةٌ للحال التي كان عليها هذا الإنسان في سابق حياته وإليكم التفصيل بل الدليل الذي يبرز هذه الحقيقة أيها الإخوة، الإنسان عندما يقع صريعاً تحت براثن الموت وآلامه يغيب عقله الظاهر من شدة الآلام ويستيقظ بين جوانحه عقله الباطن، الأمور الظاهرة التي كان يتعامل معها تتطاير من شدة الألم من كيانه وشعوره ويظهر في تلك الساعة ما كان حبيساً في عقله الباطن، ما هو الذي يكون في تلك الحالة حبيساً في عقله الباطن ثم إنه يظهر على اللسان ويبقى هذا الإنسان محتفظاً به في ذاكرته؟ تلك الأمور التي كان شديد التعلق بها، تلك الأمور التي كان يتعامل معها في شبابه، في كهولته، في سائر تقلباته وكان شديد الحرص عليها وكان شديد المراقبة لها، هذه هي الأمور التي يمتصها العقل الباطن فتكون مختبئة داخل هذا المخزن إلى ساعة الحاجة، عند الموت يفرزُ اللسان هذا الذي كان خبيئاً في مخزن العقل الباطن ويتحرك اللسان به، فإذا كان هذا الإنسان قد اتكل على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها دخل الجنة واطمأن إلى أنه يستطيع أن يمارس لغوه وأن يتقلب في عصيانه وأن يمارس أهواءه وشهواته كما يريد لأن مفتاح دخول الجنة بيده، ما الذي يحصل؟ تقلباته المتجهة إلى الأهواء والشهوات، إقباله بالحب إلى الدنيا وزخارفها وأهوائها، إلى الأموال بكل أصنافها، تعامله مع هذه الشهوات، تذوقه للمتع المحرمة هذا التذوق الذي يزيده تعلقاً بها كل ذلك يختبئ ثم يختبئ في مخزن عقله الباطن، أما كلمات الإيمان، أما الشهادة التي تحدَّثَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما مشاعره الإيمانية فلا شك أنها تكون على ظاهرٍ من كلماته ولسانه ومشاعره ليس لها حظٌّ من فؤاده، ليس لها حظٌّ من الحب الكامن في سويداء قلبه وإنما هي كلمات يرددها لسانه ومشاعر عفوية تطوف به بالمناسبات بين الحين والآخر، فإذا حانت ساعة رحلة هذا الإنسان من الدنيا وجاءه ملك الموت ووقع في براثن النـزاع وآلام سكرات الموت أتظنون أن الكلمات السطحية التي كان يرددها يبقى لها ذُكْرٌ في فؤاده! أتظنون أن المشاعر العفوية التي كانت تطوف في ذهنه بمناسبات يكون لها وجود في تلك الساعة! لا أيها الإخوة إنما يكون الوجود في تلك الساعة لما هو مخزون، يتذكر دنياه التي هو راحل عنها، يهتف بما هو مخزون في صندوقه، يهتف بالأمور التي قد تعلق بها أيَّاً كانت، يكون هواه ذكريات متعلقة بذلك الماضي الذي كان يتقلب فيه ومهما ذُكِّرَ بشهادة أن لا إله إلا الله لن يلتفت إليها لأن آلام الموت تحجبه عن حظوظ اللسان وتُذَكِّرُهُ بما استقر في الجنان، على النقيض من الإنسان الذي أقبل إلى الله عز وجل في شبابه، بدأ رحلته إلى الله بالإيمان العقلي به ثم تَحَوَّل الإيمان العقلي إلى حب لهذا الإله الذي خلقه فسواه فعدله في أي صورة ما شاء ركبه، تَحَوَّلَ هذا الإيمان إلى حب لهذا الإله الذي لا تنقطع عنه نعمه ولا متعه، يتحول هذا الحب بعد ذلك إلى تعظيم ومن ثم يغذي حقائقه الإيمانية بالطاعات، يغذيها بالعبادات، يغذيها بكثير من ذكر الله وبديمومة المراقبة لله سبحانه وتعالى، الدنيا تكون علاقتها به علاقة سطحية ذلك لأن مشاعره الإيمانية هيمنت على مجامع فؤاده وعلى زوايا نفسه ومن ثم فإذا حانت ساعة رحلته عن هذه الحياة الدنيا وأقبل إليه ملك الموت ودخل في حالة النـزع ما الذي يغيب عن باله وما الذي يتذكره؟ تغيب عن باله الدنيا التي هو راحل عنها ويتذكر ما احتفظ به في سويداء قلبه فهو يلهج باسم الله وهو يعبر عن شوقه إلى لقاء الله وهو يكرر كلمة لا إله إلا الله وهكذا يرحل إلى الله عز وجل بهذه الخاتمة، نعم العبرة بالخاتمة لكن الخاتمةَ نتيجةٌ لما كان يفعله هذا الإنسان من قبل ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وصدق ابن عطاء الله القائل في حِكَمِهِ مَنْ حَسُنَتْ بدايته حَسُنَتْ نهايته، وليس معنى هذا الذي أقوله لكم يا عباد الله أن على الإنسان لكي يحتفظ بشهادة ألا لا إله إلا الله أن يكون معصوماً لا، ليس فينا معصوم حاشى الرسل والأنبياء، كل بني آدم خطاء ولكن الرسول قال: وخير الخطائين التوابون ولكن المعنى الذي يرمي إليه بيان الله والذي نبهنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان في تقلباته أثناء حياته التي يعيشها ينبغي أن يغذي مشاعر عبوديته لله، ينبغي ألا ينسى هويته عبداً مملوكاً لله وينبغي أن يعلم أن هذه العبودية هي جواز رحلته إلى الله، أجل يغذي عبوديته لله دائماً بالذكر، بالدعاء، بالالتجاء إلى الله، مثل هذا الإنسان إذا زلَّتْ به القدم وارتكب معصية من المعاصي سرعان ما تهتاج مشاعر عبوديته لله بعد ذلك فتدعوه إلى التوبة، تدفعه إلى الإنابة والندم ومن ثم يغفر الله له ما فعل، ولو أنه وقع في تلك المعصية أو غيرها مرةً ومرةً أخرى ومرةً رابعة وخامسة فإن عبوديته لله بالمرصاد، لابد أن تدعوه إلى الإنابة والتوبة وإذا تاب العبد تاب الله سبحانه وتعالى عليه ومن ثم يكرمه الله عز وجل بهذه الخاتمة التي تحدثنا عنها قبل أسبوعين، وهذا المعنى هو الذي قصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أُتِيَ بأسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرأينا بين الأسرى امرأة تسرع بحثاً عن شيء، تسرع متلهفة بحثاً عن شيء ثم إنها وقعت على طفل صغير فأمسكته وألصقته بصدرها تبين أنه طفلها وكانت تبحث عنه فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه أرأيتم إلى هذه المرأة أملقية وليده في النار قلنا لا يا رسول الله قال: لله أرحم بعباده من رحمة هذه بوليدها، لا يقولن قائل إذا فإن الله سيغفر للناس جميعاً لأن هذه هي سيرة الأم مع أولادها مهما شقوا ومهما ابتعدوا، لا، الأمر أدق من هذا، كن في علاقتك مع الله، حتى وإن كنت عاصياً، كعلاقة هذا الطفل مع أمه يصدق عليك هذا الذي يقوله رسول الله، الطفل قد يلهو وقد يحطم وقد يخالف أوامر أمه ولكن إذا طاف به خطر وأقبل إليه شيء يخافه ماذا يصنع؟ رأساً يُهْرَعُ إلى حجر أمه، رأساً يتشبث بأمه، كن في رجوعك إلى الله وتشبثك برحمة الله عندما يطوف بك الخطر وعندما تقع في المعصية كهذا الطفل يكن لك الله سبحانه وتعالى كالأم لابنها، هذه الحقيقة أيها الإخوة ينبغي ألا نتيه عنها، وجملة القول وزبدة الكلام أن الإنسان كما قال ابن عطاء الله إذا حَسُنَتْ بدايته مع الله حَسُنَتْ نهايته وإن تقلب في ألوان من المعاصي في أثناء حياته، أما إن كانت حياته الأولى محجوباً فيها عن الله بشهواته وأهوائه فلسوف يرحل إلى الله وهو محجوب عنه بلفظه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.
منقول