تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 17 من 17

الموضوع: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (1)


    عبد الله الهتاري

    يعرج بنا البيان القرآني ، ويسمو بعقولنا فوق مستويات البيان البشري وقدراته؛ ليتضح لنا البون الشاسع بينهما.
    إن البيان الإلهي يحلق بنا في سماوات الفهم، ومقاماته العالية الراقية، ويسبح بنا في أفلاك البيان ومدارج الكمال، ويسبر أغوار النفس البشرية وأعماقها؛ ليقف بنا أمام البلاغة في أرقى صورها وأدق مقاماتها.

    (قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ یَوۡمُ ٱلزِّینَةِ وَأَن یُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحى * فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَیۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ)

    إن القدرات البشرية في العروج البياني تقف أمام هذا البيان، عاجزة الفهم، خائرة القوى؛ تصيبها الدهشة البيانية؛ للخروج عن ظاهر المتوقع من سياق البيان؛ إذ المتوقع أن يكون الإتيان لمقابلة موسى أسهل من الجمع والحشد في استغراق الزمان، فيقتضي ظاهر النظم أن يكون ( فتولى فرعون ثم جمع كيده فأتى ) فيستعمل (ثم) مع الجمع، و(الفاء) مع الإتيان.
    لكنه العروج البياني بطاقات الفهم؛ لسبر أغوار النفس، وكشف خور فرعون وهزيمته النفسية عن ملاقاة الكليم، فتيسر له الجمع بجبروت الملك، وتردد في الملاقاة؛ فكان هذا النظم المعجز الدقيق المحكم في البيان ( فَجَمَعَ كَیۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ ) .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد


    معارج البيان القرآني (2)


    عبد الله الهتاري

    يشد انتباهك ويدهشك كما أدهش المتدبرين فيه، والمتأملين في دقائق نظمه من أساطين البيان! ذلك هو القرآن في معارج بيانه، التي لايستطيع البيان البشري أن يرتقي فيها، فضلا أن يدانيها.
    (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة إبراهيم 36]
    فختمت فاصلة البيان (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بعد ذكر الإعراض والعصيان عن الدعوة والإيمان!
    وكان المتوقع أن هذا مقام عزة وجبروت وانتقام؛ فتكون ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
    هكذا سيكون معراج البيان البشري لو كان.

    ويدهشنا في مقام آخر؛ فيكون العروج البياني فوق طاقة البيان البشري، القاصر في الفهم، العاجز في الأداء.
    وذلك في مقام ذكر عيسى عليه السلام في خطابه في موقف الحساب (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
    فإن قوله: ( وإن تغفر لهم) ترشيح لمجيء فاصلة الختام ( فإنك أنت الغفور الرحيم) وهذا ما يستطيعه البيان البشري، وهذا معراجه القاصر في الأفهام، ولو كان الأمر كذلك لتبادلت فواصل الختام في المقامين.
    لكن معارج البيان الإلهي فوق الطاقة البشرية!
    وحسب أرباب العقول من فرسان البيان أن يمعنوا النظر، و ينعموا الفكر في ربات الخدور من المعاني المستترات، في دقائق النظم والعبارات!
    ذلك أن مقام الخليل عليه السلام خطاب في الدنيا؛ فهو يرجو لمن عصاه الأوبة والتوبة والإيمان؛ فكان الترغيب بفاصلة الختام (فإنك غفور رحيم).
    ومقام عيسى عليه السلام خطاب في موقف الحساب من الآخرة، وهو موقف عزة وجبروت وقوة؛ فإذا عذبهم فمن قوة و عزة، وإن غفر لهم- مع استحقاقهم العقوبة- فما ذلك إلا لحكمة.

    فبأي آلاء البيان يكذبان؟!



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (3)


    عبد الله الهتاري

    يعرج البيان القرآني بالمعاني والأفهام فوق متوقع فهوم البشر من الكلام، فماهو زائد في بيانهم هو محكم دقيق في الاستعمال القرآني، لايمكن الاستغناء عنه بحال، فأمعن النظر وأنعم الفكر في قوله تعالى، واصفا حال المنافقين بزعمهم الإيمان (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ)
    إن البيان القرآني استعمل الباء في هذا المقام وليست زائدة بحال؛ إذ هناك فرق معنوي دقيق في قولنا (وماهم مؤمنين) وما استعمله القرآن (وماهم بمؤمنين).
    ذلك أن التعبير الأول يحتمل نفي كمال الإيمان، وأما ما ورد في القرآن فقد اتجه إلى نفي أصل الإيمان ( وماهم بمؤمنين) لتسلط النفي على الباء؛ للدلالة على نفي لصوق أدنى شيء من الإيمان بهم، فهي أصيلة متمكنة في معناها، تعرج في مدارج البيان.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد


    معارج البيان القرآني (4)


    عبد الله الهتاري

    يرتقي البيان الإلهي المعجز في التعبير على البيان البشري في دقة استعمال المفردة القرآنية، ويختارها بقصد دون مرادفها في اللسان، فيرتقي بالأفهام في معارج البيان.
    (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا )
    لو كان هذا من بيان البشر لورد على نحو (لا يجزي والد عن ولده، ولا ولد يجزي عن والده شيئا)
    لكنه البيان المعجز الإلهي العميق الدقيق في اختيار الألفاظ.. !

    وغاية أفهام البشر، وعمالقة البيان، وأساطين البلاغة، أن يفهموا حينئذ سر الاستعمال إذ قال: (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)
    ذلك أن المولود هو المتصل بالولادة الحقيقية المباشرة بوالده، وأما الولد فيطلق تجوزا ولغة على كل من له صلة نسب ولو كان من الأحفاد ..

    فإذا كان المولود المباشر للمرء لا ينفع والده يوم القيامة، فما دونه في البنوة أعجز !



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (5)


    عبد الله الهتاري

    يحلق بنا البيان القرآني بحقائقه التي تتجاوز مجاز البشر والأذهان ؛ وذلك نوع من الارتقاء بالفهم على عوالم الدنيا إلى عوالم الآخرة، وهو عروج بالمعاني والأفهام.
    (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ)
    نعم عيشة راضية على الحقيقة لا المجاز..!
    ذلك أن العوالم اختلفت وانتقل البيان المعجز من عالم المجاز الدنيوي إلى عالم الحقيقة الأخروي، هناك تتكشف الحقائق وتمتلئ الحياة حياة، فالعيشة هناك في عالم الحقيقة راضية رضا حقيقيا عن صاحبها، والنعيم يطلبه، والنعيم والمنعم كلاهما مؤتلفان منسجمان في عالم كله منسجم مخبت لله ..!

    خلافا لعوالم الدنيا التي قد يتمتع المرء فيها بالنعيم، والنعيم ساخط عليه لبعده عن الله، لولا تسخير الله ..!



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (6)


    عبد الله الهتاري

    (ٱبۡلَعِي…وَغِی ضَ)

    هنا قلائد العقيان، تنتظم درره بدقة وإحكام، وتماسك وانسجام، في سلك هذا البيان!
    (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)
    توجه الأمر الإلهي للأرض ببلع مائها، والبلع يقتضي اختفاء الماء على وجه السرعة؛ فكان، ومقتضى منطق اللغة ومتوقع السياق والحال، في مقام الكلام أن يرد (واختَفَى الماءُ) أو ( و جفَّ الماءُ) .
    لكنه العجب العجاب! ومدهش الألباب لفرسان الفصاحة وأساطين البيان؛ أن يرد على غير المتوقع إذ قال:( وَغِیضَ ٱلۡمَاۤءُ )
    والغيضُ نقصان ببطء وتمهل في معهود اللسان، فشد عقول المتدبرين لدقائق النظم؛ للوقوف على مفصل البلاغة في السبك والانسجام!

    وذلك أنه- عز وجل- أمر الأرض ببلع مائها فكان، ولو استمر السياق على وفق المتوقع منه فقال:( واختفى الماءُ) لاختفت السفينة مع بلع الماء؛ لذا كان هناك بلع، وهنا على الجودي (وَغِیضَ ٱلۡمَاۤءُ) وهو نقصان ببطء تمهيدا للسفينة على الجودي للاستواء!



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (7)
    (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ)



    عبد الله الهتاري




    قال تعالى : (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج، 31].
    يشد البيان القرآني أذهان متلقيه من أرباب البيان بأسلوبه البديع وتصرفه البليغ في فن القول في هذا المقام؛ إذ تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع “فتخطفه” أو “تهوي”، ولم يأتِ السياق على نسق واحد فيكون “خرّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح”.
    ذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة، حاله حال الماضي في تحققه، فقال: “خرّ من السماء”، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة “خرّ” وقصرها وخفتها، وتكرار صوت الراء فيها؛ إشارة إلى تكرار السقوط والهوي والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد الهوي، و يصور سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ “الفاء” وفي المنظر بسرعة الاختفاء.
    “ثم تحول إلى المضارع “فتخطفه” و”تهوي” لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به.
    فكأننا نشاهد خطف الطير له، وهوي الريح به مشهدا مفزعا شاخصا في الحال.
    فيا لهول المشهد وفاجعة الخيال!
    فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي أيضاً مجيء الحرف “في” الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط.
    وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفاً ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار.
    ولو قال: “إلى مكان سحيق” لأفاد انتهاء الهوي به إلى منطقة معينة، كدلالة انتهاء الغاية لحرف الجر (إلى) لغاية الانتهاء.
    وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
    ولو جرى السياق على النسق نفسه من المضي، لمضى السياق كله على عجالة، دون أن يتمكن المتلقي من إمعان النظر، وإنعام الفكر في مشهد الخطف والهوي.
    ثم أتت لفظة ( سحيق) في هذا البيان، دون (بعيد) في هذا المقام؛ للدلالة على البعد مع السحق والهلاك، الذي لا نجاة منه ولا انفكاك ..
    ثم أمعن النظر، وأنعم الفكر وزد، في قوله تعالى:
    (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
    فتجد الصورة الماثلة المشاهدة للعيان في تمثيل حال المشرك بالله -نفسيا، وفكريا، وحياة ومآلا، بحال من هوى من علو الإيمان وسمو التوحيد في سمائه وعليائه وأفقه المرتفع إلى مهاوي الردى، والشهوات، والمهالك، وبقاع الردى من الفلوات،
    وهو انتقال تصويري عجيب من المعاني إلى التمثيل لها بالمشاهد والمحسوسات!
    فتورث تلك الصورة الماثلة للعيان هزة نفسية لمتلقيها من ذوي الأفهام..
    ثم يصاحب ذلك الهوي السريع المعبر عنه بالسقوط والخرور المفزع دون تريث أو انتظام؛ لدلالة الهلاك الحتمي الذي لامناص منه ولا انفكاك..
    فالساقط من علو يفقد السيطرة على نفسه وفكره وحركته، وليت الأمر وقف عند ذلك فحسب، بل تزداد الصورة فزعا، والمشهد هلاكا بتعدد أنواع الهلاك، (فتخطفه الطير أو تهوي به الريح) نعم تخطفه بسرعة الفعل وخفته، و (تخطَّفه) على قراءة لقوته وشدته، وهكذا حال الأهواء الكفرية والتخبط والتيه في مهامه الكفر تتدافعه وتتخطفه في طرق الغواية والهلكة والردى، فلا نفس مطمئنة، ولا حالة نفسية مستقرة، ولا ثبات في الفهم، ولا استنارة في العقل، ولا عاقبة حسنة مرجوة.
    والطير الكواسر في أفق السماء تخرج له من مجاهيل الفضاء تلك صورة مفزعة مغرقة في الوحشة والإيذاء، زد على ذلك الهوي السريع المستمر، في اتجاه واحد، من ريح شديدة في اتجاه واحد للسقوط، لا رياح متعددة الاتجاهات؛ يكسر بعضها بعضا، فتخفف من شدة السقوط!
    وتعدد حالات الهلاك المعبر عنها ب(أو) إيحاء بعنصر المفاجأة، وحتمية الهلكة المتعدة؛ من غير ترتيب أو انتظام، بل المشهد كله سريع فظيع كسرعة التعقيب بالفاء (فتخطفه الطير).
    والتصوير القرآني لهذا المشهد فظيع بديع!
    فهو يطابق حالة معنوية بحالة حسية، بأداة التشبيه (كأن) دون غيرها في هذا المقام؛ ذلك أنها أقوى الأدوات في اختصاصها للمماثلة والمشابهة التامة دون فروق تذكر أو تكاد!
    وهو ما نقله البيان القرآني في وصف مقالة ملكة سبأ وقد شاهدت عرشها ماثلا أمامها، وهو هو، دون أدنى ريب أو شك؛ فكان التعبير والتشبيه الدقيق ب(كأن) ( أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ).

    ويقابل امتداد الرفعة في علو السماء بمد الصوت معها ( من السماء) امتداد الصورة المفزعة للسقوط والهوي، المعبر عنها بهوي الصوت وامتداد انكساره في الأداء ( تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
    إنها مجاهيل متعددة يهوي منها وإليها، وتتخطفه منها كواسر الهلكة! وجوارحها في الفضاء، والسحق المحطم له المقرون بالدوي، الذي يصدره صوت القاف المفخم بقلقلته المدوية في الأداء!






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (8)


    عبد الله الهتاري

    العدل لا المساواة


    لقد راعى الإسلام -في مقاصده الشرعية في الإرث- العدل لا المساواة. لذلك جاء التعبير القرآني دقيقا في مطلع البيان إذ قال : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ )
    فاستخدم فعل الإيصاء وقرنه بحرف الجر “في” (يوصيكم الله في) وهو الموضع الوحيد في معجز التشريع والبيان قرن فعل الإيصاء فيه بفي، والمعتاد اقترانه بالباء!
    كما في قوله تعالى :
    (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا).
    (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا) .
    (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ)
    إلا في آية ميراث الأولاد قرنه ب(في ) فقال: (يوصيكم الله في أولادكم) ولم يقل: يوصيكم الله بأولادكم؛ وما ذلك إلا مبالغة في التأكيد والاهتمام، بأن جعل الأولاد ظرفا للوصية ومحلا لها؛ لسابق علم الله -عز وجل- أن هناك نفوسا مرضى ستعترض على هذا الحكم أو تحتال.
    وفي جميع حالات التشريع الإسلامي المعجز في الإرث، لم ترث المرأة نصف الرجل إلا في أربع حالات فقط.
    وفي حالات أضعاف ماسبق ترث فيها المرأة مثل الرجل تماما.
    وفي حالات عشر أو تزيد ترث فيها أكثر من الرجل.
    بل في حالات أخرى ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها الرجل!
    وما ذلك إلا لأن تشريع الإسلام راعى في مقاصده- في كل حالات الإرث – العدل لا المساواة .
    والمتأمل في دقائق التشريع الإسلامي ومقاصده السامية الحكيمة يدرك تماما أن التشريع الإلهي راعى العدل وناسب الخلق؛ لأن الذي خلقهم أعلم بما ينفعهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
    فاقترنت ربوبية الخلق بالعلم بكل ما دق ولطف وخفي من أحوال الخلق، فكان خبيرا بمايصلحهم وينفعهم، بموجب ربوبيته وعلمه؛ وذلك يقتضي تمام التسليم بلازم ألوهيته في الحكم والتدبير.
    والإيمان المقترن بالتسليم والخضوع والتقوى يقود إلى العلم بأسرار دقائق الحكم والتشريع (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
    فإن مرد دقائق العلم ومقاصده راجع إلى اتساع علم الله وإحاطة علمه بكل شيء.
    وهنا عند النظر في حالات إرث المرأة مع الرجل في التشريع الحكيم نجدها حسب ماسبق ذكره على أحوال متنوعة .
    حالات ترث فيها نصف الرجل وهي لاتتجاوز أربع حالات في التشريع الإسلامي، لايتسع المقام للتفصيل وسرد العلل ومقاصد التشريع الحكيم في هذا المقام.
    لكنه بالمقابل هناك حالات ترث فيها مثل الرجل تماما دون نقصان. وهي حالات كثيرة تفوق سابقتها من ذلك تساوي الإخوة لأم في الميراث فترث الأخت مثل أخيها تماما.
    وحالات كثيرة أخرى ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، من ذلك لو توفيت امرأة عن زوج وأم، وأخ.
    فإن الأم هنا تأخذ ثلث التركة ويبقى للأخ السدس؛ فأخذت أكثر منه. وفي حالات قد ترث المرأة ولايرث الرجل معها!
    كما لو توفيت امرأة عن زوج وأخت شقيقة وأخ لأب. فإن الأخت الشقيقة هنا ترث نصف التركة ونصفه الآخر للزوج؛ ولايبقى للأخ شيء!
    كل هذه الحالات عند النظر العميق والفكر الدقيق لها مقاصد تشريعية وأحكام يطول الحديث عنها والتفصيل فيها. تتضح لعلماء التشريع الراسخين، ويقصر عن ذكرها المقام. فالإسلام راعى في كل الحالات السابقة مقصد العدل لا التساوي المطلق الذي لا يحقق ذلك، وقصرت عن فهمه أشباه عقول تاهت في دروب الوهم والضلال.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (9)


    عبد الله الهتاري

    (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَۚ)



    إن الناظر في تحولات الحياة، وجبروت الظالمين والطغاة، قد ينتابه حالة من الحزن الشديد؛ حتى يتمنى أن يعاجلهم العقاب ويرى القصاص العادل أمام عينيه من الظالمين؛ انتقاما للمظلومين، فيأتي بلسم البيان الإلهي القرآني مراعيا الحالة النفسية خطابا للمؤمنين عبر عصور الزمان، في كل وقت وحال، ابتداء من الرسول – صلى الله عليه وسلم- وخطابه خطاب لأمته ، ممن حوله ومن بعده، السائرين على خطاه ، فجاء الخطاب بلسما عجيبا يلامس أعماق النفس، موافقا تمام الموافقة للحال، إذ قال: (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَۚ) وما كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليحسب أو يظن، ولا كل مؤمن صادق الإيمان، وإنما كان ذلك مراعاة تمام المراعاة لمقتضى حال الخطاب، لما فيه من عمق التسلية، والتثبيت للمؤمنين؛ وما هو حاصل من شدة جبروت الظلم وحماقته وصلفه، فكان خطاب تسلية وتثبيت، مقرونا بنون التوكيد (فَلَا تَحۡسَبَنَّ) ، وإذا كان الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- يخاطب بهذا الخطاب، ويكرر له للتأكيد والتثبيت (فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ ) فإنه للمؤمنين كذلك فيه مزيد تسلية وتثبيت، فقد نال رسولهم ما نال من البلاء، فهم من باب أولى في التأسي به والاقتداء، ومثلما هو خطاب تسلية وتثبيت، هو كذلك في فحواه خطاب تهديد ووعيد للظالمين على مر الزمان.
    واستعمل البيان المعجز لفظ الحسبان دون سائر أفعال الظن في هذا المقام (وَلَا تَحۡسَبَنَّ)؛ لأن الحسبان شيء من الوهم الذي ينتهي بالوصول إلى الحقيقة، وهو ما أفصح عنه البيان القرآني في مواضع متعددة (وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ) (وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ*َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ*ٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُۥۗ) (وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ) (وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ ) (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ).

    فالنفوس المؤمنة لا يتلبس بها أدنى وهم في عدل الله ، فضلا أن تظن أو ترتاب، وفي هذا ما فيه من دقة الخطاب، مع الانتهاء إلى الوصول إلى مرامي الحكمة في التأخير والإمهال ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ).
    وفي استحضار لفظ الجلالة ( وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ) استحضار لكل معاني الألوهية، الدالة على الحكم والقضاء، والحساب والجزاء، وذلك بمقتضى ألوهيته لعموم الخلق، جلَّ وعلا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (10)


    عبد الله الهتاري

    آية غض الابصار

    إن النظم القرآني البديع المعجز يجمع بين جمال المبنى وروعة المعنى، ويأتلف فيه إعجاز البيان مع إعجاز التشريع ومقاصد الأحكام، وعندما تعيش الأمة مع كتاب ربها تلاوة وتدبرا وعملا؛ تستقيم حياتها على الجادة وتسير على نور من ربها يضيء لها دروب حياتها .
    وفي هذا السياق نقتبس نورا من أنوار آيات النور، نقف عند جمالها , ونتأمل بيانها، وهي قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) النور 30 .
    لقد توجه الخطاب القرآني البديع في هذه الآية الكريمة بفعل الأمر (قل) متوجها به إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- على سبيل الإلزام والوجوب بالتبليغ، ولم يرد التوجيه به مباشرة للمؤمنين فيقول:- (يا أيها الذين آمنوا غضوا أبصاركم ) وذلك – والله أعلم – لما فيه من الأمر بالتبليغ والمتابعة والعناية من قبل الرسول- صلى الله عليه و سلم- لأمته بهذا الأمر؛ لأنه مما يتساهل الناس فيه، ويترتب عليه شر كبير، فيه فساد المجتمعات ودمارها .
    وخص توجيه الخطاب بالإلزام والأمر بعد ذلك للمؤمنين، وهم الذين اتسموا بوصف الإيمان؛ لأنه لا يقوى على امتثال ذلك من غض الأبصار, وجمح شهوات النفس ونوازعها البشرية إلا من تغلغل وصف الإيمان في نفوسهم وقلوبهم، دون من تجرد من هذا الوصف أو تعرى منه.
    ثم إن الامتثال بهذا الأمر مظهر من مظاهر زيادة الإيمان وسموه، وفي الحديث (النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ جَلَّ وَعَزَّ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ) .
    والغض للبصر مناط به دافع الحشمة والخلق والحياء، لذلك جاء في سياق غض الصوت أيضا في قوله تعالى (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) لقمان 19، ولم يقل:- (واخفض من صوتك ) لأن الغض خفض وزيادة، فهو خفض للصوت مع التأدب والحياء .
    ومن بديع النظم أنه استعمل حرف الجر (من) في قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) ولم يستعملها في حفظ الفروج فقال: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )، فالمشرِّع الحكيم طلب من المؤمنين غض أبصارهم عما يحرم عليهم فقط، فالأصل في الأبصار الحل، فهي نعمة من نعم الله للنظر والتأمل في كونه وخلقه والاعتبار، وإنما يغض عن مواضع الحرمات ومناظر الابتذال، في حين أن الأصل في الفروج عموم الحرمة في الإبداء والإفضاء.
    وغض الأبصار هو الوسيلة لحفظ الفروج؛ لذا تقدم ذكره في هذا السياق، وحفظ الفروج يمثل لها صونا وعفة، والاستهانة بذلك طريق من طرق الغواية، وسبيل إلى الأمراض الحسية والمعنوية على حد سواء .
    ثم علل النظم القرآني هذا الحكم والتوجيه بقوله (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) و (أزكى) صيغة تفضيل من الزكاة بمعنى النمو والبركة، وتحمل هذه اللفظة في طياتها معاني الطهر والنقاء، والبركة الحسية والمعنوية في حياة المؤمنين، ففي غض الأبصار زكاة للأنفس والأرواح والقلوب، بل زكاة للعقول أيضا.
    إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى
    وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا
    ثم ختم المولى الآية بقوله (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) وفي التأكيد ب(إنَّ) مزيد تنبيه وتحذير للمؤمنين من التهاون في شأن غض الأبصار وحفظ الفروج، وجاء الوصف بالخبير؛ لأنه المطلع على خبايا نفوسهم، وخبير بمقاصد أعمالهم وأفعالهم ، واختار النظم (يصنعون ) دون (يفعلون) أو (يعملون) ؛ لأن الصنع من مقاصد المكلفين ولا يرد إلا من العقلاء على وجه الخصوص، وفعله يتطلب مزيد إتقان وحيطة، والله خبير بمقاصدهم في النظرات والخطرات، مما دق منها وخفي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (11)
    ( مقامات البيان)
    عبد الله الهتاري


    إنه البيان المحكم البديع، يضع مقاييس البيان وفق مقامات الكلام بدقة محكمة في منتهى الإحكام ..!

    تستوقفنا آيتان ورد السؤال عنهما فكان هذا البيان ..

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة 264]

    (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) (سورة النساء 38)

    نلاحظ في سورة البقرة (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)، في حين ورد في النساء، (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) بإضافة (لا) و حرف الجر الباء ..

    فما سر التغاير في النظم مع أن الآيتين تتحدثان عن الرياء في الإنفاق ؟!

    وهنا تبرز الدقة والإحكام في مقاييس الكلام؛ ممايثير ذلك دهشة المتلقين لهذا البيان، ويستوقف أرباب البلاغة وأساطين الفصاحة! وذلك من مظاهر تميزه وإعجازه،

    إذ لايتفطن البيان البشري في كل مقاماته إلى الدقة والإحكام في اختيارات أسلوبه، وانتقاء عباراته، وسبك ألفاظه، على هذا النحو العجيب الفريد الذي انماز به نظم القرآن!

    ورب البيان لو استوت في النظم الآيتان؛ لاهتز عرش البلاغة، واختل الميزان!

    ذلك أن الآية الأولى هي في الكافر، الذي لا يبتغي بنفقته وجه الله وإنما الرياء والسمعة ..فلم يحتج السياق إلى مزيد توكيد بتكرار اللام والباء؛ لأن الكافر يجاهر بعدم إيمانه بالله واليوم الآخر.

    وأما الثانية فهي في المنافقين الذين يظهرون خلاف مايبطنون من الكفر؛ لذلك أكد عدم إيمانهم بتكرار (لا) النافية والباء الجارة المؤكدة.

    أي بيان محكم بمقاييس الدقة البيانية العجيبة كهذا، إلا أن يكون المتكلم هنا هو رب البيان منزل هذا القرآن فحسب؟!
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (12)
    عبد الله الهتاري


    إن البيان القرآني المعجز المحكم العميق في بيانه ومعانيه وقراءاته، يستوقفنا لتدبره، وتأمل آياته.

    يقول تعالى : { وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [سورة الأنعام :27]

    ففي هذا السياق نلحظ التحول إلى النصب في الفعلين (ولا نكذبَ … ونكونَ) … ولو مضى السياق على نسق واحد من الحركة الإعرابية لكان (ولا نكذِّبُ … ونكونُ) بالرفع؛ لكونهما معطوفين على الفعل المرفوع (نُردُّ). وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير ، والنصب قراءة حمزة وحفص عن عاصم.

    ويبرز التحول عن الرفع إلى النصب في قراءة حمزة وحفص، ولكي ندرك سر هذا التحول على هذا الوجه من القراءة، ينبغي أن نعرف أولاً المعنى بمقتضى قراءة الرفع التي جرت على نسق المطابقة في السياق، ثم نفسر التحول عن المطابقة وما يضفيه من دلالة في ذلك.

    فقراءة الرفع تخرج على وجهين: الأول: أنها على عطف الفعلين على (نُرَدُّ) فيكون المعنى حينئذ أن الكفار تمنوا هذه الأمور الثلاثة: الرد، وعدم التكذيب بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين.

    والوجه الثاني: “أن يكون الفعلان مستأنفين، على معنى أنهم تمنوا الرَّدَّ وحده، ثم قالوا: ولا نُكذِّبُ ونكونُ من المؤمنين، رُدِدْنا أم لم نرد.

    وقد علل سيبويه الوجهين في الرفع في هذه الآية بقوله: “فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشْركَ الآخِرُ الأوًّل، والآخر على قولك: دَعْني، ولا أَعُودُ، أي: فإنِّي ممن لا يعود، فإنّما يسألُ الترك وقد أوجب نفسه أن لا عودة له البتَّة، ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع لـه الترك وأن لا يعودَ”، ويكون معنى الآية على الوجه الثاني أنهم “أخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم، وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال، رُدُّوا أو لم يُردُّوا”.

    وعلى قراءة النصب التي نحن معنيون بمعرفة سر التحول فيها، يكون المعنى: أنهم تمنوا الرَّدَّ مع عدم التكذيب، وكونهم مؤمنين، لذلك عقب المولى- عزوجل – على قولهم هذا بقوله: { بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا۟ یُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ } فيكون الفعلان منصوبين بإضمار “أن” بعد الواو التي بمعنى “مع” كقولك: ليت لي مالاً وأتصدَّقَ منه.

    ومعنى القراءة على نصب الفعلين أنهم تمنوا الرَّدَّ على أن يكونوا في حالة الرَّدِّ غير مكذبين ومن المؤمنين كذلك.

    وألمح من هذا السياق، بتعدد أوجه الإعراب المختلفة له، أن الكفار كانت لهم عند مشاهدة العذاب عدة أمنيات، وليست أمنية واحدة، وقد أخبر القرآن عنها كلها.

    فكأنهم عندما شاهدوا العذاب ابتداء فزعوا فتمنوا الرَّدَّ إلى الدنيا، وهم في لحظة الفزع والذهول قد آمنوا بما شاهدوا ولم يعودوا من المكذبين بآيات ربهم، سواء رُدُّوا أم لم يُرَدوا، فلا علاقة للردِّ حينئذ بإيمانهم. وهذا ما توحي به قراءة الرفع في أحد وجهيها (وهو الاستئناف)، في قولـه تعالى: { یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ }

    ثم تمنوا الرَّدَّ مصطحبين في معيتهم هذه القناعة التي رسخت لديهم من المشاهدة والعيان ليعملوا بها في الدنيا، وهو ما أشار إليه القرآن في موضع آخر بقوله تعالى : { وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَاۤ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ }

    وهو ما توحي به قراءة النصب (على المعية) بقوله تعالى: {یَـٰلَیۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ }

    ثم عندما يئسوا من الرجوع إلى الدنيا، وأن ذلك يستحيل، لهجوا بالحسرة والندامة متمنين ثلاثة أمور: الرد إلى الدنيا، وأنهم ما كانوا كذّبوا بآيات ربهم، وأنهم كانوا مؤمنين، وهو ما توحي به قراءة الرفع على الوجه الآخر (وهو العطف)، فكل وجه من وجوه الإعراب دل على معنى جديد لا يؤديه سواه، وهذه الأوجه بمجموعها تتكامل في وصف مشهد الحسرة والعذاب.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (13)
    عبد الله الهتاري


    ( وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال: 60].
    جاء لفظ الإعداد الذي يقتضي في مفهومه التخطيط واستشراف المستقبل بالنظر البعيد والفهم العميق لمجريات الواقع والأحداث، ثم قدم المعد لهم على ماهية الإعداد إذ قال : (لهم )؛ للعناية والاهتمام وبث مفهوم اليقظة الدائمة في نفوس الأمة نحو عدوها، وغرس الوعي الإيماني بذلك، من خلال التوجيه الإلهي بالأمر بالإعداد لمواجهة مخططات الأعداء.

    ووجه الأمة أن تستنفر كل استطاعتها في سبيل ذلك (ما استطعتم) بذكر (ما) دون (الذي) الموصولية الدالة على العموم لكل شيء من الاستطاعة، أو المحتملة للمصدرية بتقدير (استطاعتكم) للدلالة على استفراغ طاقة الحدث، فيكون النظم القرآني قد حث على استفراغ كل طاقات الحدث، وكل وسائل تنفيذه.

    ثم ذكر (من) البيانية في هذا المقام وليست التبعيضية ( من قوة) ليبين ماهية الإعداد وأنواعه، وبدأ بذكر القوة ونكرها لتفيد عموم القوة، من قوة نفسية، وفكرية، وعلمية، ومادية، واقتصادية، وإعلامية، وعسكرية، وأن يبلغوا في ذلك غاية الاستطاعة لاستفراغ الحدث ووسائل تحقيقه، ومن وسائل القوة العسكرية الرمي، كما ورد في الحديث (ألا إن القوة الرمي) ولاشك أن القوة الجوية من الرمي الصاروخي والطيران يعد أقوى أنواع الإعداد في القوة العسكرية، وهو المتقدم في الحروب قبل القوة البرية ( ومن رباط الخيل) ولذلك ورد هذا الترتيب الحكيم في هذا البيان من التوجيه الإلهي المعجز.

    ثم علل القصد من إعداد هذه القوة؛ و هو إرهاب العدو؛ حتى لا يطمع فيكم؛ لأن مجرد الإعداد للقوة، هو أمر يسبب رهباً للعدو. ولهذا تقام العروض العسكرية ليرى الخصم مدى قوة الدولة، وحين تبين لخصمك القوة التي تملكها لا يجتريء عليك، ويتحقق بهذا ما نسميه بلغة العصر ” التوازن السلمي “.
    وصار الخوف من رد الفعل أحد الأسباب القوية المانعة للحرب. وكل دولة تخشى مما تخفيه أو تظهره الدولة الأخرى.
    وهكذا يصبح الإعداد للحرب سببا لنفي قيام الحرب.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    May 2024
    المشاركات
    9

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    ما شاء الله! مقال رائع يا عبد الله الهتاري. لقد أبدعت في توضيح الفارق الكبير بين البيان القرآني والبيان البشري. بالفعل، فإن القرآن الكريم يعرج بنا في سماوات الفهم والبلاغة ويغوص في أعماق النفس البشرية ليظهر لنا جمال وقوة التعبير الإلهي. المثال الذي ذكرتَه عن آية (قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ یَوۡمُ ٱلزِّینَةِ وَأَن یُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحى * فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَیۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ) هو بالفعل دليل على دقة وإعجاز النظم القرآني. اختيارك لتحليل هذا التفصيل البياني أظهر بوضوح تردد فرعون وضعفه النفسي أمام قوة موسى عليه السلام، مما يضيف إلى فهمنا للآية عمقاً جديداً. كما أود أن أشير إلى أهمية تدبر سور القرآن المختلفة ومنها سورة الواقعة https://surah-al-waqiah.com/ التي تحتوي أيضاً على الكثير من الآيات التي تعكس عمق البيان القرآني وإعجازه. جزاك الله خيراً على هذا التحليل القيم والمفيد.

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (14)
    المفارقة بين إرادتين
    عبد الله الهتاري


    قال تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء: 27].
    أبرز هذا العدول عن الجملة الاسمية (والله يريد…) إلى الجملة الفعلية (ويريد الذين…) المفارقة بين إرادتين، وأشار إلى كمال المباينة بين مضموني الجملتين.

    فإرادة الله إرادة خيِّرة فيها كمال النفع والصلاح لخلقه، وإرادة متبعي الشهوات إرادة شريرة خبيثة، لا خير فيها ولا صلاح. فناسب التباين في المعنى تباين المبنى… وبرز ذلك من خلال التغاير بين الجملتين.

    وفي تقديم لفظ الجلالة على الفعل في قوله: (والله يريد) تكثيف للدلالة على المسند إليه وهو الله -عزوجل- وفي ذلك إشارة إلى كمال هذه الإرادة ونفاذها ما دامت صادرة منه تعالى، في حين عبّر بالجملة الفعلية عن إرادة متبعي الشهوات فقال (ويريد الذين…) للإشارة إلى تجدد هذه الإرادة منهم بإلحاح وحرص، ومع ذلك فإرادة الله غلاّبة، والله يفعل ما يريد.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (15)
    دلالة علامة التأنيث في (مُرْضِعَة)
    عبد الله الهتاري

    (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ )

    القاعدة في الوصف الخاص بالمؤنث أنه لا تلحقه علامة التأنيث، فلا يقال: امرأة حائضة، ولا امرأة مطلقة وهكذا، يقول السيوطي(1):
    ”والغالب ألا تلحق الوصف الخاص بالمؤنث كحائض و طالق وطامث ومرضع، لعدم الحاجة إليها بأمن اللبس.

    ويعلل أحد الباحثين ذلك بقوله(2):” ولعل هذا راجع إلى مرحلة قديمة من عمر اللغة لم تكن فيها علامات التأنيث قد استخدمت بعد، فقد كان المؤنث لغويا يعامل به المذكر “.

    والذي أراه أن العكس هو الصحيح، فالأصل المفترض في التفكير اللغوي الأولي القديم أن يجنح العقل اللغوي البدائي إلى التمييز بين المذكر والمؤنث بالعلامة، ثم تأتي مرحلة متطورة من الدرس اللغوي، تحذف هذه العلامة من بعض الاستعمالات، لوجود أمن اللبس وإعمال الفكر في أن هذه الصفات مما اختصت به الأنثى عن الذكر فتحذف العلامة، بدليل ما نجده من استعمال الفصحى كلمات ( طالق – حامل – طامث – مرضع…..)، وما نسمعه في العامية من قولهم : طالقة، حاملة، فالاستعمال العامي يشير إلى مرحلة أولية قديمة في التفكير اللغوي لا إلى مرحلة متطورة في التفكير.

    وما حصل من خروج عن الفصيح الأغلب لهذه القاعدة، وذلك من إدخال علامة التأنيث على الوصف الخاص بالمؤنث، يمكننا تفسيره دلاليا لا أن نقف في تفسيره عند حدود الأصل التاريخي، فليست علة الاطراد هي السبب في ذلك كما ذهب إليه الباحث السابق بقوله(3):”ولعل الرغبة في أن تطرد القاعدة هي التي جعلت الاستعمال اللغوي يميل إلى إدخال علامة التأنيث على كثير من الألفاظ المؤنثة تأنيثا سماعيا، أي المؤنثة بدون علامة التأنيث”.

    فقد وهم هذا الباحث إذ جعل الاطراد هو العلة المسببة لدخول علامة التأنيث على الوصف الخاص بالمؤنث، فإذا كان هذا التعليل مقبولا في تفسير استعمال الناس ذلك، فكيف يمكن قبوله في تفسير ما ورد في محكم التنزيل، وذلك في قوله تعالى:” يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ” .(الحج: 2)

    والذي يظهر لي – والله أعلم- أن الخروج عن القاعدة في هذا السياق القرآني جاء لملمح دلالي في الذكر الحكيم، وهو ما ألمح إليه الزمخشري -رحمه الله- وذلك أن المولى- عز وجل- أراد أن يصور حال المرضع وهي تلقم ثديها وليدها وقد ذهلت عنه وشغلت ودهشت؛ لهول الموقف في الحساب يوم القيامة، لا أنه يذكر وصفا لمرضع، أي: من كان حالها الإرضاع فحسب، وإنما يصور المرضع وهي تباشر الإرضاع بثديها في تلك اللحظة.

    فهذا الخروج في التركيب ولد خروجا في المعنى الدلالي، قصد منه إبراز الوصف وتوضيح الصورة بوضوح وجلاء، ترهيبا وتخويفا لهول الموقف في الجزاء.
    ============================== =====
    (1) الهمع 3/291
    (2) ظاهرة التأنيث في العربية واللغات السامية.د. إسماعيل عمايرة ص 34.
    (3) المصدر السابق .ص 41

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد

    معارج البيان القرآني (16)
    ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) و (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ )
    عبد الله الهتاري

    ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) ) [سورة ص].

    ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) ) [سورة الأعراف]

    هما سياقان مختلفان في النظم والبيان من متشابه القرآن؛ استوقفت آياته أساطين التفسير، وتبارى فرسان الفصاحة وأرباب البلاغة فيه معترك التأويل.

    ذلك أن سورة ورد فيها ( مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ) وفي الأعراف جاء ( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ )

    وهما سياقان في قصة امتناع إبليس عن السجود، وتكبره والجحود.

    ولكن لم كان الاختلاف في النظم بمجيء ( لا) مع الفعل (منع) في الأعراف ؟!

    لقد تعددت الآراء في ذلك واختلف أهل التأويل، فذهب بعضهم إلى القول : بزيادة (لا) في (الأعراف) قياسا على النظير في .

    والقول بالزيادة إراحة للعقل من النظر والتحقيق في أسرار القرآن ومحكم البيان؛ ينطلق من قياس النظير على النظير، دون النظر في اختلاف السياق لمتشابه النظم ومقاماته.

    وقد رفض القول به شيخ المفسرين ابن جرير، والرازي من المتقدمين، وفرسان البيان من المعاصرين.

    وبعد النظر والتأمل لما بين سطور التأويل؛ نجد أن (لا) على أصلها في دلالة النفي وليست زائدة بحال.

    وأن الفعل ( منع) يرد لمعنيين في لسان العرب، كما ألمح إلى ذلك الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن [1]

    (منع) من المنع ضد العطاء، وهو الحرمان وعدم التنفيذ.

    وبهذا المعنى ورد الفعل (منع) في سورة في قوله تعالى : (قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) ما منعك، أي: ما الذي حال بينك وبين السجود؟

    ونلاحظ أن سياق الحديث في سورة بدأت آياته في ذكر قصة خلق آدم، مخاطبا الملائكة بذلك، و مبينا مكونات خلقه، وتسويته:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72))

    وقد كشف المولى- عز وجل- بعلمه الرباني، سبب امتناع إبليس عن السجود؛ ( إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ) ومع ذلك وجه له السؤال. مخاطبا إياه :( قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) وذلك ليقرره على نفسه بنفسه، ويدينه من فمه، وبما أن الله – عز وجل- قد خلق آدم وسواه، وباشر خلقه بنفسه، ونفخ فيه من روحه، وهذه مكانة اختصاص في الخلق، وتأكيد للخلق والتقدير (إِنِّی خَـٰلِقُۢ )؛ فالاستكبار هنا اعتراض على خلق الخالق لا على المخلوق؛ فبكته بمزيد التقريع إذ قال: ( لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّۖ ) ، فكان الفضح للَّعين؛ لما أخفى في سريرة نفسه من الكبر والعلو، فصرح بذلك جهارا واعترافا (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ).

    فما كان منه التسليم والإذعان، وكرر مقولته بعض تلاميذه من أبالسة الإنس، إذ قال:

    إبليسُ خيرٌ من أبيكم آدمَ فتنبهوا يا معشرَ الفجارِ

    إبليسُ من نارٍ وآدمُ طينةٌ والطينُ لا يسْمُو سُمُوَّ النَّارِ



    وما علم تلميذ اللعين، وهو أعمى البصر والبصيرة من وجهين، أنه:

    إبليسُ من نارٍ وآدمُ طينةٌ والنارُ لا تسْمُو سُمُوَّ الطينِ

    النارُ تحرقُ ذاتَها ومحيطَها والطينُ للإنباتِ والتكوينِ!



    فكان سياق آيات سورة تقتضي المناسبة في الإحكام، بمجيء الفعل (منع) بمعنى المنع وعدم الامتثال.

    وأما سياق سورة الأعراف فقد جاء فيها الفعل ( منع) بمعنى المنعة والقوة والحماية، ومنه قولهم: رجل منيع، أي: قوي، وحصن منيع، أي: قوي.

    فأمعن النظر في معجز البيان ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ ) فقد توجه السؤال الشديد المدوي بالتهديد والوعيد، من الجبار -جل جلاله- إلى إبليس اللعين دون مناداته بأداة النداء على وجه السرعة في التهديد في الأداء، قائلا له بمضمون الخطاب: ما قوَّاك على عدم السجود، ومخالفة أمري؛ فناسب تمام المناسبة ذكر علة السؤال ( إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ ) فورد الفعل (منع) هنا بمعنى المنعة والقوة، أي: ما قواك ألا تسجد؛ إذ أمرتك، وإلى أي منعة وحماية لجأت إليها من بطشي وعقابي لمخالفتك أمري؟

    وإنما ناسب سياق آية الأعراف أن يرد فيها هذا التعبير؛ لأن الآية السابقة لها توجه فيها الخطاب إلى البشر على سبيل الامتنان (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)

    ولم يذكر فيها مادة الخلق والتكوين لآدم -عليه السلام – كما ذكر في سورة لأن ذلك ليس موضع الاهتمام، بقدر ما كان التركيز منصبا على تخويف البشر من مصير مخالفة أمر الله، وأنه لا منعة ولا حماية أو قوة، لأحد أمام بطش الله وعقابه، حالة مخالفة أمره، كحال إبليس اللعين.

    فبقيت (لا) أصيلة في معناها، محكمة في المقام، لا زيادة فيها ولا إقحام.

    [1] مفردات القرآن. الراغب الأصفهاني. 77

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •