تصفيد الشياطين


سعيد مصطفى دياب







من المنح الإلهية لهذه الأمة، في هذا الشهر أن الشَّيَاطِينَ وَمَرَدَةَ الْجِنِّ تسُلْسِلُ، وتمنع من الإغواء، إعانة للصائمين على الطاعة، وعدم تكدرهم بوساوس الشياطين، وإغوائهم.



فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ".[1]



قال البدر العيني رحمه الله: ويقال تصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات، وصفدت بضم الصاد المهملة، وبالفاء المشددة المكسورة أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال، وهو بمعنى سلسلت، فإن قلت: قد تقع الشرور والمعاصي في رمضان كثيرًا فلو سلسلت لم يقع شيء من ذلك. قلت: هذا في حق الصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم، وراعوا آدابه. وقيل: المسلسل بعض الشياطين، وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، والمقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره. وقيل: لا يلزم من تسلسلهم وتصفيدهم كلهم أن لا تقع شرور ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، والشياطين الأنسية.[2]



قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله: قوله: "وصُفِّدَتِ الشّياطين" يعني شدّت في الصِّفَادِ، وهي الآلة الّتي تصفد بها اليدان والرِّجلانِ. والتّصفِيدُ بتخفيف الفاء هو الغُلُّ عند العرب، والشّياطين هم خَلْقٌ من خَلقِ الله، وهم ذُرِّيَة إبليس - لَعَنَهُ اللهُ -، وهم أجسامٌ يأكلون ويطعمون ويشربون ويولدون ويموتون ويعذّبون ولا يُنَعَّمون بحالٍ.




وأَنْكَرَتْ ذلك القَدَرِيّة لإضمارهم عقيدة الفلاسفة، وربمّا خَيَّلُوا على عوامّ المسلمين، فيقولون: هم أجسامٌ لطيفةٌ، لا تأكل ولا تشرب، بسائط، وكذبوا: ليس كذلك عندهم ولا عند الفلاسفة حقيقة، ولا هم موجودون، لا لطائف ولا بسائط، وقد بيَّنَّا هذا الفن في "الكتاب الكبير" فليُنظر هنالك.



تنبيه على وهم:

أمّا قولُه: "صُفَّدَتِ الشّياطين" فمن النّاس من قال: إنّه حمل الْمُطْلَق على المقيَّد، وليس كذلك، وإنّما هو من باب الخَاصِّ والعامّ، وذلك قولُه: "صُفِّدَتِ الشّيَاطِينُ" عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرِهِم. وقوله: "صفِّدَتِ المَرَدَةُ مِنَ الشَّيَاطِينِ" خاصٌّ في المَرَدَةِ لا غير. والأصلُ في هذا الباب- أعني من الخاص والعام - أنّ الخاصّ والعامّ إذا وَرَدًا، لا يخلو أنّ يكونا متِّفِقَيْنِ أو مختلفين، فإن كانا مُتَّفِقَيْن، كان الخاصُّ على خصوصه والعامُّ على عمومه، ويكونُ في الخاصِّ زيادة فائدة.




مثال ذلك: قولُه عليه السّلام: "لا صلاةَ بعدَ العَصْرِ حتَّى تغرب الشَّمسُ، ولا صلاةَ بعدَ الصُّبحِ حتَّى تطلع الشَّمسُ" هذا عام في الوَقْتِ كلِّه، وحديثُ عبد الله بن عمر: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشّمس ولا صلاة بعد الصُّبح ولا غروبها" هذا خاصٌّ في هذا الوقت.




فقال عوامُّ الفقهاء: إنّ الخاصِّ يقضي على العامّ بحديث ابن عمر.



قلنا: هذا خطأٌ، بل يبقى العامُّ على عمومه والخاصُّ على خصوصه؛ لأنّ معناهما واحدّ، وهما متَّفِقَانِ، وإنّما يقضي الخاصُّ على العامِّ إذا كانا مختلفين كما قدَّمناهُ.



فإذا كانا مختلفين، فيقضي الخاصُّ فيه على العامِّ، وقد بيَّنَّاهُ في بابه في أوّل الكتاب، فليُنْظَر هنالك.



وقوله: "صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرهم، وقوله: "مَرَدَة" خاصٌّ في المَرَدَةِ، وهما مُتَّفِقَانِ، فلا بُدَّ من زيادة فائدة في قولة: "مَرَدَة"؛ لأنا إنّ قلنا: إنّ العموم يدخل تحت المَرَدَة وغيرهم، فما فائدة تَكْرَارِهِم في الاختصاص؟

قلنا: فائدةُ ذلك توكيدُ التَّحريمِ في قوله: "لا تحرّوا بصلاتكم هَذَيْنِ الوقتين" وفائدة تأكيد التَّصْفِيدِ لها ولا زيادة اختصاص.[3]






[1] رواه أحمد- حديث رقم: 18817، والترمذي -كتاب الصوم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب مَا جَاءَ فِى فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، حديث رقم: 682، وابن ماجه - أَبْوَابُ الصِّيَامِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الصِّيَامِ وَفَضْلِهِ حديث رقم: 1642، وابن خزيمة- كتاب الصيام، جماع أبواب فضائل شهر رمضان وصيامه- باب ذكر البيان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد، حديث رقم: ‏1765،‏ بسند صحيح.





[2] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 266).




[3] المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 245).