التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون
د. إبراهيم عوض
وفي قصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، التي كُتبت عقب هزيمة 1967م، يهاجم نزار قباني الرئيس جمال عبدالناصر هجومًا مؤلمًا، منتقدًا سياسته الاستبدادية وقمعه للحريات واعتماده على الدعاية الطنانة الكاذبة التي لا تثمر إلا الكوارث، وقد تلهف الناس في ذلك الوقت عليها وأخذوا يتناقلونها ويرددونها، وهي، كما نرى، تعبير واضح عن رأي الشاعر السوري في الحُكم الاستبدادي الذي يستعيض عن الانتصارات الحقيقية بالشعارات المجلجلة، فتكون النتيجة هي الهزائم المروعة[4]، وأخيرًا، وليس آخرًا، فكلنا يعرف المغناطيسية التي كانت خطب الشيخ كشك تتمتع بها فتجذب جماهير المصلين أيام الجمع جذبًا إلى مسجده بحدائق القبة بالقاهرة ليستمعوا لآرائه في الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية، ويستمتعوا بما فيها من فن خطابي فاتن، وبعد، فما هذه إلا شواهد عجلى سجلتها كما وردت على ذاكرتي وأنا أكتب هذه السطور، وهي ليست بدعًا في ميدان الأدب، بل يوجد منها الكثير والكثير مما يعرفه القاصي والداني، وإن أصر بعض من يمسكون بالقلم على إغماض عيونهم عنه ظانين أنهم بتجاهلهم إياه سوف يستطيعون إلغاءه من الوجود! ويا له من وهم!
وهناك ألوان أخرى من المُتَع يخبُرُها بل يطلبها متذوق الأدب طلبًا، منها البحث عن السلوى والأمل، إن المأزوم أو الفاشل عاطفيًّا إذا قرأ قصيدة مثلًا أو قصة تتحدث عن مثل تجرِبته ومعاناته يُحس أنه ليس وحده الذي يقاسي الهجران والحرمان، فها هو ذا بطل القصة، أو الشاعر مؤلف القصيدة، يتلظى بنفس اللهيب الذي يحرقه، وكم هو صادق قول أحمد شوقي: "إن المصائبَ يجمعن المصابينا"! ذلك أن البلايا يخف محملها حين ينظر الإنسان حوله فيجد أن هناك مبلُوِّين مثله يتألمون كما يتألم، ويتطلعون إلى الخلاص مما هم فيه كما يتطلع، وقد يكون جزء من شعور الراحة الذي يحسه القارئ في مثل هذه الحالة راجعًا إلى أن ما يقرؤه ينسيه نفسه وآلامه، ويجعله ينشغل بآلام الشاعر أو بطل القصة، شأن من لا يعاني من شيء، فالقراءة في تلك الحالة أشبه بالمرهم الذي يوضع على الجرح فيلطف من قسوته، على أن العزاءَ الذي يجده القارئ في الإبداعات الأدبية لا يقتصر على ميدان الفشل العاطفي، فما أكثرَ ألوان الألم والعذاب التي تمتلئ بها الحياة! فهناك آلام اليُتم، وآلام الاضطهاد، وآلام الفقر، وآلام الإخفاق في الامتحانات، وآلام المرض، وآلام الشائعات الخبيثة التي تحاول اغتيال السمعة بالباطل، وآلام الترمل، وآلام الاحتلال... إلى آخر ما تَعِجُّ به الدنيا من مآسٍ ومواجعَ، أما إذا انتهى العمل الأدبي بنجاح البطل في قهر الصعاب التي تسد عليه طريقه والتغلب على الألم الذي يضنيه، أو بشَّر على الأقل بانفتاح أبواب الأمل، أو حتى بقُرب انفتاحها، كان ذلك قَمِينًا أن يجعله أكثر عزاءً، وأقدر على إمداد القارئ بأسباب الرضا، إن الذين تعرضوا لخيانة الأصدقاء أو الأتباع والأنصار يجدون في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ متنفَّسًا عما قد تراكم في قلوبهم من الغم واليأس، فتراهم يتابعون ما يحدث لسعيد مهران بكل ما عندهم من اهتمام وتشوق، متعاطفين معه ومشفقين عليه ومتمنين له ألا يجترح من الأخطاء ما يوقعه تحت طائلة القانون، ومتوجسين من سقوطه في قبضة رجال الشرطة الذين يقتفون أثره في كل مكان، ومقدِّرين الحب والحنان اللذين تغدقهما عليه نور، وآملين أن يصغيَ لصوت ضراعتها له وإلحاحها عليه أن يترك طريق الانتقام والقتل الذي أوقعه فيما هو فيه، وأن يعيشَا معًا حياة هادئة هانئة، وساخطين على زوجته وصبيِّه اللذينِ غدرا به وهو في السجن وتزوَّجا بعد أن حصلت الزوجة على حُكم بالطلاق، وناقمين على رؤوف علوان، الذي كان يزين له طريق الحقد على الأغنياء، ويضع في رُوعه أن ما يسرقه منهم إن هو إلا استرداد لحقه الذي اغتصبوه منه هو وأمثاله، ثم لما أصبح صحفيًّا مشهورًا وودَّع حياة الفقر والعَوَز، وودع معها أيضًا أحقاد الشيوعيين وأفكارهم المدمرة، انقلب عليه بدوره وشرع يندد به ويصمه بالإجرام ويحرِّض على مطاردته والإمساك به والاقتصاص منه.
وعلى نفس الشاكلة يجد الذين فقدوا ابنًا أو بنتًا لهم في السطور التي رثى بها المازني ابنته الصغيرة في مقدمة كتابه "في الطريق" سلوى، وأي سلوى، وإن آلمتهم في ذات الوقت، فكأنه ألمُ التطهير الذي تحدَّث عنه أرسطو في تحليله لتأثير المسرحيات المأساوية على مشاهديها، لقد قرأتُ هذا الرثاء المازني الفريد (الذي لا أبالغ أيَّ قدر من المبالغة إذا قلتُ: إنني لم أرَ له حتى الآن نظيرًا فيما قرأتُ من رثاء، سواء في أدبنا أو الآداب التي لي اطلاع عليها) وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، وكنت آنئذٍ عزَبًا، فهزَّني مِن أعماق كياني، واخترتُه لأدرسه لطلاب قسم اللغة الفرنسية بآداب عين شمس، الذين كنت أعطيهم بعض المحاضرات في ذلك الحين، ثم كنت أعود إليه كلما وقع في يدي الكتاب المذكور، فأُلفِي له ذات التأثير الرجَّاج... إلى أن عثرتُ على نسخة من الكتاب عند أحد باعة الكتب القديمة في الصيف الماضي فاشتريتها، ثم بدا لي أن أجدِّد العهد بتلك السطور التي لا أدري بالضبط سرَّ تأثيرها الطاغي رغم بساطة ما يقوله المازني فيها، واقتصاره على إيراد إحدى ذكرياته مع فتاته الصغيرة حين كانت تدخل عليه وهو يكتب على المِرقم، فتسحب الورقة من الآلة الكاتبة وتضعها على وجهها... إلى آخر ما قال، وهو قليل وبسيط، وليس فيه دمعة تُذرف، ولا شهقة تُصعد، ولا كلمة عن وجيعة الفقد، ولا... ولا... وفتحت الكتاب وقلت لزوجتي: اسمعي ما يقوله المازني في رثاء ابنته، ثم شرعت أقرأ، وفي ظني أن الأمر لا يعدو استرجاع ذكرياتي مع سطور المازني، لكن ما إن توسطت الصفحة حتى أخذ صوتي يتهدج، وأنفاسي تبطئ، و... و... مما أترك للقارئ تخيله بنفسه، وهو قريب مما حدَث لزوجتي، وذلك رغم أننا، والحمد لله، لم نفقد، وأبتهل إلى الله ألا نفقدَ، أحدًا من أبنائنا، وإن نزلت أولُ بنت لنا سِقْطًا، ترى ماذا كنا فاعلين لو كنا قد مررنا، لا قدر الله، بنفس المحنة التي مر بها المازني؟ لقد مات المازني، رحمه الله، منذ أكثر من نصف قرن، وماتت معه آلامه الأبوية التي كان يحبسها في دخيلته ويدخرها للذكرى حين يخلو إلى نفسه، كما قال في كلمته عن فتاته، لكن أثرها المزلزل ما زال يفعل فعله بالقلوب: إيلامًا أول الأمر، ثم غَسْلًا للنفس بعد ذلك، وتطهيرًا لها من أدران الحياة اليومية وشواغلها التافهة الحقيرة التي تعمل على أن تخنقَ فينا مثل هذا الصوت الإنساني النابع من أعماق النفس البعيدة! أيصحُّ بعد هذا أن يقال: إن اللغة في الأدب ليست أداة توصيل؟
وما دُمنا نتحدث عن السلوى التي تُمدنا بها بعض الأعمال الأدبية، فلعل من الملائم هنا أن نشير إلى الأدب الفكاهي بألوان طيفه المتعددة ما بين دعابة وهزل وتهكم وهجاء وتصوير كاريكاتيري، والحياة الإنسانية بطبيعتها كثيرة الأحزان والإحباطات والمخاوف والسأم والقلق، ولقد قال القرآن الكريم: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، فهي إذًا حياة مشقَّات ومكابدات، وإن لم تخلُ في ذات الوقت من مسرات ليست بالقليلة، إلا أن تطلُّع الإنسان إلى الكمال وكراهيته الفطرية للآلام والمنغصات يجعلانِ إحساسه بالجانب المظلم منها أشد وأحد، والبشر دائمًا ما يتطلعون إلى التغلب على أحزانهم وأوجاعهم وضِيق صدورهم، ويلتمسون إلى ذلك الوسائل التماسًا، ومن هذه الوسائل مطالعة الآداب الفكاهية التي تدفعهم إلى الضحك، أو ترسم الابتسامة على وجوههم على أقل تقدير، لتنسيَهم في غمرة الضحك أو الابتسام ما يعانونه من مزعجات الحياة حتى يستطيعوا مواصلة رحلتها، وإلا انفجروا قهرًا وكمدًا، وهذا أحد الوجوه التي تطالعنا بها الأعمال الأدبية ويقع عليها تذوقنا.
ترى كيف كانت تكون الحياة بالنسبة لعشاق الأدب ومتذوقيه لو لم يوجد أمثال الجاحظ وأبي الشمقمق والحمدوني وابن الرومي وبديع الزمان الهمداني وعبدالعزيز البشري وحافظ إبراهيم والمازني ومحمود طاهر لاشين وسويفت وجوجول ومارك توين... إلخ... إلخ؟ لَكَمْ أضحَكَنا تصوير الجاحظ لبخلائه وهم يحاولون بأساليبهم الملتوية تسويغ آفة الشح البغيضة وتزيينها في أعيننا، وبخاصة عندما يلبَسون، تحت وطأة الظروف القاهرة، ثوب الجود والكرم، لكن طبيعتهم المتأصلة فيهم تأبى إلا أن تتمرَّد على هذه المحاولة المتعسفة، فتظهر في هذه الصورة أو تلك من صور البخل الذي يتخذ سمت التدبير والخوف من بَطر الإسراف! ولَكَمْ أضحكنا أبو الشمقمق بأشعاره التي يصور بها فقره وجوعه ورثاثة حاله وخلو بيته من الطعام حتى لتستأسد الجرذان الواغلة على هِرِّه لِما يعانيه الهِرُّ من هزال وضعف يُعجزانِه عن رد عدوانها، بله الصيال عليها وافتراسها! ولَكَمْ أضحكنا أيضًا الحمدوني الشاعر العباسي على الشاة العجفاء التي أهداه إياها أحد أصدقائه، فجعل منها مادة للتندير والتهكم بها وبمُهديها، فلا ينتهي من تصويرها الكاريكاتيري في مقطوعة من الشعر حتى يبدأ قطعة أخرى أشد مبالغة في السخرية وأمضى في إثارة قهقهاتنا، أما ابن الرومي فليس من الميسور نسيان مقطوعاته في الأحدب والفطائري وأمثالهما مما وقف عنده وأبدى افتتانه به عددٌ من كبار النقاد العرب المعاصرين، وهناك بديع الزمان الهمذاني ومقاماته التي بلغ فن الفكاهة في بعضها مقامًا عاليًا لا تسهُلُ مباراته، كما هو الحال في "المقامة المضيرية" مثلًا التي حازت إعجابَ نقادنا المعاصرين.
ولا يسعني في هذا السياق أن أُغفِلَ محمود طاهر لاشين، الذي كان هو وأعماله القصصية موضوع أطروحتي في الماجستير أوائل سبعينيات القرن الماضي، والذي كثيرًا ما أضحكتني قصصه القصيرة، وأتاحت لي أوقاتًا هانئة في دار الكتب القديمة بوسط القاهرة؛ إذ رجعت إليه، رحمه الله، منذ سنوات قلائل فاستخرجت مجموعتيه "سخرية الناي" و"يحكى أن"، اللتين كنت اشتريتهما أثناء ذلك، وأقبلت على قراءتهما من جديد لأرى إلى أيِّ أحد كنت مصيبًا في إعجابي به وبفنِّه وفكاهته، فإذا بي أجد أنه أفضل كثيرًا مما ظننتُ في بداية شبابي؛ أسلوبًا وتصويرًا، وتشخيصًا وتهكُّمًا، حتى لقد عدتُ أقهقه ثانية، ولكن بجلجلة أقوى هذه المرة! أما المازني فحدِّثْ ولا حرج عن أستاذيته في هذا الباب، تلك الأستاذية التي تجعل منه هو نفسه موضوعًا للتهكم دون أن تتلطخ صورته رغم هذا في أذهاننا بما ينال منه أو يسيء إليه أدنى إساءة، اقرأ مثلًا ما كتبه في "صندوق الدنيا" عن تورُّطه في شراء كتاب لتعليم العربية للسائحين، ورغبته ألا تضيع النقود التي أنفقها على الكتاب هدرًا، وتقمُّصه مِن ثَم شخصية أحد السائحين، واستئجاره عربة حنطور ورطانته مع الحوذي بعربية مكسورة ملتوية، ورجوعه في كل خطوة إلى الكتاب للبحث عن الجُمل التي ينبغي استعمالها في هذا الموقف أو ذاك... إلى آخر ما كتب في ذلك الموضوع مما لا أملِك نفسي، وأنا أتذكره الآن، من الضحك ملء أشداقي منه رغم شحوبه في ذهني لتطاول الزمن!
وفي باب الهجاء لا يمكننا، في مقامنا هذا، أن نتغافل مثلًا عن بعض نقائض جَرير والفرزدق، التي يتوارى فيها السِّباب الجارح مفسحًا مكانه للفكاهة المعجبة، أو عن رائية بشار في التهكم المصمي بذلك الأعرابي الذي حاول التحقير من شأن الشاعر الكبير وعبقريته، فانصبَّ عليه بصواعقه انصبابًا، أو عن "رسالة التربيع والتدوير"، التي طوى الجاحظ فيها معاصره أحمد بن عبدالوهاب ونشره، وفلطحه وثناه كيفما شاء له فنُّه العبقري، أو "الرسالة الهزلية"، التي صنع فيها ابن زيدون بابن عبدوس منافسه في حب ولادة ما صنعه الجاحظ بابن عبدالوهاب... إلى آخر القائمة الطويلة من ذلك اللون الهجائي في الشعر والنثر على السواء.
وفضلًا عما مر، فقد يُقبِل المرء على العمل الأدبي هربًا من صخب الواقع إلى مشاهد الطبيعة التي تصورها بعض الإبداعات أُمًّا رَؤُومًا، تأخذ في صدرها أبناءها، وتمسح على قلوبهم وأحزانهم، أو عاتيًا جبارًا يبث الهول في النفوس، أو قد يقبِل المرء على العمل الأدبي رغبةً منه في صحبة الأبطال الرومانسيين الذين لا يعرفون الختل والمؤامرات، ولا ينحدرون إلى فاحش القول، أو دنيء السلوك، إن للواقع الذي نعيشه وطأةً ثقيلة على النفس بسبب زحامه وضجته وما يمتلئ به من انحراف وشرٍّ وضمائرَ ملوثة، وكثير منا يهفو إلى أن يفِرَّ مِن هذا العالم، ولو إلى حين، مُلقيًا بنفسه بين أحضان الطبيعة برقتها وسكونها، أو جلالها وجبروتها، وفي كثير من قصائدنا القديمة تطالعنا لوحات طبيعية ساحرة، بدءًا من الأطلال التي تبسط الوحدةُ والسكون عليها جَناحهما، ولا تقابل العينُ عندها سوى الرمال والنُّؤْي وبعض ما خلَّفته قبيلة الحبيبة وراءها من بقايا، أو ما أحدثته الريح والأمطار من خطوط في التراب، ومرورًا بالمشاهد التي تسجلها مصورة الشاعر وهو راكبٌ ناقته منطلقًا في الفيافي والقِفار، كقطعان الحُمُر الوحشية عند ينبوع ماء، أو السيول الهاطلة التي تجرف في طريقها كل شيء... وهلم جرًّا.
وممن لا يصحُّ تجاوزهم في هذا المجال الشاعر الأموي ذو الرمة، الذي أبرز د. يوسف خليف في كتابه عنه مقدرته الفنية الفائقة في رسم اللوحات الآسرة لمشاهد الصحراء وحيوانها، كذلك لا ينبغي أن ننسى أيضًا المنظر الجميل الذي قدمه لنا أبو تمام لقُمرتين واقفتين على فَنَن شجرة تتساقيان كؤوس الغرام، أو الصورة العجيبة التي رسم فيها ابن الرومي الشمس وهي تجنح نحو المغيب كأنها مريض مُدنف قد وضع على الأرض خدًّا ضارعًا، أو أبيات المتنبي التي تصور بحيرة طبرية، أو أشعار البارودي في وصف جمال الريف المصري، أو قصائد الهمشري في مغاني صباه، أو الصفحات التي تناول فيها ابن فضلان بعض مشاهد الطبيعة في بلاد البلغار، أو تلك التي أبدعتها يراعة محمد حسين هيكل في تصوير القرية المصرية في روايته "زينب" بحقولها وجداولها وأشجارها وطيورها ولياليها المقمرة الساجية، أو تلك التي وصف فيها صالح مرسي من كتابه عن "البحر" أمواج الأُقْيانوس الهائجة والمواقف التي تأخذ بأنفاس ركاب الباخرة في ذلك الظرف العصيب، وبالمثل لا أستطيع أن أنسى لوحات تورجنيف عن الريف الروسي في القرن التاسع عشر، أو أوصاف توماس هاردي المسهبة للكنائس والجسور والأبنية الأثرية في الريف الإنجليزي، أو ما كتبه المستكشف سكوت عن القطب الشمالي والتجارِب والأهوال التي خاضها هو ورفاقه هناك وسط الأجواء الطبيعية الرهيبة، والمناظر الفذة التي ليس لها نظير.
ومما يبحث عنه القارئ في الإبداعات الأدبية أيضًا الإثارة التي تهز النفس هزًّا، وتُخرجها من خمولها المعتاد، إن الحياة اليومية تخلو - إلى حد كبير - من التجارِب القوية التي يحس الإنسان معها بالامتلاء، وحتى عندما يمر أحدنا في الواقع بتجرِبة سعيدة أو مؤلمة فإنها تستغرقه بحيث لا يستطيع أن يتملاها براحته ويستخرج منها تلك النشوة التي يجدها في الأعمال الأدبية، كما أن تجارِب الحياة عادة ما تكون مهوشة غير واضحة المعالم والأطراف، بخلاف التجارِب التي تقدمها لنا إبداعات الأدباء؛ إذ يتم التركيز على عناصرها الأساسية مع نفي ما لا صلة له بها أو ما لا دور له واضح فيها، فضلًا عن أن كل شيء في هذه التجارِب يقدَّم لنا معلولًا ومترابطًا مع غيره، فإذا أضيف إلى ذلك أن التجرِبة التي يقدمها لنا العمل الأدبي لا يكتبها شخص عادي، بل أديب حباه الله بحساسية خاصة في الرؤية وفي الأداة على السواء، استطعنا أن نتبين السر في أن التجارِب التي تتضمنها الإبداعات الأدبية تتفوق عادة على تجارِب الحياة المباشرة؛ إذ تمدنا بالامتلاء والشعور المكثف بالنشوة.
إن جميل بن معمر مثلًا في قصائده التي تصور حبه لبثينة إنما يركز على هذا الحب ونسمات السعادة التي تهب عليه بين الحين والحين وسط لوافح الجحيم التي يصطليها معظم الأوقات، فلا يتطرق إلى شواغل الحياة اليومية ولا إلى آلاف الأمور التي تقع له أو منه أثناء ذلك، بل تظل عينُه طوال الوقت مشدودة إلى العناصر الأساسية في تجرِبته العاطفية والمحور الذي تدور عليه هذه التجرِبة، ألا وهو حبيبته بثينة، إنها تجرِبة مصفاة مقطرة لا يختلط بها ما يشعشعها ويهوشها ويُفقدها خاصة التركيز، ومثل ذلك قصيدة مالك بن الرَّيب التي يَرثي بها نفسه، والتي تعزل القارئ عن كل شيء آخر مما لا علاقة له بما كان يشعر به الشاعر حين لدغته حيةٌ مقفله من خراسان، وأحس بالمنية تدنو منه في كل لحظة وقد فغرت فاهًا لتلتهمه وتغيبه في جوفها الرهيب، وقُل الشيء نفسه في همزية ابن قيس الرقيات التي يأسى بها على مصير قريش حين مزقها التناحر على الحُكم، فخاف أن يكون في ذلك فَناؤها بعد أن كانت ملء السمع والبصر مجدًا وانتصارًا ودفاعًا عن دين الله، فهو لم يعد يرى أو يسمع أو يحس إلا بهذه الفادحة التي اعتمد في تصويره لها على أسلوب الإلحاح والتضخيم حتى لم نعد نرى إلا ما يراه ونشعر إلا بما يشعر به، وعلى نفس الشاكلة ينتزعنا أبو تمام في بائيَّتِه من كل شواغل الدنيا، فلا يتبقى أمامنا إلا انتصار المسلمين في عمُّورية على الروم المعتدين الذين ظنوا أنهم يستطيعون إيذاء امرأة مسلمة مع الإفلات من التأديب والعقاب، إننا في هذه القصيدة نطير إلى أعالي السماء ونلامس النجوم شاعرين أن الكون كله يجلجل فرحةً بهذا النصر العظيم، وهو ما يشحن نفوسنا حماسة وابتهاجًا، ويخرجنا من حالة التخثر والتبلد التي تعترينا في كثير من الأحيان.
وفي "رسالة حي بن يقظان" نصاحب بطل ابن الطفيل الذي ألقت به المقادير، مُذْ كان رضيعًا، بين الغزلان تحنو عليه وترضعه في جزيرة معزولة لا يؤنسه فيها صوت بشري، مجابهًا وحده كل التحديات والمعوقات، مجتهدًا أن يشبع حاجته إلى الطعام والملبس والمسكن، ومحاولًا أن يفسر الظواهر الطبيعية من حوله، إلى أن يتوصل إلى الإيمان بوجود الله وعظمته ووحدانيته، والإيمان بأن هناك ثوابًا وعقابًا في حياة أخرى بعد هذه الحياة... إلى آخر ما ذكره الفيلسوف المسلم في كتابه مما يمكن أن نرى فيه تصويرًا موجزًا ومكثفًا لمسيرة التاريخ البشري كله على ظهر الأرض لا حكايةً لأحداث حياة إنسان فرد بعينه، وتستولي الرهبة على نفوسنا ونحن نتابع ابن يقظان في هذا الجو الغريب مُذْ كان طفلًا رضيعًا حتى أصبح رجلًا ناضجًا، ومن الأعمال الأدبية التي تستثير أيضًا الخيال والتشوق والحيرة والقلق رواية "روبنسون كروزو"، وهي تقوم في أساسها على إطار مقاربٍ لقصة "حي بن يقظان"، إلا أنها، على العكس منها، تخلو من التفكير الفلسفي، كما أن فيها عددًا من المشاهد المرعبة؛ كمشهد المتوحشين وهم يلتهمون جثة بشرية ويتركون وراءهم عظامها مما لا وجود لشيء منه في رسالة ابن الطفيل، وفي هذا الصدد لا يصح أن نُغفل رائعة إميلي برونتي "مرتفعات وذرنج"، التي تهز النفس، بل تزلزلها زلزالًا، بما تضمه من شخصيات عنيفة غاية العنف في مشاعرها، غريبة أشد الغرابة في أطوارها وتصرفاتها، وبما تسرده من أحداث صاعقة، وبما تصفه من مشاهد تتجلى فيها عناصر الطبيعة في جبروتها، ولا ننسَ مشهد جثة كارولين في تابوتها حين استخرجه هيثكليف بعد موتها بزمن، وأخذ يتملى وجه حبيبته القديمة التي حُرِم منها وظل طول عمره مدلَّهًا في هواها، وفجأة هبت الريح فطيرت ذرات الوجه الذي كان قد تحلل رغم تماسكه الظاهري، فإذا بملامحه تضيع في لحظة مثلما تنطمس الخطوط المرسومة على صفحة الرمال مع ثورة العاصفة... والأمثلة كثيرة أكثر مِن أن تُحصى.
يتبع