ثقـافة إهــداء العيـوب
كمال عبدالمنعم خليل

إذا كانت الهدية شيئا محببا إلى النفس، أو ذا قيمة نفيسة، فإن هذا أمر طبيعي، وهو المألوف بين الناس، أما أن تكون الهدية مما يعاب، أو مما لا تقبله النفس، فهو شىء مستغرب في تعاملات البشر، إلا أن العاقل يوقن أن من أهداه عيبه أحب إليه ممن يهديه شيئا ماديا، قال أحد السلف: «أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك، أحب إليك وخير لك من أخ وضع في كفك دينارا»، لكن ينبغي على من يهدي العيوب أن يلتزم آداب النصيحة، فيلبس العيب ثوب الهدية الذي يتصف بالجمال والنقاء وحسن الظاهر، عندها يحفظ صاحب العيب الجميل، ويشكر الصنيع.
وإذا كان الحديث عمن يهدي العيوب، فإننا نجزم بأن المادحين كثر، كل له بغيته في هذا المدح وذاك الثناء، ولقد حث الإسلام على القصد في المديح إذا كان بحق، فما بالك إذا كان المديح بغير حق؟! وقدوتنا في ذلك الرسول الكريم " صلى الله عليه وسلم" ، فقد روى البخاري في صحيحه مــن حديث عمر بن الــخطــــاب "رضي الله عنه" قــــال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله»، فرغم كمال خلقه وخلقه، ورغم مدح الله تعالى له، إلا أنه أمر أمته ألا تبالغ في مدحه لدرجة تخرجه عن العبودية التي يدين بها لربه سبحانه وتعالى.
وقد أثر عن السلف أنهم كانوا يتهمون النفس بالتقصير والعيوب دائما، حتى لا يركن إنسان إلى عمله، أو يظن أنه نجا فيتكل على ذلك، فيفتر أو يضعف، يقول ابن القيم رحمه الله: «لقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: والله إلى الآن منذ أن بلغت وأنا أجدد إيماني كل يوم، ثم كان يقول: أنا المكدي (الفقير إلى الله وقيل الحمال الذي يعمل بالأجرة)، وابن المكدي، وهكذا كان أبي وجدي.
إن إهداء العيوب له أصل في ديننا الحنيف، فهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من باب التواصي بالحق، ومن باب النصيحة، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1-3)، وقال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110)، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن تـميـــم بن أوس الــداري "رضي الله عنه" ، أن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وكان عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يقول: «رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي»، وكان يسأل حذيفة بن اليمان "رضي الله عنه" : هل ترى علي علامات النفاق؟! (وكان على معرفة بالمنافقين، فقد سماهم له الرسول " صلى الله عليه وسلم" قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى)، فكان يتهم نفسه، ولا يشغله إلا عيبه، فقد كان دائم السؤال عن عيوبه. فهذا النموذج قل أن تجده، فلا يبحث الناس في غالب حالهم إلا على المزايا والمدح والثناء، وقليل من يصدقك القول في عيبك، قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويا عنهم: لم امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي؟.
ثوب الهدية: هذه الهدية من نوع خاص، لذلك ينبغي أن يكون لها ثوب خاص، فأنت تهدى عيبا ونقيصة، فلا تزد صاحب العيب جرحا على جرحه، وهما على همه، بل على مهدي العيب أن ينصح ويستر، ولا يفضح، فيلمح إذا كان التلميح يكفي، ويصرح في انفراد إذا كان التصريح لازما، المهم أن لا يكتم النصح فيكون من باب الخيانة لصاحبه، والنبي " صلى الله عليه وسلم" كثيرا ما كان يهدي العيب في صورة النصح العام بقوله: «ما بال أقوام يقولون كذا، ما بال أقوام يفعلون كذا..».
قال أحد السلف: «إذا رأيت في أخيك عيبا، فإن كتمته فقد خنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته فقد أوحشته، ولكن كن، وعرض، واجعله من جملة الحديث».