تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 41 إلى 46 من 46

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,389

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (43)

    وفوق كل ذي علم عليم



    من الحكم القرآنية البليغة قوله عز وجل: {وفوق كل ذي علم عليم}، وقد اشتملت هذه العبارة الموجزة على فوائد جليلة، نذكر منها على سبيل الاختصار:
    1 - فضل العلم:
    يستفاد من هذه الآية الكريمة فضل العلم وشرفه، فقد بيـّن سبحانه أن رفعة يوسف عليه السلام على إخوته إنما كانت بالعلم كما قال عز وجل: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}، قال القاسمي: «{نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم»اهـ، وقال الشيخ ابن سعدي: «{نرفع درجات من نشاء} بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف» اهـ.
    ولا شك أن طلب العلم من أهم الواجبات وأفضل المطلوبات بعد أداء الفرائض والقيام بالشعائر، كما قال الثوري: «ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»، حيث أمر الله تعالى بالعلم الشرعي ومدح العلماء وطلبة العلم، وذم الجهل وأهله، وذلك في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ومنها هذه الآية التي جعل فيها سبحانه وتعالى معيار التفاضل بين يوسف وإخوته (العلم) مما يؤكد فضله وشرفه.
    2- تفاوت العلم والعلماء:
    لا يخفى أن العلم يتفاوت في الشرف والفضل، فالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته أفضل العلم وأعلاه درجة؛ لأنه يتعلق بأشرف معلوم وهو الله عز وجل، ثم يليه العلم بالطريق الموصل إليه، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب موضوعها وأثرها في دين المكلف ودنياه.
    وأيضا فإن العلماء يتفاضلون تبعا لما يحملونه من العلم وما يقومون به من أعمال نافعة لأنفسهم ولأمتهم، قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {وفوق كل ذي علم عليم} فيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس».
    3- العلم ينتهي إلى الله عز وجل:
    مما تفيده الآية الكريمة أن العلم من مواهب الله عز وجل للعلماء، وهو سبحانه العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، قال الطبري: « وَقَوْله: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَفَوْق كُلّ عَالِم مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ يُوسُف أَعْلَم إِخْوَته، وَأَنَّ فَوْق يُوسُف مَنْ هُوَ أَعْلَم مِنْ يُوسُف، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
    وذكر بسنده عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، قَالَ: حَدَّثَ ابْن عَبَّاس بِحَدِيثٍ، فَقَالَ رَجُل عِنْده: الْحَمْد لِلَّهِ {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْعَالِم اللَّه، وَهُوَ فَوْق كُلِّ عَالِم.
    وعَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْن عَبَّاس: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: يَكُون هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّه فَوْقَ كُلّ عَالِم.
    وعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب، قَالَ: سَأَلَ رَجُل عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُل: لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَلِيّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}.
    عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: اللَّه أَعْلَم مِنْ كُلّ أَحَد.
    وعَنِ الْحَسَن، فِي قَوْله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: لَيْسَ عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ عَالِم حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه.
    وعَنْ بَشِير الْهُجَيْمِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْحَسَن قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة يَوْمًا: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْسَى عَلَى ظَهْر الْأَرْض عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَتَّى يَعُود الْعِلْم إِلَى الَّذِي عَلَّمَهُ»اهـ.
    4- تواضع العالم:
    إذا اعتقد المكلف أن العلم ينتهي إلى الله، فمنه المبدأ وإليه المنتهى كما قال قَتَادَة في قَوْله: «{وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه، مِنْهُ بُدِئَ، وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاء، وَإِلَيْهِ يَعُود»اهـ، فإن ذلك يحمل العالم على التواضع لله عز وجل، فلا يعجب بما عنده من العلم، ولا يتكبر على غيره من الناس، فأجمل ما يتحلى به العالم التواضع، وأقبح ما يتصف به الكبر والعجب، قال عمر رضي الله عنه: « تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم».
    وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في «حلية طالب العلم»: «فالزم رحمك الله اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علما أو رفعة في ولاية فالزم ذلك تحرز سعادة عظمى، ومقاما يغبطك عليه الناس»اهـ.
    وانظر إلى تواضع الأئمة الكبار، فقد سئل أبو حنيفة: بم حصلت العلم العظيم؟ قال: «ما بخلت بالإفادة، ولا استنكفت عن الاستفادة»، وقال الحميدي -وهو تلميذ الشافعي-: «صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث»، وعن وكيع وابن عيينة والبخاري قالوا: « لا يكون المحدث كاملا أو الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه».
    5- الحرص على زيادة العلم:
    مما يستفاد من هذه الآية الكريمة الحرص على الاستكثار من العلم، والازدياد منه؛ لأن الآية تدل على تفاوت العلم والعلماء، ولاشك أن هذا التفاوت له أثره في الدنيا والآخرة لذا فإن المسلم عموما، وطالب العلم خصوصا يحرص على الاستكثار من العلم الشرعي، ولو لم يكن في شرف العلم إلا ما جاء من أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالزيادة من العلم لكفى به شرفا وفضلا كما قال عز وجل: {وقل رب زدني علما} قال الشيخ ابن سعدي: «أمره تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها: الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله، والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت»اهـ. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والقبول.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,389

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (44)

    لا تــؤذوا المسلمـين



    مفهوم التدين عند بعض الناس غير مكتمل الجوانب، وذلك لقلة علمهم وضعف بصيرتهم، فظنوا أن حقيقة التدين تكمن في كثرة الصلاة والصيام والذكر. وهذا لا شك من المطلوبات الدينية، إلا أنهم غفلوا عن جانب مهم في فقه التدين اعتـنت به النصوص الشرعية التي بينت قواعد الدين وركائزه، ألا وهو رعاية حق المسلم بالبر والإحسان وكف الأذى والإساءة، وهذا مجال رحب للتقرب إلى الله عز وجل لو كانوا يعلمون.
    فمن الآيات الكريمة في هذا الشأن قوله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}.
    قال ابن كثير: «أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآء مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، وقوله: {فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَهَذَا هُوَ الْبَهْت الْكَبِير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَل عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ عَلَى سَبِيل الْعَيْب وَالتَّنَقُّص لَهُمْ، ثم ذكر عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ أَيّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْد اللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْد اللَّه اِسْتِحْلال عِرْض اِمْرِئٍ مُسْلِم» ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
    ويعلل الشيخ ابن سعدي سبب استحقاق من يؤذي المؤمنين للإثم المبين بأنهم: «تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها».
    وأما الشيخ الطاهر بن عاشور فقد بـيّـن مناسبة هذه الآية لما قبلها وهي قوله عز وجل: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} فقال: «ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وعطف (المؤمنات) على (المؤمنين) للتصريح بمساواة الحكم وان كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
    والمراد بالأذى: أذى القول بقرينة قوله {فقد احتملوا بهتانا}؛ لأن البهتان من أنواع الأقوال، وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين، والمراد بالمبين العظيم القوي، أي أنه جرم من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه».
    ويوضح الشيخ ابن عثيمين حقيقة الأذى ومجالاته فيقول: «والأذية: هي أن تحاول أن تؤذي الشخص بما يتألم منه قلبيا، أو بما يتألم منه بدنيا، سواء كان ذلك بالسب أم بالشتم أم باختلاق الأشياء عليه أم بمحاولة حسده أم غير ذلك من الأشياء التي يتأذى بها المسلم.
    وهذا كله حرام؛ لأن الله تعالى بيـّن أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
    قال أهل العلم: وأنواع الأذى كثيرة، منها أن يؤذي جاره، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال، وإن لم تكن بينهم صداقة، بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
    وجاء في السنة المطهرة من الأحاديث الكثيرة ما يحذر من إيذاء المسلمين كقوله [: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
    قال ابن رجب:» قوله: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر».
    وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»، أخرجه الترمذي في باب ما جاء في تعظيم المؤمن.
    فهذا نهي صريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلمين، والفعل في سياق النهي يعم سائر أوجه الإيذاء البدني والمعنوي كما تقدم.
    ومما يؤكد حرمة إيذاء المسلم ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن الله تعالى يكره إيذاء المؤمن، فقد أخرج الترمذي والطبراني أن النبي [ قال: «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن».
    فكيف يجرؤ مسلم أن يفعل ما يكره الله عز وجل، ومن ذلك إيذاء المسلم، ولهذا قال الفضيل: «لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلباً أو خنزيراً بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق»؟ وقال قتادة: «إيّاكم وأذى المؤمن فإنّ الله يحوطه، ويغضب له».
    ومن عجيب ما ورد في النصوص الشرعية النهي عن إيذاء المسلم ولو بسب قريبه الكافر، فلما شكا عكرمة بن أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال له: ابن عدو الله، قام خطيبا فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تؤذوا مسلما بشتم كافر» أخرجه الحاكم والبيهقي.
    وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» أخرجه الترمذي، قال المناوي: «لا تسبوا أموات المسلمين فتؤذوا الأحياء من أقاربهم».
    والخلاصة كما يقول ابن رجب: «تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق».
    وانظر إلى هذا الخلق الرفيع الذي تصوره أقوال السلف، فعن يحيى بن معاذ قال: «ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة، إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه»، وقال الربيع بن خثيم: «الناس رجلان؛ مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله»، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه».
    فما أجدر المسلم أن يوسع أفقه ويزيد علمه فيعلم أن التدين ليس عبادة فحسب، وإنما هو قيام بحق الله عز وجل، وهو كذلك قيام بحقوق العباد، فكف الأذى عن الغير صدقة يتصدق بها العبد على نفسه، وهو قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,389

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (46)



    يقوم بعض الناس بالتهاون في أداء الواجبات أو التقصير في الالتزام بالقوانين أو احترام الأعراف العامة، فيكسر القانون، ويتمرد على العرف العام، ويقصر في أداء مسؤولياته الفردية تجاه المجتمع والآخرين، ويجعل لنفسه مسوغاً يتكئ عليه ألا وهو: كل الناس يفعلون ذلك، أو أن الدنيا كلها بهذه الصورة، وإذا أدى غيري واجبه قمت بأداء واجبي، أو يقوم بإلقاء اللوم والعتب على المسؤولين لأنهم مقصرون في أداء أعمالهم، ويتخذ من ذلك مسوّغاً لإهماله وتقصيره ومخالفاته.
    ونصوص الشريعة وقواعدها تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية، وهي كون الشخص مكلفاً بأداء ما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين بحسب وسعه وطاقته، وأن قيامه بتلك التكاليف إنما يكون بالإخلاص لله عز وجل، والإحسان في العمل؛ لأنه سيسأل عن أعماله وسيجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، إلا أن يعفو الله ويتجاوز.
    فقيام الفرد بمسؤولياته الدينية والدنيوية عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهي ليست مصالح متبادلة يقوم بها الشخص رداً على إحسان الدولة إليه أو مقابلة لجميل أسداه غيره إليه، والمسؤولية ليست فضلاً يمتن به المرء على أسرته أو مجتمعه أو دولته، فمسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه الآخرين أساسها إيمان الشخص بالله واليوم الآخر، وأداؤه لتلك المسؤوليات هو أثر لإيمانه، وانعكاس لدينه، وهذا ما يفرق بين المسؤولية في الإسلام والمسؤولية في النظم الغربية؛ حيث يكون أداء الإنسان لواجباته مناطاً برقابة القانون وحضوره، أما عند غيبة الرقيب فإن الشخص يتهرب من مسؤولياته والتزاماته.
    فمن الآيات الكريمة التي تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية قوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} قال الشيخ ابن سعدي: أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، قال الشيخ ابن سعدي: وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازماً له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله، وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فيه ما عمله من الخير والشر حاضراً صغيره وكبيره ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
    وقال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
    وأما ما جاء في السنة المطهرة مما يؤكد مبدأ المسؤولية الفردية فما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» متفق عليه.
    قال النووي: «قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء، فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته».اهـ
    قال الطيبي: «في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه».
    قال ابن حجر: وقال غيره:«دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل بالمأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته».
    فالأمر خطير؛ إذ إن كل إنسان سيسأل بمفرده عن أعماله ويجازى عليه، ولن ينفعه أو يدفع عنه أفعال الآخرين أو أعذارهم، وعليه أن يعد لكل تصرف جواباً يجيب به ربه، كما جاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر وزاد في آخره: «فأعدوا للمسألة جوابا» قالوا: وما جوابها؟ قال: «أعمال البر» قال ابن حجر: «أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وسنده حسن».اهـ
    فهذه المقولة: «إذا نظف كل منا أمام بيته صار الشارع نظيفاً» هي مثل بريطاني يصور حقيقة المسؤولية الفردية بصورة تقريبية واضحة وسهلة الفهم؛ حيث إن قيام كل فرد بما كلف به وحده دون انتظار للآخرين سيؤدي في النهاية إلى شيوع النظام واستقامة الأمور، وتقلص الفوضى وانحسار الفساد، أما أن ينتظر كل فرد من غيره أن يقوم بواجباته وواجبات غيره، فهنا تتعطل مصالح المجتمع، ويشيع الفساد، وينمو التواكل والأنانية، وتبرز صفة اللامبالاة وقلة الاهتمام، وهذا يتنافى مع ما قرره الدين من الأخوة الإيمانية في قوله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة}، وما أكده من تلاحم المجتمع وأخذه على أيدي المقصرين والمهملين حتى لا ينهار المجتمع بسبب سوء تصرفهم وقلة فهمهم كما قال صلىالله عليه وسلم :«‏مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» أخرجه البخاري، فالحديث يؤكد أهمية تعاون الجميع لحفظ بقاء المجتمع وسلامته، وأن إهمال البعض أو تقصيره وحتى سلبيته قد يكون سبباً لهلاك المجتمع وفوات مصالحه، فأهم الأمور أن يقوم الفرد بما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين، إخلاصاً لله تعالى وإحسانا للغير، وإتقاناً للعمل، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,389

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (46)

    إن خير من استأجرت القوي الأمين



    قال عز وجل: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}. ذكر الشيخ ابن سعدي أن الله -عز وجل- يبين في هذه الآية الكريمة عظم شأن الأمانة التي ائتمن عليها المكلفون؛ حيث عرضها- سبحانه- على المخلوقات العظيمة السموات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، فأبين أن يحملنها خوفاً ألا يقمن بحقها، وعرضها عز وجل على الإنسان بذلك الشرط، وهو إن قام بها أجر وإن لم يؤدها عوقب فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله، فانقسم الناس- بحسب قيامهم بها وعدمه - إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا، فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
    والأمانة مفهوم واسع يشمل أمورا كثيرة يغفل عنها بعض الناس، فالأمانة تطلق على الوفاء فهي ضد الخيانة، كما تطلق على الوديعة، والمراد بها هنا كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولاً بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله.
    وفي القرآن الكريم توجيه بديع إلى أمانة اختيار الأكفاء لتولي مصالح المسلمين، وبيان أسس الولاية وقوامها، وذلك فيما قصه الله عز وجل من قصة موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وسقى للمرأتين فقالت إحداهما لأبيها: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
    قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية الكريمة: «أي: اجعله أجيراً عندك، يرعى الغنم ويسقيها، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً، بإجارة أو غيرها، فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك؛ لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك وجه اللّه تعالى».
    ويبين الشيخ الطاهر بن عاشور أن هذه الكلمة من تلك المرأة صارت مثلاً سائراً، وقاعدة قرآنية يرجع إليها عند تولي المناصب العامة فيقول: «وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره؛ أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة دون تخلف، فالتعريف باللام في: {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم، والخطاب في: {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً».
    ويوضح شيخ الإسلام أن الأمانة والقوة أمران نسبيان يختلفان بحسب موضوع الولاية وخطرها، وأنه لا يلزم من صلاحية شخص لمكان أن يصلح لكل مكان، بل لابد من النظر إلى طبيعة الولاية وقدرة الشخص على تحقيق مقاصدها، فيقول رحمه الله في السياسة الشرعية: والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
    والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألاّ يشترى بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ولهذا قال النبي [: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة» رواه أهل السنن.
    اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:«اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة».
    فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً وإن كان الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها».
    وهنا لابد من الإخلاص لله تعالى في اختيار من يلي أمور المسلمين، والتجرد عن اتباع الهوى على اختلاف صوره، والنظر إلى كفاءة الإنسان وقدرته على تحقيق مقاصد الولاية التي سيتولاها، فليس كل صالح في نفسه يكون صالحاً في ولايته، كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو؛ أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
    فالاختيار للقرابة أو للصداقة أو للرشوة أو لغيرها من المعايير غير الموضوعية يوقع الإنسان تحت مظلة الخيانة لله تعالى ولرسوله وللمسلمين كما جاء في الأثر: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله» وفي رواية: «من قلـد رجلاً عملاً على عصابة أي: جماعة من الناس وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» رواه الحاكم، وقال عمر رضي الله عنه : «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين».



    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,389

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن «47»الدال على الخير كفاعله



    من رحمة الله عز وجل بعباده أن شرع لهم من العبادات ما يناسب قدراتهم، فلم يكلفهم فوق طاقتهم، ولم يحملهم إلا وسعهم كما قال عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ومن رحمته أيضا أنه فتح لهم أبوابا عديدة لكسب الحسنات وتحصيل الدرجات تتناسب مع عجزهم وضعفهم وقصر أعمارهم واختلاف أحوالهم، فأبواب الخيرات متنوعة، ودرجات القرب متعددة، تناسب كل شخص بحسب عمره وعلمه ونوعه وصحته وفراغه كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}.
    ومن هذه الأبواب العديدة لكسب الحسنات ورفع الدرجات «باب الأجور المتراكبة، والحسنات المتضاعفة»، فقد دلت النصوص الشرعية على أن المسلم قد يبذل جهداً محدوداً إلا أنه يعود عليه بحسنات مضاعفة، وأجور غير متناهية، وهذا من عظمة الإسلام، ورحمة الله تعالى بعباده.
    فمن هذه الأدلة ما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جهـّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»، قال النووي: «أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير من قضاء حاجة لهم وإنفاق عليهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته، وفي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم».
    وعنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ» رواهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: «زيادة لكم في أعمالكم». فالوصية بالخيرات من أبواب الخير المستمر الذي يجري ثوابه على المسلم ولو بعد موته وانقطاع عمله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وإنعامه عليهم.
    وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» رواه الترمذي، فالمسلم الذي يتبرع بإطعام الصائم حين فطره يحصل له مثل أجر الصائم الذي أتعب نفسه وأظمأ جوارحه.
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَكْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه، وهذه الأمور المذكورة في الحديث مما يبقى أثرها بعد موت فاعلها، ولهذا يظل قلم الحسنات جارياً للفاعل ما دام ذلك الأثر باقياً لأنه تسبب في وجودها وبقاء أثرها النافع لمدد طويلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
    وغيرها من نصوص تؤكد هذا المبدأ الشرعي، وتقرر هذا الباب العظيم من أبواب كسب الثواب وتحصيل الأجور والحسنات.
    ومن هذا الباب ما جاء من أحاديث تدل على أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يستحمله، فلم يجد عنده ما يتحمله، فدله على آخر فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الدال على الخير كفاعله»، ومعنى قوله: «يستحمله» أي: يطلب منه المركب، وقوله «فحمله» أي: أعطاه المركب.
    وأخرج مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، ومعنى قوله: «من دل» أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة «على خير» أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب «فله» أي فللدال «مثل أجر فاعله» أي من غير أن ينقص من أجره شيء.
    قال الإمام النووي في شرحه على هذا الحديث: «فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم، ووظائف العبادات ولاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم، والمراد بـ«مثل أجر فاعله» أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء».
    وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَعَلَيْهِ مِن الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ اتَّبَعَ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، رواه مسلم.
    قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث فيه الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعظم جرم الداعي وعقوبته، والهدى هو العلم النافع والعمل الصالح، فكل من علم علما أو وجـّه المتعلمين إلى سلوك طريق يحصل لهم فيها علم فهو داع إلى الهدى، كل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة فهو داع إلى الهدى.
    وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها على الدين فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره فهو داع إلى الهدى.
    وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع، فهو داخل في هذا النص، وعكس ذلك كله الداعي إلى الضلالة.
    فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين، والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
    وكل من عاون غيره على البر والتقوى، فهو من الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الداعين إلى الضلالة».
    ولا يخفى أن الله عز وجل قد أمرنا بالتعاون على البر والتقوى فقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، فالدلالة على الخير، والإرشاد إلى المعروف، مندرج تحت التعاون على البر، والقائم بذلك مع امتثاله لأمر الله تعالى فهو ساع في باب الأجور المضاعفة والحسنات المركبة، وفقنا الله وإياكم للفقه في الدين، والعمل بما فيه من الهدي القويم.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,389

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (48)

    عند الصباح يحمد القوم السُّرَى




    من الأمثال العربية المشهورة قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السُّرَى»، والسُّرَى هو سَيْر الليل خاصة، ومعنى المثل: أن الذي يمشي بالليل يَفرَح بمسِيرِه إذا طَلَع النهار، بِخلاف الذي ينام ليله، فإنه يَندم إذا طَلَع النهار، فهو مثل كما يقول الميداني في (مجمع الأمثال) يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
    والنصوص الشرعية قد دلت على هذا المعنى أكمل دلالة، وأرشدت إليه بأوضح عبارة، تحث المؤمنين على المبادرة إلى الطاعات، والمسارعة في الخيرات، واغتنام الأوقات؛ لتحصل لهم البركات والحسنات، ولينجوا من الندم والحسرات .
    قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته، وإدراك جنته، التي أعدها للمتقين».
    وقال سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك بالسعي في أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع؛ ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك فقال: {وجنة عرضها كعرض السماء الأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} والإيمان بالله ورسله يدخل فيه أصول الدين وفروعه».
    ومن النصوص القرآنية في هذا المعنى قوله عز وجل: {فاستبقوا الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «الأمر بالاستباق إلى الخيرات، قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات؛ فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل».
    ولا تزال الآيات القرآنية تتوالى في الحض على فعل الخيرات والمبادرة إلى الصالحات فقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال».
    وقال سبحانه: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس، وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة، أن يمضي على الحازم وقت من أوقاته وهو غير مشتغل بالعمل، الذي يقرب لهذه الدار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟!».
    ومدح الله تعالى المؤمنين بأنهم: {يسارعون في الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه أمامهم ويمنة ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون الزلفى عند ربهم، فنافسوهم، ولما كان المسابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: {وهم لها سابقون}».
    ومن الآيات القرآنية التي تطمئن المؤمن على حسن عاقبته وطيب مآله قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}، قال القاسمي: «ومن أراد الآخرة، ولها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء».
    ويصور النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلم في سعيه إلى الله والدار الآخرة كالمسافر الذي يقطع المراحل ويرغب في الوصول سالما، ويخشى من الانقطاع أو التأخر فقال صلى الله عليه وسلم : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي، قال الطيبي في شرح الحديث:» هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره، وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق بأعوانه، ثم أرشد إلى أن سلوك طريق الآخرة صعب، وتحصيل الآخرة متعسر لا يحصل بأدنى سعي فقال: «ألا» بالتخفيف للتنبيه «إن سلعة الله» أي من متاعه من نعيم الجنة «غالية» أي رفيعة القدر «ألا إن سلعة الله الجنة» يعني ثمنها الأعمال الباقية المشار إليها بقوله سبحانه: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}.
    وعلى المسلم في سعيه إلى الآخرة ألا يعتمد على نفسه، ولا يركن إلى جهده، بل يتوكل على الله تعالى، ويعلق قلبه ورجاءه به كما قال صلى الله عليه وسلم : «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة».
    ويحثنا عمر رضي الله عنه على علو الهمة وصدق العزيمة في السعي للآخرة فقال: «لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم».
    وضرب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أروع الأمثلة في الاجتهاد ولاسيما مع التقدم في العمر، فكان يصوم حتى يعود كالخلال (العود الذي يخلل به الأسنان) من النحول فقيل له: «لو أجممت نفسك؟ أي: تركتها تستريح فقال: هيهات! إنما يسبق من الخيل المضمرة»، وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة.
    قال ابن القيم: «وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لاشقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده ذلك لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله».
    فلا شك أنه عند الصباح يحمد القوم السُّرَى، فيحمد المسلم ربه على توفيقه حين يرى ما أعده له مما لا يخطر له على بال ولا فكر؛ ولهذا يقول أهل الجنة إذا رأوا ما منّ الله عليهم وأكرمهم به: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، جعلنا الله وإياكم منهم، وبالله التوفيق .


    اعداد: د.وليد خالد الربيع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •