بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمي وعلى آله وصحبه.
أما بعد. فهذه كلمة في اشتراط القطع واليقين في التكفير
اشتراط القطع في باب التكفير والمنع منه إلا بقاطع وأنه لا مجال للظن الغالب في مسائل التكفير قد كثر القول به في المنتديات ولم أجد ذكر دليل عليه. وهذه المسألة في الأصل - حسب علمي - من أبحاث أهل البدع كالمرجئة والمعتزلة والشيعة وأكثر المتكلمين.
والتحقيق أن التكفير حكم من الأحكام الشرعية، قد يكون مقطوعا كما يكون مظنونا؛ فمن أردنا القطع بكفره يقينا احتِيْجَ إلى دليله، ومن لا فلا يشترط فيه القاطع من نص أو إجماع.
وإلا لزم من القول بذلك حسم باب التكفير إلا بآية قطعية الدلالة أو بحديث متواتر قطعي الدلالة فتسقط أخبار الآحاد والأقسية الفرعية في هذا الباب ويستشكل على هذا أيضا إثبات حد الردة بالشهادة وبالإقرار.
وقد يكون من فروعها المنع من التكفير إلا في المسائل الإجماعية، وهو مذهب الفلاسفة أيضا المنتسبين إلى الإسلام كابن رشد كما في [تهافت التهافت ص370].
أنكر على الغزالي تكفيره للفلاسفة بمسائل ليست إجماعية مع الخلاف في تكفير مخالف الإجماع. [تهافت الفلاسفة ص225].
وانظر إلى ردّ الإمام ابن دقيق العيد على ابن رشد الحفيد وقوله:«وهذه سقطة راسبة وعثرة لا لعا لها». [شرح الإلمام 4/316]
والصواب:أن التكفير منبي على الدليل الشرعي إجماعا كان أو غيره من الأدلة المعتبرة وعلى هذا جماهير السلف وأصحاب الحديث.
وهذه البدعة الإرجائية في إنكار التكفير إلا في المسائل الاجماعية يتبناها أيضا كثير من الدعاة باختلاف مشاربهم وأحزابهم فلزم التنبيه عليها باختصار.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله:« واختلفت المرجئة في الكفر ما هو؟ وهم ست فرق:
الفرقة الأولى: تزعم أن الكفر خصلة واحدة وبالقلب تكون وهو الجهل بالله وهؤلاء هم الجهمية.
والفرقة الثانية: يزعمون أن الكفر خصال كثيرة ويكون بالقلب وبغير القلب والجهل بالله كفر وبالقلب يكون وكذلك البغض لله والاستكبار عليه وكذلك التكذيب بالله وبرسله بالقلب وباللسان وكذلك الجحود لهم والإنكار لهم وسبّهم وكذلك الاستخفاف بالله ورسله كفر وكذلك ترك التوحيد إلى اعتقاد التثنية والتثليث أو ما هو أكثر من ذلك كفر. وزعم قائل هذا القول أن الكفر يكون بالقلب وباللسان دون غيرهما من الجوارج وكذلك الإيمان وزعم قائل هذا القول أن قاتل النبي صلى الله عليه وسلم ولاطمه لم يكفر من أجل القتل واللطمة ولكن من أجل الاستخفاف، وكذلك تارك الصلاة مستخفا لتركها إنما يكفر بالاستحلال لتركها لا بتركها. وزعم صاحب هذا القول: أن من استحلّ ما حرّم الله مما نصّ الرسول على تحريمه وأجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر بالله وأن استحلال ذلك كفر، وكذلك من قال قولا واعتقد عقدا أجمع المسلمون على إكفار فاعله،وكل قول أجمعوا على إكفار قائله كفر بأي جارجة كان الفعل.
والفرقة الثالثة منهم: يزعمون أن الكفر بالله هو التكذيب والجحد له والإنكار له باللسان،وأن الكفر لا يكون إلا باللسان دون غيره من الجوارح وهذا قول محمد بن كرام وأصحابه.
والفرقة الرابعة منهم: يزعمون أن الكفر هو الجحود والإنكار والستر والتغطية وأن الكفر يكون بالقلب وباللسان.
والفرقة الخامسة منهم: أصحاب أبي شمر وقد تقدمت حكاية في إكفار من ردّ قولهم في التوحيد والقدر.
والفرقة السادسة: أصحاب محمد بن شبيب وقد ذكرنا قولهم في الإيمان.
وأكثر المرجئة لا يكفّرون أحداً من المتأوّلين ولا يكفّرون إلا من اجتمعت الأمة على إكفاره». [مقالات الإسلاميين (1/225) وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية(5/359)]
نعم التكفير حكم شرعي يكون بالدليل من كتابٍ أوسنةٍ أو إجماعٍ صحيحٍ أو قياس صريحٍ فمناطه الدليل. والإجماع منه فلا دليل على الحصر لقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان».
لكن يدرك تارة باليقين وأخرى بالظن الغالب وتارة يتردد فيه.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي:«ولا ينبغي أن يظنّ أن التكفير ونفيه ينبغي أن يدرك قطعا في كل مقام، بل التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدم والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمآخذ سائر الأحكام الشرعية، فتارة يدرك بيقين وتارة بظن غالب، وتارة يتردّد فيه، ومهما حصل تردد فالوقف فيه عن التكفير أولى» [فيصل التفرقة بين الزندقة والإسلام ص147].ونقله شيخ الإسلام في السبعينية (بغية المرتاد)
ويقول الإمام ابن الوزير اليماني في التكفير باللازم أو المآل:«وعليه مدار أكثر التكفير وهو عندي في غاية الضعف لما تقدم من اشتراط القطع في التكفير عند المعتزلة والشيعة وطوائف من الأمة وهو كذلك في حق من أراد القطع بالكفر». العواصم والقواصم (4/368)
ويقول رحمه الله: «فإن قيل فما تقول في من كفر مسلما متأولا أو مجترئا هل يكفر المكفّر لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا قال المسلم لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما".
قلت: أما المعتزلة والشيعة فتمنع من تكفيره لأنّ الحديث ظنّيّ وإن كان صحيحا ـ
أما أهل الحديث فقد قال البخاري في الصحيح: باب: من كفّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال. واجتج في الباب بحديث ابن عمر وأبي هريرة المقدم:( فقد باء أحدهما) وبحديث ثابت بن الضحاك: ( من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال).ثم قال: باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا وأورد فيه حديث عمر في قوله لحاطب: إنه منافق وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ( وما يدريك..) وبحديث جابر بقول معاذ للمتجوز في صلاته خلفَه: أنه منافق. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين قال ذلك: « أفتان أنت». وبحديث أبي هريرة:« من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزّى فليقل: لا إله إلا الله ». وبحديث ابن عمر:« إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أدرك ركبا فيهم عمر وهو يحلف بأبيه.اهـ
قلت: ويدل على هذا أيضا حديث عتبان بن مالك وقول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم في رجل: إنه منافق فقال:« أليس يشهد أن لا إله إلا الله». الحديث ] إلخ [العواصم 4/209 – 212].
ويقول رحمه الله في اشتراط القطع للتكفير والتفسيق:
«وهذا الكلام الذي ذكرته في شرائط التكفير والتفسيق هو على قواعد المعتزلة والشيعة وجل سائر المتكلمين وهو عندي صحيح في من يراد القطعُ بكفره. وأما من لا يراد القطع بكفره ففيه لي نظر ليس هذا موضع ذكره ».[ العواصم والقواصم 4/182].
قرر رحمه الله أن اشتراط القطع في التكفير لا يجري على قواعد أهل الحديث أهل السنة والجماعة.
وبالجملة: هذا الموضوع طرحته للاستفادة من الأخوة الكرام ولتنبيه البعض على غائلة هذا الشرط وبالله تعالى التوفيق.