ثم لو صحّ ما بطلت الرواية التي فيها "أيكم ركع دون الصف"فيكون النهي عن الركوع دون الصف, و أيضا عن السعي, و يمكن أن يقال لو صحت هذه الرواية لكانت اختصارا من الراوي لقول النبي صلى الله عليه و سلم"أيكم ركع دون الصف".
الاعتراض الثالث:
احتجّوا بما رواه علي بن حجر عن أبي بكرة أنّه كان يخرج من بيته فيجد الناس قد ركعوا, فيركع معهم, ثمّ يدرج راكعا حتّى يدخل في الصفّ, ثمّ يعتدّ بها"9
و الحديث صحيح, إلّا أنّه ليس لهم متعلّق به لوجوه:
أولا:
أن الحجّة فيما روى الراوي عن النبي صلى الله عليه و سلّم و ليس فيما فعله الرّاوي.
ثانيا:
أنّ فهم الصحابي ليس حجّة, فحتى لو فهم الصحابي أن النهي كان عن الإسراع,فالحجّة في ما قصده النبي صلى الله عليه و سلّم , و هذا لا يعرف إلا من قوله أو فعله صلى الله عليه و سلّم.
ثالثا:
أن القول بأنّ راوي الحديث أدرى بمرويّه من غيره , ليس على الإطلاق فهو غير صحيح,
فلو أنّ الراوي روى حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم, ما كان لنا أن نتوقف في الأخذ بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتبين لنا ماذا فعل الراوي في تلك المسألة,فهذا دليل على أن فعل الراوي لا ينقص مرتبة في حجية ما أتى به النبي صلى الله عليه و سلم الذي نقله ذلك الراوي.
رابعا:
الذي رواه عن أبي بكرة هو القاسم بن ربيعة,و القاسم لم يخبر هل ذلك الفعل كان قبل أن ينهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن العود أم لا.
و فيما يلي ما ذكره ابن حزم حول مخالفة الصحابي لما رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم, فلقد قال في الإحكام:
و نحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه و سلّم إذا بلغنا : هذا عهد نبينا إلينا, فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث, ثمّ روي عنه مخالفته إيّاه أنّه إنّما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه, فلمّا حدث بما بلغه, لا يحل أن يظن بالصّاحب غير هذا و هذا نص ما ذكرنا عن ابن عمر ببيان لا يخفى, و أنّهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث.
و من حمل ذلك على غير ما قلناه فإنّه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين, و قد أعاذهم الله تعالى منهما, كلاهما ضلال و فسق, و هما إما المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه و سلم و هذا لا يحل لأحد, و لا يحل أن يظن بهم, و إمّا أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنّا و يحدّثوا بالمنسوخ, و يكتموا عنّا النّاسخ. و هذه الصفة كفر من فاعلها و تلبيس في الدين, و لا ينسب هذا إليهم إلّا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب, فبطل ظنّهم الفاسد, و صحّ قولنا و الحمد لله ربّ العالمين.
و لا سبيل إلى وجه ثالث أصلا إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضا. فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم رضي الله عنهم ظن, و روايتهم على النبي صلى الله عليه و سلم يقين, و لا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن. انتهى
و قال قبل هذا :و وجدنا الصّاحب من الصّحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره.انتهى.
قلت: ذكر ابن حزم كل الوجوه التي من أجلها يخالف الصحابي مارواه عن النبي صلى الله عليه و سلّم,
و هكذا يقال في المسألة التي بين أيدينا,
لعل ما ذكره القاسم عن أبي بكرة هي حكاية فعله قبل أن ينهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك,
أو لعله نسي نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن فعل ذلك,
أو أنه تأول ذلك و حمله على النهي عن الإسراع, و ربما تأوله و حمله على النهي عن التأخير , و هذه تأويلات لم يأمرنا الله عز و جل باتباعها,و نحن على يقين من أن أبا بكرة لم يكتم علينا شيئا ذكره النبي صلى الله عليه و سلم له, و كله بين أيدينا, فليس لأبي بكرة سرا لم يذكره لأحد, و الذي سمعه أبو بكرة من النبي صلى الله عليه و سلم, هو حاضر بين أيدينا و كأننا نحن كذلك سمعناه من النبي صلى الله عليه و سلم,و إذ كان هذا فتأويل أبي بكرة ليس حجة على أحد و إنّما الحجة فيما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكرة الذي بدوره نقله إلينا و لم يكتم منه شيئا و لم يخبئ سرا.
واحتجّوا بما رواه البيهقي في سننه :
من طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول للناس:إذا دخل أحدكم المسجد و الناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعا حتى يدخل في الصفّ فإنّ ذلك السنة قال عطاء و قد رأيته هو يفعل ذلك10.
و هذا لا متعلق لهم به لوجوه:
أولا:لا حجة في من دون رسول الله صلى الله عليه و سلم,و لو كان لابن الزبير نص من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كان ليكتمه و لا يظن هذا بالصّحابة رضوان الله عليهم
ثانيا:ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج,كان يدلّس(انظر ميزان الإعتدال) و لم يصرّح بالسماع في هذا الأثر
و احتجّوا بما رواه البيهقي في سننه:
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, قال: دخل زيد بن ثابت المسجد و الإمام راكع فركع دون الصفّ حتى استوى في الصفّ11
و هذا لا حجة فيه, إذ هو عن دون رسول الله صلى الله عليه و سلم, و أبو أمامة لم يكن له نص عن النبي صلى الله عليه و سلم , و لو كان عنده نص لاحتج بفعله لا بغيره.
و إذ كانت كل حجج المخالفين باطلة كان قول النبي صلى الله عليه وسلم "ولا تعد" لمن سأل عن فاعل الركوع دون الصف, دلالة التحريم عن فعل ذلك الفعل , لا يوهن هذا التحريم حديث ضعيف و لا فعل صحابي و لا ظنّ.
و يؤيّد هذا ما رواه الطحاوي:حدّثنا ابن أبي داود, قال: ثنا المقدمي, قال: حدّثني عمر بن علي, قال: حدّثنا ابن عجلان عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلّم"إذا أتى أحدكم الصّلاة فلا يركع دون الصّف, حتّى يأخذ مكانه من الصّفّ12.
المقدمي هو محمّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء ابن مقدّم المقدّمي, و ثّقه أبو زرعة, عن يحيى بن معين:صدوق, قال أبو حاتم:صالح الحديث محلّه الصدق13
عمر بن علي هو عمر بن علي بن عطاء بن مقدّم المقدّمي, رماه بالتدليس أحمد ابن حنبل و يحيى بن معين و محمد بن سعد, و عفّان بن مسلم,إلا أن محمّد بن سعد رغم أنه وثّقه ذكر أنّه كان يدلّس تدليسا شديا يقول : سمعت و حدّثنا, ثمّ يسكت ثمّ يقول: هشام بن عروة, و الأعمش, أمّا عفّان بن مسلم ذكر أنه لم يكن يقبل منه حتّى يقول حدّثنا14.
محمد بن عجلان,وثّقه أحمد بن حنبل و يحيى بن معين, و أبو حاتم و النسائي15
و الحمد لله رب العالمين.