السؤال:
ما دليل العمل بغلبة الظن؟
الجواب:
الأدلة على ذلك لا تكاد تحصى، ولا تغتر بمن يخالف في ذلك.
والعقلاء متفقون على تقديم الراجح على المرجوح، ولا يشك عاقل أن ما يغلب على ظنه أرجح مما لا يغلب على ظنه، وإذا كان أمام الخائف طريقان للهرب، وغلب على ظنه أن في أحدهما النجاة دون الآخر، فلا يتردد ذو عقل سليم في سلوك هذا الطريق.
وينبغي أن يفرق بين مسألتين:
- الأولى: (العمل في مسألة بالظن الغالب) فهذا ظني لا قطعي، فلا يمتنع أن يظهر بعد ذلك ما يخالف هذا الظن.
- الثانية: (حكم العمل بالظن الغالب) هو أنه واجب، وهذا أمر قطعي لا ظني؛ لأنه مستند إلى أمر مقطوع به، وهو استقراء جزئيات الشريعة.
ولا يصح الكلام في هذه المسألة بأدلة جزئية؛ لأن كل دليل بانفراده يمكن الطعن فيه.
وكذلك فإن كل دليل بانفراده إنما يفيد الحكم بغلبة الظن، فكيف يستدل به على العمل بغلبة الظن؟ هذ دور.
وهذه هي طريقة من خالف في هذه المسألة، فإنه يأتي على كل دليل فيطعن فيه بانفراده، ويظن بذلك أنه يطعن في مجموع الأدلة.
ويشبه ذلك أيضا طعنُ من طعن في حجية الإجماع، أو في حجية القياس.
وهو كلام باطل واضح البطلان؛ لأنه ما من دليل إلا ويمكن الطعن فيه بوجه من الوجوه، ولكن انضمام الأدلة إلى بعضها، ومجموع القرائن قد يفيد القطع بأن المعنى الفلاني مراد أو غير مراد.
ومن تأمل النصوص القرآنية، وأقوال النبي ، وأحوال الصحابة وأقوالهم، لم يكد يشك في ذلك، إلا إن أتي من سوء فهمه.
ولو لم يكن العمل بغلبة الظن جائزا لم يكن لاختلاف الصحابة وجه؛ لأنهم اختلفوا في كثير من المسائل، ولم ينكر أحد منهم على الآخر اجتهاده، ولا قال واحد منهم للآخر: كيف تعمل بغلبة الظن.
وهكذا كان التابعون ثم أتباعهم من أهل العلم إلى يومنا هذا.
ولو لم يكن العمل بغلبة الظن جائزا لم يمكن الأخذ بخبر الواحد؛ لاحتمال الخطأ والسهو والنسيان والكذب عليه.
ومع ذلك فلا يفوتني أن أذكر بعض ما يحضرني من الأدلة على ذلك:
فمثلا من القرآن:
- {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}
- {فاتقوا الله ما استطعتم}
- {فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله}
- {وقال للذي ظن أنه ناج منهما}
- {وظن داود أنما فتناه فاستغفر}
- {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم}
- {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء}
- {إن بعض الظن إثم}
- {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون}
- {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} [العلم هنا هو الظن الغالب كما هو واضح]
- {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}
.......... إلخ
ومن السنة:
- لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته
- لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة
- الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم
- إني أسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه
- حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته [في الاغتسال]
- ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنها ستكتب عليكم [أي قيام رمضان]
........... إلخ
ومن أحوال الصحابة وأقوالهم:
- أبو بكر: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا ....
- عمر: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
- مسألة العول واتفاق الصحابة عليها.
- عثمان [عن الأنفال والتوبة]: فظننت أنها منها [الأثر فيه مقال والأكثرون على قبوله]
- عمر: أيكم يحفظ قول رسول الله في الفتنة؟
- عمر: ما ظننتَ أن عندي من علم فسلني عنه
- عائشة: فظننت أنه [الرسول] لا يكره أن أنتصر منها [زينب]
........... إلخ
والله تعالى أعلى وأعلم
ويضاف إلى ما سبق أيضا أن الطاعن في العمل بغلبة الظن إنما يستند إلى دعوى، وهي أن (الأدلة الظنية لا تستفيد قوة باجتماعها).
فيقال له:
الألفاظ اللغوية التي نستعملها في كلامنا، أو التي وردت في النصوص الشرعية، كيف عرفنا معانيها؟
إن قال بالنقل عن العرب، قلنا: هذا النقل إذا نظرنا إلى أفراده فردا فردا وجدناها ظنية لا يمكن أن تفيد القطع.
وحينئذ فإما أن يقول: إن مجموعها لا يفيد القطع أيضا، فيلزمه أن لا يستفاد القطع في شيء من نصوص الشريعة مطلقا، وفي هذ إبطال الشريعة.
وإما أن يقول: إن كل فرد منها قد يفيد القطع بانفراده، وحينئذ يلزمه أحد أمرين:
- إما أن يقبل نظائر ما يفيد القطع عنده من الأدلة السابق ذكرها.
- وإما أن يرجع عن إفادتها القطع إذا كان ما يناظرها من الأدلة السابقة لا يفيد القطع.
وفي الحالين يلزمه العمل بغلبة الظن.
قال بعض الإخوة: وهل يدخل في ذلك تصحيح وتضعيف الأحاديث بغلبة الظن؟
والجواب: بل هذا من أولى ما يدخل في هذا الباب؛ لأن طريقة أهل العلم بالحديث معروفة أنهم يحكمون على صحة الأحاديث وضعفها بغلبة الظن، وكذلك يحكمون على توثيق الرواة وتضعيفهم بغلبة الظن، وكذلك يحكمون على الاتصال والانقطاع بغلبة الظن، وكذلك يحكمون على تعليل الحديث أو اضطرابه أو نحو ذلك بغلبة الظن.
وإذا تصفحت كلام نقاد الحديث ظهر لك هذا الأمر واضحا جليا، فإنك لا يمكنك أن تجد دليلا قطعيا على ثقة كل راو راو من الثقات.
وعندما يختلف الرواة في حديث مثلا، فيرفعه بعضهم ويوقفه أكثرهم يحكم النقاد بأن الصواب وقف الحديث، وهذا حكم بغلبة الظن المبني على ما رواه الأكثر، ولا يمتنع أن يكون الصواب مع الأقل، ولكنه غيب لا نعلمه إلا بقرينة خارجة كأن يكون الأقل على درجة عالية من الثقة والإتقان دون الأكثر، وسواء رجحت هذا أو هذا ففي الحالين قد حكمت بغلبة الظن.
والذين يطردون الباب في قبول زيادة الثقة مطلقا إنما يحكمون بغلبة الظن؛ لأنهم لا يقطعون بأن هذا الثقة لا يمكن أن يخطئ، وإنما يغلب على ظنهم أن أكثر حال الثقة أن لا يخطئ، والذين يرفضون زيادة الثقة إن خالفت الأكثر يحكمون بغلبة الظن أيضا؛ لأنهم يقولون: احتمال صدور الخطأ من واحد أكبر من احتمال صدوره من الجمع، فعلى كلا الحالين قد حكمت بغلبة الظن.
والذين يحسنون الأحاديث بالشواهد والمتابعات يحكمون بغلبة الظن؛ لأن الراوي الضعيف إذا كان هو مظنة للخطأ، فإن هذا الظن يضعف إذا تابعه راو آخر، ويغلب على الظن حينئذ أن يكون للحديث أصل، وهذا حكم بغلبة الظن.
والذين يردون حديث الراوي خفيف الضبط إذا تفرد عن إمام مشهور لأن أصحابه المعروفين عنه لم يرووا ذلك؛ إنما يحكمون بغلبة الظن؛ لأننا لا نستطيع أن نقطع بخطئه في نفس الأمر، بل من المحتمل أن يكون قاله، ولكن هذا الاحتمال بعيد، والغالب على الظن عكسه، وهذا عمل بغلبة الظن.
فحاصل الكلام أن الحكم بغلبة الظن أمر لا بد منه في جميع العلوم، وفي علوم الحديث خصوصا؛ لأن معظم قواعد هذا العلم مبنية على غلبة الظن، والاستقراء غير التام، وتغليب الأكثر على الأقل.
وانظر هذا الرابط لمزيد الفائدة:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=108517
والله تعالى أعلم.