الفاقة بين المضريين والصوماليين
روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه يقول: ( كنّا في صدرِ النهارِ عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قومٌ عراةٌ مجتابي النّمار أو العباء ، متقلّدي السّيوف ، عامّتهم من مضرَ ، بل كلهم من مضر ، فتمعّر وجهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِما رأى بهم من الفاقةِ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذّن وأقام فصلّى ، ثم خطب فقال:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة -إلى آخر الآية- إن الله كان عليكم رقيباً ،والآية التي في الحشر: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس...
تصدّق رجلٌ من دينارهِ ، من درهمهِ ، من ثوبهِ ، من صاعِ برهِ من صاعِ تمرهِ حتى قال " ولو بشقّ تمرة " .
قال : فجاء رجلٌ من الأنصارِ بصرةٍ كادت كفهُ تعجزُ عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناسُ حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب. حتى رأيتُ وجهَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يتهللُ كأنه مُذْهَبَة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
من سنَّ في الإسلامِ سنةً حسنةً فله أجرها وأجرُ من عملَ بها من بعده من غير أن ينقصُ من أجورهم شيءٌ ، ومن سنَ في الإسلامِ سنةً سيئةً كانَ عليه وزرها ووزرُ من عمل بها من بعده من غير أن ينقصُ من أوزارهم شيء ). رواه مسلم .
إذا دلَ الحديثُ على شيءٍ فإنّما يدلُ على إنسانيةِ الرسولِ الكاملةِ والمشتملةِ على الرحمةِ والشفقةِ بهؤلاء المضريين.
فهاهيا أحاسيسهُ ومشاعرهُ تتدفقُ انفعالاً بالغاً لهذا المشهد الذي أثّرَ على لونِ وجههِ الشريف، فدخلَ إلى حجرته لعله يلقى ما يواسيهم به، فلمّا لم يجد؛ قام خطيباً في صحبه الكرام يحثهم ويذكرهم أن يسدوا حاجة المضريين، وأن يساهموا في سبيل الله ما يدفعُ عنهم عذاب الجحيم.
ولك أن تلحظ حكمته في الوعظ والتذكير؛ إذ بدأ بآية النساء : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة...) الآية؛ ليشعرهم بالأصل المشترك الذي انبثوا منه.
ثم أردف بآية الحشر : (...يا أيها الذين آمنوا...) الآية؛ليخصهم بوصف الإيمان؛ أصل الأخوة وقاعدته.
ولم يقتصر وعظه عليه الصلاة والسلام على نوع من أنواع الصدقة لا كيّفاً ولا كمّاً ؛بل تدرج نزولاً مع المخاطبين حتى ولو بشق تمره؛ ليرفع الحرج عمّن يتَقالّها بين جموع الناس؛ ولكي يربي أصحابه على المسارعة في الخيرات بقدر وسعهم وطاقتهم.
هنالك تسابق المتسابقون، وتسارع الخيّرون، فكان قَصَبَ السَّبْقِ لرجل من الأنصار عجزت كفه أن تحمل صدقته؛ ثم تتابع الناس على طريق الأنصاري في مشهدٍ مثيرٍ؛ جعلَ وجهَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يتلأْلأُ من الفرح والسرور.
فأيُّنا الأنصاري في فاقة الصوماليين ؟ وأيُّنا المسارع في رفع الضر عن المنكوبين ؟.