فصل فى ظهور المذاهب الفقهية وتطورها وازدهارها
توطئة:
كان نتيجة للفتوحات الإسلامية أن تفرق الصحابة والتابعون فى الأمصار والمدن ، وتولوا القضاء، والإفتاء، وكان الناس يلتفون حولهم فى كل بلد، ليتعلموا منهم أمور الدين، ويأخذوا عنهم الكتاب والسنة وطرائق البحث والفهم .
ونعلم أن البلاد والمدن المفتوحة كانت لها مدنيات خاصة قديمة، تأثر الناس بها وطبعوا بطابعها، فلما جاء فقهاء الصحابة والتابعين إلى تلك البلاد، أوقعوا أثرا جديدا فى أهلها، وكانت لهم طرقهم الخاصة فى البحث والاستنباط، فمنهم من توسع فى الرأى، لموائمة المصالح المستجدة : كعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، ومنهم من وقف عند النص والتمسك بالآثار: كالعباس والزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص .
وهذان العاملان - بيئة البلد، واتجاه الصحابى أوالتابعى فى البحث واستنباط الأحكام - أثرا فى توجيه الخطة الفقهية وطبيعتها، فوجدنا في كل مدينة مدرسة فقهية ذات طابع مميز، ويمكن القول : إن جميع المدارس الفقهية تقع بين اتجاهين : اتجاه طابعه الوقوف عند الأثر، وسمى بـ « مدرسة الحديث »، واتجاه طابعه التوسع فى الرأي سمى ، بـ « مدرسة الرأي»، ونفصل القول قليلا حول هاتين المدرستين:
1 - مدرسة الحديث:
حمل لواء هذه المدرسة الحجازيون وخاصة المدنيون، ومن أحق منهم بذلك؟! فهم أعلم الناس بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القولية والفعلية، وقد وقف الحجازيون عند النص، لكثرة بضاعتهم فى الحديث، وشدة تعلقهم به، وتورعهم عن الأخذ بالرأي، وقلة ما يعرض عليهم من الحوادث التى لم يسبق لها مثيل لعدم اختلاف البيئة .
وتزعم هذه المدرسة من الصحابة : العباس، والزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين : الشعبى، وسعيد بن السيب، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والزهري، ويحى بن سعيد ، ومن تابعى التابعين: الإمام مالك، والإمام الشافعى، والإمام أحمد بن حنبل .
وهنا احتراز لابد من إثباته، وهو أن هذه المدرسة لم ترفض العمل بالرأى على وجه الإطلاق ؟ لأن الاجتهاد واعمال الرأى أمر جرى منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من بعده، وانما غلب على هذه المدرسة العمل بالحديث، وتقديمه على الرأى وان كان ضعيفا، وأن العلماء الذين ذكرناهم سابقا كانوا فى بعدهم عن الرأى ووقوفهم عند الأثر على درجات متفاوتة .
2 - مدرسه الرأي:
احتضن هذه المدرسة العراق، فشاع فيه الرأى لأسباب عدة: منها بعد العراق عن موطن الحديث، فلم يصلهم الحديث إلا ما جاءهم مع الصحابة كعبد الله بن مسعود، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص وأبى موسى الأشعرى، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وغيرهم ممن دخل مع الجيوش الإسلامية الفاتحة، وخوف الصحابة من رواية الحديث خشية الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يروى أن أبا عمرو الشيبانى قال : كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا، لايقول : قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا قالها استقلته الرعدة ( 1) : أى : من شدة الخوف أن يكون الحديث مكذوبا (2)، كما كان للبيئة أثر فى التوسع فى الرأى، إذ وجدت قضايا وأحداث لم يكن لها مثيل فى عهد النبوة، كل هذه العوامل دفعت الصحابة والفقهاء من بعدهم إلى الأخذ بالرأى والتوسع فيه .
ويعد عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - بحق هو حامل لواء هذه المدرسة، ومن ورائه عبد الله ابن مسعود فى العراق، الذى أخذ عنه شريح بن الحارث الكندى، وعلقمة بن قيس النخعى أستاذ إبراهيم النخعى الذى حمل لواء المدرسة، وتلمذ له حماد بن سليمان أستاذ الإمام أبى حنيفة الذى انتقلت إليه زعامة هذه المدرسة ( 3) .
وطابع هذه المدرسة ينحصر فى أن شرع الله قد اكتمل وبين قبل وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن شريعة الإسلام معقولة المعانى، مبنية على أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك الأحكام، فكان فقهاء هذه المدرسة يبحثون عن تلك العلل التى شرعت لها الأحكام ويجعلون الحكم دائرا معها وجودا وعدما ( 4) .
وبالرغم من بروز هاتين المدرستين فى عهد الصحابة والتابعين، فإنه لم يكن الخلاف كثيرا، لقلة ما ينزل بهم من الحوادث، فى عصر صدر الإسلام وسائر العصر الأموى، فكان الفقه هو نصوص القرآن والسنة المتبعة، وما اجتمع عليه الصحابة مما سمعوه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو رواه لهم غيرهم، أوما صدر عن آرائهم من الفتاوى بعد البحث والاجتهاد .
ثم جاء العصر العباسى، فظهرت فيه طوائف الفقهاء، وتميزوا بهذا الاسم بعد أن كانوا يعرفون باسم القراء، فقام فيهم زعماء مبرزون، كان لكل منهم خواص ومميزات تميزه عن غيره، كما أن لكل منهم قواعده وأسسه التى بنى عليها فتاويه وأقام عليها مذهبه .
وقد تضافرت عوامل فى ظهور المذاهب الفقهية، وتعددها واختلافها فيما بينها، يمكن إيجاز هذه العوامل فيما يلى :
- حرية الاجتهاد
- شيوع الجدل والمناظرة بين الفقهاء
- كثرة الوقائع المستجدة وتنوعها
- طبيعة الأحكام الشرعية
- طبيعة اللغة العربية
- التعارض والترجيح بين ظواهر النصوص
- عدم تدوين السنة
---------------------------------------------------------
(1) أعلام الموقعين - 1/22 -
(2) محمد مدكور: الفقه الإسلامي، (ص 86 - مكتبة وهبة)
(3) محمد مدكور: الفقه الإسلامي، (ص 85 - مكتبة وهبة)
(4) محمد مدكور: الفقه الإسلامي، (ص 85 - مكتبة وهبة)
الفصل التالي : العوامل فى ظهور المذاهب الفقهية