الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فهذه جملة مختصرة من المسائل في فقه الأيمان ، اعرضها على إخواني في المنتدى.
هي ثلاثة : اليمين اللغو ، واليمين المنعقدة ، واليمين الغموس.
تعريف اللغو :
اللغو([1]): السَّقَط وما لا يُعتّد به من كلام وغيره ، ولا يُحصَل منه علـى فائدة ، ولا نفع.
واختلف العلماء في تحديد المقصود بـ (لغو اليمين) على أقوالٍ([2]):
القول الأول : قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله.
عنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا فِى هَذِهِ الآيَةِ (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ) قَالَتْ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ.([3])
ثم قال الشافعي رحمه الله([4]) بعد روايته لهذا الأثر بإسناده الصحيح مبيناً له: اللَّغوُ فـي لسان العرب الكلام غير الـمعقود علـيه ، وجِماعُ اللَّغْو هو الـخطأُ ، واللغو كما قالت عائشة ، والله أعلم ، وذلك إِذا كان اللَّـجاجُ والغضب والعجلة.
وبهذا قال : ابن عمر ، وابن عباس في أحد أقواله ، والشعبي ، وعكرمة في أحد قوليه ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وأبي قلابة ، والضحاك في أحد قوليه ، وأبي صالح والزهري ، والشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة.
القول الثاني : أن يحلف على الشيء ، يرى أنه كما حلف عليه ، ثم لا يكون كذلك.
مثال : يحلف الرجل على أن معه ألف جنيها معتقدا لهذا يقينا ، ثم ينظر فيما معه فيجده خمسمائة .
ممن قال بهذا : ابن عباس في أحد أقواله ، والحسن، ومجاهد في أحد قوليه ، وقتادة والنخعي في أحد قوليه ، وسليمان بن يسار ، وقال به مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد.
القول الثالث : قال سعيد بن جبير : هو الرجل يحلف علي المعصية ، يعني : ألا يصلي ، ولا يصنع الخير .
الرابع : أن يحلف الرجل ناسيا على ماض أو مستقبل ، فلا يؤاخذ بمأثم ولا كفارة ، قاله إبراهيم النخعي.
الخامس : قول ثالث عن ابن عباس : لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
والصحيح مما سبق : أن اللغو هو ما لا ينعقد القلب عليه ، كما ذكر الإمام الشافعي رحمه الله ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) [المائدة: 89]
فقد جعل اللغو في الآية معارضًا لليمين المنعقدة أي المؤكدة ، فدلَّ هذا على أن اللغو هو غير المنعقد من القلب عليه. والله أعلم.
- فعلى هذا يكون المقصود بقولنا :
اليمين اللغو : هو ما لا يُعْقدُ عليه القلب ، ويجري على اللسان دون قصد، كقولنا ، لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله ، وهي يمين ساقطة لا يجب على قائلها كفارة .
فقال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 225] وقوله تعالى (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) [المائدة: 89]
قال الشوكاني رحمه الله([5]): (والحاصل) في المسألة إن القرآن الكريم قد دل على عدم المؤاخذة في يمين اللغو ، وذلك يعم الأثم والكفارة فلا يجب أيهما .
والمتوجه : الرجوع في معرفة معنى اللغو إلى اللغة العربية ، وأهل عصره صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الناس بمعاني كتاب الله تعالى ؛ لأنهم مع كونهم من أهل اللغة قد كانوا من أهل الشرع ، ومن المشاهدين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والحاضرين في أيام النزول .
فإذا صح عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجح عليه أو يساويه وجب الرجوع إليه ، وإن لم يوافق ما نقله أئمة اللغة في معنى ذلك اللغو لأنه يمكن أن يكون المعنى الذي نقله إليه شرعيا لا لغويا ، والشرعي مقدم على اللغوي كما تقرر في الأصول فكان الحق فيما نحن بصدده هو أن اللغو ما قالته عائشة رضي الله عنها.
* إذا حلف على شيء فكان على خلاف ما ظن :
القول الثاني من الأقوال السابقة : أن يحلف على الشيء ، يرى أنه كما حلف عليه ، ثم لا يكون كذلك.
فقد ذهب الجمهور إلى عدم مؤاخذة صاحبه به.
ونعم الصحيح أن لا يؤاخذ به صاحبه ، وإن كان يمينًا منعقدًا ، لأن صاحبه قد عقد نيته وقلبه على الحلف ، لهذا ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى وجوب الكفارة على صاحب هذا اليمين.
إلا أنه يترجح مذهب الجمهور ، وهو عدم مؤاخذته به لأنه خرج من صاحبه بطريق الخطأ ، ومعلوم أن الخطأ مرفوع عنَّا.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»([6])
* يمين المعصية :
ذهب عامة أهل العلم إلى أن الكفارة تجب بالحنث في يمين المعصية سواء حلف على فعل معصية ، كقول : والله لأشربن الخمر اليوم ، فلم يشرب حنث في يمينه ووجبت عليه الكفارة.
وسواء حلف على ترك واجب عليه : كقول : والله لا أصلي اليوم الفروض المكتوبة ، فصلى وجبت عليه الكفارة .
ونعم كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ أن العبد إذا حلف على محرم (معصية) كشرب الخمر ، وجب عليه الحنث في اليمين والتكفير ، ولا يشرب الخمر ، كذلك إن حلف على ترك واجب من واجبات الدين ، وجب عليه الحنث والكفارة ، ولا يترك ما أوجبه الله أو رسوله r.
وكما سبق وذكرنا أن هذا قول جمهور أهل العلم منهم([7]) : أبي حنيفة ، ومالك والشافعي وأحمد وابن حزم رحمهم الله جميعا.
- وجاء عن سعيد بن جبير والشعبي ومسروق([8]) : أن من حلف على معصية فلم يفعلها فلا شيء عليه .
وحجتهم في ذلك : ما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبي عن جده أن النبي r قال : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين فَرَأَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا كَفَّارَتهَا)([9])
وعن عائشة قالت : قال رسول الله r «مَنْ حَلَفَ فِى قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ فِيمَا لاَ يَصْلُحُ فَبِرُّهُ أَنْ لاَ يَتِمَّ عَلَى ذَلِكَ»([10])
- فالراجح :
ما جاء عن جمهور العلماء من أن يمين المعصية تجب الكفارة بالحنث فيه ، وهذا لضعف أدلة ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني .
واحتج الجمهور : عن أبي هريرة أن النبي r قال : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ »([11])
وقول النبي r للأشعريين « لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ ، وَإِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَ ا »([12])
* يمين الغضب :
الصحيح من أقوال أهل العلم أن اليمين التي تخرج من صاحبها في حال غضبه منعقدة ويؤاخذ عليها .
عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ t وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَىِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ ، فَأُتِىَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ : ادْنُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَأْكُلُ مِنْهُ . قَالَ : إِنِّى رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ ، فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ آكُلَهُ . فَقَالَ ادْنُ أُخْبِرْكَ - أَوْ أُحَدِّثْكَ - إِنِّى أَتَيْتُ النَّبِىَّ r فِى نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّين َ ، فَوَافَقْتُهُ وَهْوَ غَضْبَانُ ، وَهْوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَاسْتَحْمَلْنَ اهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ، قَالَ « مَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ » . ثُمَّ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ r بِنَهْبٍ مِنْ إِبِلٍ فَقَالَ « أَيْنَ الأَشْعَرِيُّون َ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّون َ » . قَالَ فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى ، فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِى نَسِىَ رَسُولُ اللَّهِ r يَمِينَهُ ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ r يَمِينَهُ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا . فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِىِّ r فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اسْتَحْمَلْنَاك َ ، فَحَلَفْتَ أَنْ لاَ تَحْمِلَنَا فَظَنَنَّا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ . فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ هُوَ حَمَلَكُمْ ، إِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ ، وَتَحَلَّلْتُهَ ا»([13])
وجه الدلالة من الحديث :
أن النبي r قد حلف حال غضبه ، ثم عاد في يمينه وحملهم ، وأخبر أنه لو حلف على يمين وكان الخير في خلافه لكفر عن يمينه ثم فعل الخير .
ويصح وجوب الكفارة في يمين الغضب ، فقد قال تعالى : (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) [المائدة :89] والحالف في الغضب عاقد ليمينه فتلزمه الكفارة بحنثه([14]).
- ومن صور اللغو الشائعة بين الناس :
قول الرجل لمن يجلس معه، وهو يتناول طعامه ، تفضل والله، غير قاصد بذلك يميناً، أما لو قصد فلا شك أنها يمين.
- ومن لغو اليمين أيضاً : أن يأتي الرجل ليحلف على شيء، فيسبق لسانه، إلى شيء آخر، كأن تريد أن تقول والله ما ذهبت لفلان، فتقول بدلاً منها: والله ذهبت لفلان ، فهذا يمين لغو لا شيء عليك فيه.
-واللغو ما خرج من اللسان دون قصد سواء كان في الماضي أم الحال أم المستقبل:
قال ابن نجيم الحنفي([15]): قال الشافعي : يمين اللغو : هي اليمين التي لا يقصدها الحالف .
وهو ما يجري على ألسن الناس في كلماتهم من غير قصد اليمين من قولهم لا والله ، وبلى والله ، سواء كان في الماضي أو في الحال أو المستقبل .
وأما عندنا (الأحناف): فلا لغو في المستقبل بل اليمين على أمر في المستقبل يمين معقودة وفيها الكفارة إذا حنث قصد اليمين أو لم يقصد وإنما اللغو في الماضي والحال فقط.
فيرجع حاصل الخلاف بيننا وبين الشافعي في يمين لا يقصدها الحالف في المستقبل فيها فعندنا ليست بلغو وفيها الكفارة وعنده هي لغو ولا كفارة .
[1] ) لسان العرب [ج15- ص250]
[2] ) الإشراف لابن المنذر [ج7- ص 126] والحاوي للماوردي [ج15- ص188] تفسير ابن أبي حاتم [ج2 -ص408] ط العصرية. المغني لابن قدامة [ج13- 203، وما بعدها]
[3] ) (صحيح) البخاري [6286]
[4] ) مختصر المزني مع شرحه الحاوي الكبير [ج15- ص288]
[5] ) نيل الأوطار [ج8- ص237] ط دار الحديث.
[6] ) (سنده صحيح) ابن حبان [7219] المستدرك [جزء 2-2801] وللحديث شواهد كثيرة.
[7] ) البدائع [ج4–ص49] الإشراف لعبد الوهاب [ج2-ص880] مغني المحتاج [ج6- ص196] نهاية المحتاج [ج8-ص180] الحاوي [ج15 –ص266] المحلى [ج8-ص57]
[8] ) نقل هذا عنهم الماوردي في الحاوي الكبير [ج15 – ص 266 ، 288] ونقله عن الشعبي الكاساني في البدائع [ج4 – ص50] وعن سعيد : ابن أبي حاتم في تفسيره [ج2- ص409]
[9] ) (لا يصح) ابن ماجة [2111] وبسنده عون بن عمارة : ضعيف ، وأبو دواد [3276] وإن كان ظاهر إسناده يدل على أنه حسن إلا أنه مخالف لرواية الثقات ، في الصحيحين وغيرهما ، ويضاف عليه أن رواية عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي [3781] بلفظ آخر وهو (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) قلتُ : وهذا هو الأصح لموافقتها رواية الثقات في الصحيحين وغيرهما.
[10] ) (سنده ضعيف) ابن ماجة [2110] به : حارثة بن أبي الرجال : ضعيف.
[11] ) (صحيح) مسلم [1650]
[12] ) (صحيح) البخاري [2964]
[13] ) (صحيح) البخاري [5199] ( غر الذرى ) جمع أغر وهو الأبيض . والذرى جمع ذروة وهي من كل شيء أعلاه وهي هنا أسنمة الإبل والمراد أن أسنمتها بيضاء أو أنها سليمة من العلل والأمراض. (الذود) : من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع وقيل ما بين الثلاث إلى العشر.
[14] ) المحلى [ج8- ص57]
[15] ) البحر الرائق شرح كنز الدقائق [ج4 -ص302] ط دار المعرفة