سئل -شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله:
عن رجلين أحدهما حافظ للقرآن وهو واعظ يحضر الدف والشبابة والآخر عالم متورع فأيهما أولى بالإمامة
فأجاب:
ثبت فى صحيح مسلم عن أبى مسعود البدرى أن النبى ( ( قال ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فان كانوا
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 340.
فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فان كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم سنا فاذا كان الرجلان من أهل الديانة فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر متعينا فان كان أحدهما فاجرا مثل أن يكون معروفا بالكذب والخيانة ونحو ذلك من أسباب الفسوق والآخر مؤمنا من أهل التقوى فهذا الثانى أولى بالامامة اذا كان من أهلها وان كان الأول اقرأ وأعلم فان الصلاة خلف الفاسق منهى عنها نهى تحريم عند بعض العلماء ونهى تنزيه عند بعضهم وقد جاء فى الحديث ( لا يؤمن فاجر مؤمنا الا أن يقهره بسوط أو عصا ( ولا يجوز تولية الفاسق مع امكان تولية البر والله أعلم
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 341.
http://arabic.islamic.com/Books/taim...k=381&id=11998
وقال شيخ الإسلام
( فصل )
وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور ففيه نزاع مشهور وتفصيل ليس هذا موضع بسطه
لكن أوسط الأقوال فى هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء فى الامامة لا يجوز مع القدرة على غيره فان من كان مظهرا للفجور أو البدع يجب الانكار عليه ونهيه عن ذلك وأقل مراتب الانكار هجره لينتهى عن فجوره وبدعته ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية فان الداعية أظهر المنكر فاستحق الانكار عليه بخلاف الساكت فانه بمنزلة من أسر بالذنب فهذا لا ينكر عليه فى الظاهر فان الخطيئة اذا خفيت لم تضر الا صاحبها ولكن اذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم الى الله تعالى بخلاف من أظهر الكفر
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 342.
فاذا كان داعية منع من ولايته وامامته وشهادته وروايته لما فى ذلك من النهى عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه فى شهادته وروايته فاذا أمكن لانسان الا يقدم مظهرا للمنكر فى الامامة وجب ذلك لكن اذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الامامة أو كان هو لا يتمكن من صرفه الا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فان الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الامكان ومطلوبها ترجيح خير الخيرين اذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين اذا لم يندفعا جميعا
فاذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور الا بضرر زائد على ضرر امامته لم يجز ذلك بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها الا خلفه كالجمع والأعياد والجماعة اذا لم يكن هناك امام غيره ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبى عبيد الثقفى وغيرهما الجمعة والجماعة فان تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بامام فاجر لا سيما اذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 343.
السلف والأئمة من أهل البدع
واما اذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو اولى من فعلها خلف الفاجر وحينئذ فاذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء
منهم من قال انه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع بحيث ترك ما يجب عليه من الانكار بصلاته خلف هذا فكانت صلاته خلفه منهيا عنها فيعيدها
ومنهم من قال لا يعيد قال لأن الصلاة فى نفسها صحيحة وما ذكر من ترك الانكار هو أمر منفصل عن الصلاة وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة
وأما اذا لم يمكنه الصلاة الا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة واعادتها من فعل أهل البدع وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه اذا قيل ان الصلاة خلف الفاسق لا تصح أعيدت الجمعة خلفه والا لم تعد وليس كذلك بل النزاع فى الاعادة حيث ينهى الرجل عن الصلاة فاما اذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا اعادة عليه لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 344.
وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا فى نفس صلاة الجمعة خلفه ومن قال انه يكفر أمر بالاعادة لأنها صلاة خلف كافر لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء والناس مضطربون فى هذه المسألة وقد حكى عن مالك فيها روايتان وعن الشافعى فيها قولان وعن الامام أحمد أيضا فيها روايتان وكذلك أهل الكلام فذكروا للأشعرى فيها قولان وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل
وحقيقة الأمر فى ذلك ان القول قد يكون كفرا فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها
وهذا كما فى نصوص الوعيد فان الله سبحانه وتعالى يقول ( ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ( فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يشفع فيه شفيع مطاع
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 345.
وهكذا الأقوال التى يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهدا فى طلب الحق وأخطأ فان الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان فى المسائل النظرية أو العملية هذا الذى عليه أصحاب النبى ( صلى الله عليه وسلم ( وجماهير أئمة الاسلام
وما قسموا المسائل الى مسائل أصول يكفر بانكارها ومسائل فروع لا يكفر بانكارها
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له اصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم باحسان ولا أئمة الاسلام وانما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء فى كتبهم وهو تفريق متناقض فانه يقال لمن فرق بين النوعين ما حد مسائل الأصول التى يكفر المخطىء فيها وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع فان قال مسائل الأصول هى مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هى مسائل العمل قيل له فتنازع الناس فى محمد ( ( هل رأى ربه أم لا وفى أن عثمان افضل من على أم على افضل وفى كثير من معانى القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هى من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 346.
ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هى مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق
وان قال الأصول هى المسائل القطعية قيل له كثير من مسائل العمل قطعية وكثير من مسائل العلم ليست قطعية وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الاضافية وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول ( ( وتيقن مراده منه وعند رجل لا تكون ظنية فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص اياه أو لعدم ثبوته عنده أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته
وقد ثبت فى الصحاح عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ( حديث الذى قال لأهله ( اذا أنا مت فاحرقونى ثم اسحقونى ثم ذرونى فى اليم فوالله لئن قدر الله على ليعذبنى الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين فامر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال ما حملك على ما صنعت قال خشيتك يا رب فغفر الله له ( فهذا شك فى قدرة الله وفى المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه اذا فعل ذلك وغفر الله له وهذه المسائل مبسوطة فى غير هذا الموضع
كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 347.
ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف فى ذلك ولم يفهموا غور قولهم
فطائفة تحكى عن أحمد فى تكفير أهل البدع روايتين مطلقا حتى تجعل الخلاف فى تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلى وربما رجحت التكفير والتخليد فى النار وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الاسلام بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون الايمان قول بلا عمل ولا يكفر من يفضل عليا على عثمان بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم وانما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته لأن مناقضة اقوالهم لما جاء به الرسول ( ( ظاهرة بينة ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق وكان قد ابتلى بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة
لكن ما كان يكفر أعيانهم فان الذى يدعو الى القول أعظم من الذى يقول به والذى يعاقب مخالفه أعظم من الذى يدعو فقط والذى يكفر مخالفه أعظم من الذى يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية ان القرآن مخلوق وأن الله لا يرى فى الآخرة وغير ذلك ويدعون الناس الى ذلك كتاب مجموع الفتاوى، الجزء 23، صفحة 348.
ويمتحنونهم ويعاقبونهم اذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا اذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية ان القرآن مخلوق وغير ذلك ولا يولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال الا لمن يقول ذلك ومع هذا فالامام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطأوا وقلدوا من قال لهم ذلك
وكذلك الشافعى لما قال لحفص الفرد حين قال القرآن مخلوق كفرت بالله العظيم بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك لأنه لم يتبين له الحجة التى يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى فى قتله وقد صرح فى كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم
وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعى وأحمد فى القدرى ان جحد علم الله كفر ولفظ بعضهم ناظروا القدرية بالعلم فان أقروا به خصموا وان جحدوه كفروا
وسئل أحمد عن القدرى هل يكفر فقال
ان جحد العلم كفر
وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية وأما قتل الداعية الى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب وان لم يكن فى نفس الأمر كافرا فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته وعلى هذا قتل غيلان القدرى وغيره قد يكون على هذا الوجه وهذه المسائل مبسوطة فى غير هذا الموضع وانما نبهنا عليها تنبيها