الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فعلى هامش ما نقابله كثيرا من أخطاء المحققين، وبجانب ما نقرؤه كثيرا من تعقبات بعض على بعض في تحقيق هذا الكتاب أو ذاك، و ........ ولستَ بمستبق أخا لا تلمه على شعث، و ...... والعذر عند كرام الناس مقبول، و ........ وكل يؤخذ من قوله ويترك ..... !
إلا أن في الخاطر أمرا أرغب في سَطْرِه من قديم، ولكن تحولُ دون ذلك شواغل وعوائق كثيرة، والله المستعان!
ثم قدر الله أن أقف اليوم على هذا الخطأ، وهو الذي يقابلني مرارا وتكرارا، وكنت أقرأ في بعض كتب أهل اللغة، فوقفت فتذكرت هذا الموضوع الذي كاد يغيب في مطاوي الذاكرة، بل كاد يروغ وتذهب أمثلته من الفؤاد!
وأكاد أوقن أنه ما من أحد منا إلا وقد قابل مثل هذا النوع من الأخطاء التي تجد كثيرا من المحققين يتتابعون عليها (ولا أريد أن أقول: يتتايعون)
والمثال الذي يحضرني دائما في هذا الباب قوله تعالى: { تَنبُتُ بالدهن }
فكثيرا ما كنت أقرأ لأهل العلم في سياق كلامهم أن الباء قد تأتي زائدة ويمثلون بقوله تعالى : (تنبت بالدهن) وأجد المحقق قد ضبطها بفتح التاء وضم الباء!!
وأرجع إلى نفسي متعجبا متحيرا، وأقول: وأين الزيادة في هذا الموضع؟
على هذه القراءة لا زيادة للباء.
وإنما يصح كلامهم في الزيادة على قراءة أبي عمرو وابن كثير { تُنْبِتُ بالدهن }.
ولكن المحقق لا يقف طويلا لينظر في ضبط الآية وهل يتوافق مع سياق الكلام، بل يضبط على قراءة حفص المشهورة عندنا والسلام!
ولعلي وقفتُ على هذا الخطأ في أكثر من عشرين موضعا!
واليوم أذكر لكم مثالا آخر لعله من النوادر:
قرأت في (كتاب ليس لابن خالويه):
(( وقد يجيء المصدر على غير المصدر ... ))
فتذكرت ما كنت قرأته قديما في (معترك الأقران) للسيوطي:
(( ... فيه وجهان أحدهما أن يكون مصدرا على غير الضمير ))
قال المحقق: هذا في الأصلين، وفي القرطبي: ... على غير المصدر.
وفي تفسير القرطبي:
(( { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا } القبول والنبات مصدران على غير المصدر، والأصل تقبلا وإنباتا )).
وفي تفسير البغوي:
(( .... وقيل هذا مصدر على غير [اللفظ] ))
قال المحقق: في ب (الصدر)
قلت: هذا هو الصواب المشهور عند أهل العلم (مصدر على غير الصدر) والصدر هو (الفِعْل) وهي عبارة مشهورة عند العلماء كما وردت في أدب الكاتب لابن قتيبة وغيره، ويستعملها أبو حيان في البحر المحيط، ووردت على الصواب في مواضع من تفسير القرطبي وغيره من كتب أهل العلم.
فلعل الأمر اشتبه على الناسخ فظن الكلمة مصحفة فجعلها على أقرب صورة لها.
وأما ناسخ معترك الأقران فلعله اشتبه عليه خط السيوطي فظن الكلمة ظنا بعيدا جدا ولو كتبتا كلمة (الصدر) بخط سيء لاشتبهت بكلمة (ضمير) اشتباها كبيرا ولقربت منها جدا والله تعالى أعلم.
ثم ظهر لي وجه آخر حسن وهو أن كلمة (المصدر) اتصلت في الكتابة فظُنَّت (المضمر) وهي بمعنى (الضمير)، وعليه فيحتمل أن يكون الخطأ من السيوطي نفسه، وربما يكون من الناسخ حيث غير كلمة (المضمر) إلى الضمير والله أعلم.
والعلماء يعبرون عن ذلك بألفاظ مختلفة:
= فتارة يقولون: مصدر على غير الصدر
= وصرح به بعضهم فقال: مصدر على غير صدره
= وبعضهم يقول: مصدر على غير فعله
= وتارة : مصدر على غير الفعل
= وتارة : مصدر على غير بناء الفعل
وإلى لقاء مع خطأ آخر مكرور
وما أرانا نقـول إلا معـارا ........ أو معـادا من قـولنا مكـرورا
أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
وفقكم الله، وجزاكم خيرا
ومن الأخطاء المكرورة التي تدل على بُعْد كثير من المحققين عن التحقق من علوم العربية:
(( ..... ولا يمكن أحدٌ أن يفعل كذا .... ))
هذه العبارة أو نحوها وردت في كتب كثيرة من كلام علمائنا الأجلاء، وترى المحقق ينص في الحاشية على أن الأصل ( أحدًا )، ومع ذلك يصلح الكلمة بالرفع ويضعها في صلب الكتاب، وكأن هذا الموضع وهم فاحش لا وجه له !
مع أن العبارة لا تحتمل الرفع أصلا، وليس للكلام وجه إلا النصب قولا واحدا؛ لأنه مفعول !
وبعض المحققين الفضلاء غير العبارة وقال في الحاشية:
(( في جميع النسخ: أحدا )) !!
وبعضهم يغير دون أن يشير وكأن هذا الخطأ لا يحتاج إلى بيان لوضوحه !
ويلحق بهذا الخطأ خطأ آخر لصيق به، وهو نحو قولهم:
(( .... يمكنني فعلَ كذا .... )) بنصب (فعل).
وهذا خطأ والصواب الرفع؛ لأنه فاعل، فالذي (يمكن) هو الفعل نفسه وليس الشخص، وإنما الشخص مفعول، وسواء قدم أو أخر فحكمه النصب، وحكم الفاعل الرفع.
ولا يشك أحد أن الياء في (يمكنني) مفعول مقدم، وكذلك الكاف في (يمكنك)، وكذلك الهاء في (يمكنه).
فإذا وضعت الظاهر موضع المضمر فحكمه النصب أيضا على المفعولية ولا فرق بين الظاهر والمضمر، فتقول: (يمكن محمدًا)، (يمكن فلانا)، (يمكن أحدا) ... إلخ.
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
من الأخطاء المكرورة أيضا عند المحققين:
تحريف ( مُرَتَّبَيْن ) إلى ( مَرَّتَين )، كأن يقال مثلا: (إن حدث كذا ثم كذا لم يقع الحكم إلا بهما مرتبين).
وقفتُ على هذا الخطأ في تحقيق (القواعد لابن اللحام)، و(الفروق للقرافي)، و(الصعقة الغضبية للطوفي).
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
ومن الأخطاء المشهورة أيضا عند المحققين وعند غيرهم من المؤلفين المعاصرين ضبط (اللحيين) بكسر اللام، ظنا منهم أن المراد بهما اللحية والشارب، وهو خطأ بين؛ إذ الشارب لا يسمى لحية، ولا يطلق عليهما اسم واحد تغليبا كباقي أنواع المثنيين، ولو فرض ذلك لكان ينبغي أن يقال لهما: اللحيتان، وهو ما لم يسمع ولعله لم يخطر على بال أحد.
والصواب ضبطها بفتح اللام، و(اللَّحْي) هو الفك، والإنسان له (فكان) وهما (اللَّحْيان).
ولعل الاشتباه أيضا دخل عليهم من رؤيتهم بعض الأعلام باسم (اللِّحْياني) بكسر اللام، فقد يُظن أنه منسوب إلى (لِحيان) على لفظ المثنى، وهو ظن واضح البطلان؛ لأنه لم يعهد عند العرب النسب إلى المثنى، وكذلك فالجمهور على أن النسب يرد الألفاظ إلى أصولها، وإنما زيدت الألف والنون هاهنا للتكثير والمعنى عظيم اللحية، كما يقال (رقباني) لعظيم الرقبة، ونحو ذلك.
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
ومن الأخطاء المكرورة أيضا ( .... ابن جرير عن عطاء ....)
وهو غالبا سهو من الناسخ أو من الطابع، والصواب (ابن جريج عن عطاء).
وهذا النوع من الأخطاء لا أحب أن أنبه عليه في المعتاد؛ لأنه في معظم الأحيان يكون سبق قلم، ولكن نبهت عليه هاهنا لأنه يتكرر عند المحققين، وقد يخفى على بعض القراء.
وقد وقع نحوُه في (لسان المحدثين) لشيخنا الفاضل (محمد خلف سلامة) وفقه الله، ونفعنا بعلمه.
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
ومن الأشياء التي ينبغي التنبيه عليها - وإن كانت ليست من محض الخطأ- قولهم:
(( أصابته حرفة الأدب ))، أو نحو ذلك من العبارات، ومنه قول الشاعر:
لقد علمت وما لي ما أعيش به ............. أن التي أدركتني حرفة الأدب
وأكثر المحققين يضبطونها بكسر الحاء (حِرْفة)، وهو ضبط له وجه صحيح، ولكن معظم القراء سيختلط عليه الأمر، فيظن المقصود بالحرفة الصناعة، ولا يدري أن ( الحرفة ) هنا معناها نقص الحظ، ومنه رجل محارَف أي خلاف مبارك.
والأفضل في مثل هذا الموضع ضبط الكلمة بالضم، وهو الضبط المشهور، وذلك لسببين:
الأول: ما أسلفتُه من أن أكثر القراء سيخطئ في فهم المراد.
الثاني: أنه ينفي الظِنة عن المحقق بأنه يجهل المراد أيضا.
وأمثال هذه النكتة كثير في ضبط الكلم، ومنها ما يجوز فيه وجهان أو أكثر، ومنها ما لا يجوز فيه إلا وجه واحد.
من ذلك ما يرد كثيرا في أشعار العرب -وخصوصا في الجاهلية- من الوصف بكلمة ( طفلة )، فكثير من المحققين يضبطها بكسر الطاء، وهو خطأ، والصواب ( طَفلة ) بفتح الطاء، وهي الرخصة الناعمة.
وحتى لو افترضنا أن فيها لغة بالكسر، فإن الأولى بمنهج التحقيق والمحققين أن تُضبط الكلمة بالفتح حتى يُعلم المراد.
والله أعلم.
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
= ومن الأخطاء المكرورة عند المحققين: ( جذاذ النخل أو الزرع )
وقد بحثت في الشاملة بحثا سريعا، فوجدت مثل هذا الخطأ قد تكرر كثيرا جدا، وراجعت بعض المواضع على المطبوع فوجدته مطابقا لذلك!
وسبب الخلط عند بعضهم اشتباه ذلك بقوله تعالى: { فجعلهم جذاذا }، وإنما ذلك للتقطيع والتكسير المبالغ، وليس كذلك الحصاد، وقد حكى بعض أهل العلم لغة الإهمال في نوادر اللغة، ولكن هذا لا ينفي الخطأ؛ لأن ضبط الكتب إنما يكون على اللغات المعروفة المشهورة، حتى لا ننسب إلى العلماء ما لم يقولوا به، إلا أن يظهر من القرائن والأدلة ما يفيد ضد ذلك.
والصواب ( جِداد ) بالدال المهملة، أو ( جِزاز ) بالزاي، ويُنظر في ذلك معجمات اللغة المختلفة، وكتب شروح الحديث، وكتب غريب الحديث أيضا.
وأكتفي هنا بنقل واحد مفيد لإمام العربية؛ قال:
(( وجاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فِعَال، وذلك: الصرام، والجزاز، والجداد، والقطاع، والحصاد )).
[الكتاب لسيبويه 4 / 12 - هارون]
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
= ومن أخطائهم المكرورة: ( استشكالهم ما ليس بمُشْكِل )
وهو مبحث طويل الذيل، كثير الفروع، وسببه غالبا قصور باع المحقق، وقلة اطلاعه، فيظن خطأ ما ليس بخطأ، ويحسب حسنا ما ليس بالحسن.
ومن الأمثلة المشهورة في هذا الباب:
ما يتكرر كثيرا في كلام أهل العلم من نحو (هذا الكتاب في ست مجلدات) أو (يقع في أربع مجلدات) أو نحو ذلك.
فيأتي المحقق فيقول في الحاشية:
(( هكذا بالأصل، والصواب "ستة" أو "أربعة"؛ لأن المعدود مذكر )) !
وقد يلبس لباس العلماء أحيانا فيقول:
(( ولعل المؤلف نظر إلى الجمع على رأي بعض )) !
ولا يدري المحقق أن المفرد مؤنث أصلا، وهو ( مجلدة )، وهو استعمال شائع عند العلماء، ولا يقتصر استعمالهم على (مجلد).
فزال الإشكال بالكلية، وتبين أن سبب المشكلة ما عند المحقق من قصور أو تقصير.
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
= ومن الأخطاء المكرورة عند المحققين : < تغيير (أولاً) إلى (أوْ لا) أو العكس (أوْ لا) إلى (أوّلا) >
ويحتمل أن يكون هذا التغيير من الطابع أو الناسخ، ولكن العهدة في جميع الأحوال تعود على المحقق، لا سيما إن لم يكن هناك قرينة تدل على أن الخطأ من غيره، ويعظم الإشكال إذا كان السياق محتملا للأمرين !.
وهذا مثال على ما سبق:
(( ....... لأن البصريين غير الأخفش يمنعون توكيد النكرة مطلقا، أفاد أولا ومن الكوفيين من يجيز مطلقا، أفاد أولا )).
والصواب في الموضعين (أوْ لا)، أي (أفاد أو لم يفد).
رد: الأخطاء المكرورة عند المحققين ... وما أرانا نقول إلا معارا
= ومن الأخطاء المكرورة أيضا عند المحققين، فيما يرد على ألسنة المحدثين والعلماء: لا يصلح العلم أو الحديث إلا لمن أقرح البن قلبه.
فترى بعض المحققين يغير كلمة (البُنّ) إلى (البُرّ)، وبعضهم يغيرها إلى (البَزّ).
والصواب هو (البُنّ)، وهو شيء من الكوامخ، إدام يطعمه الغرباء لفقرهم.
وقد نبه على هذا الخطأ: العلامة (أبو محفوظ الكريم المعصومي) في بحوثه وتنبيهاته ص 484 وما بعدها [ وقع في الفهرس الهجائي 784 خطأ !!]
ونبه عليه كذلك العلامة (عبد الفتاح أبو غدة) في صفحات من صبر العلماء ص 151