ملخص أحكام النكاح ( الجزء الأول )
النكاح لغة : التضام والتداخل والجمع ، يقال تناكحت الأشجار : إذا دخل بعضها في بعض ، ثم استعمل الوطء مجازا .
أما اصطلاحا : فهو عقد لحلِّ تمتع بأنثى غير محْرَمٍ(1) ومجوسية(2) ، بصيغة ، لقادر ، محتاج أو راجٍ نسلا .
الأصل في النكاح دون اعتبار لحالة الشخص أنه مندوب ، ودليل الأمر به قولـه تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء 03 ]
وقوله تعالى : ( و أنكحوا الأيامى منكم )[ النور 32 ]
و عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (3) فليتزوج فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج ، ومن لم يستطع فليه بالصوم فإنه له وجاء(4) ) [ البخاري ومسلم ]
هذا أمر بالنكاح إلا أنّ الأمر محمول فيهما محمول على الندب ، والندب مستفادٌ من أدلة أخرى ، ودليل الحمل على الندب دون الوجوب :
1) قوله تعالى : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم )[ النساء 03 ]
ووجه الاستدلال أن اتخاذ ملك اليمين كان غير واجب ، وقد خيّرت الآية بينه وبين اتخاذ
الزوجة الواحدة عند خوف العدل بين الزوجات ، ولو كان الزواج واجبا لما صحّ التخيير
بين ما هو واجب وما هو ليس بواجب ، لأن ذلك مؤدٍّ إلى إبطال حقيقة الواجب .
2) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المتقدم ، ووجه الاستدلال منه أنه قصر الأمر بالزواج على الشباب ، وهذا يدل على انتفاء وجوبه .
ودليل الحمل على الندب دون الإباحة :
1) فعله صلّى الله عليه وسلّم ، فقد تزوج .
2) نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التبتل ، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسـلّم على عثمان بن مظعـون التبتل(5) ، ولو أذن له لاختصينا (6) [ البخاري ومسلم ]
3) وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسـلّم قال لعثمان بن مظعون : ( يا عثمان إن الرهبانية لم تُكتب علينا )[ أحمد ]
4) ترغيبه في النكاح ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسـول الله صلّى الله عليه وسلّم: ( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي و أرقد ، و أتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) [ البخاري ومسلم ]
وقد تعتري النكاح الأحكام الخمسة ، لأن الرجل ومثله المرأة ، إما أن يكون راغبا في الزواج ، أو يكون غير راغب فيه ، والراغب إما أن يخشى العنت(3) أو لا يخشى العنت .
فالراغب إن خشي على نفسه الزنا ، وجب عليه الزواج ، وإن لم يخش الزنا نُدب له ، سواء رجا النسل أم لم يرجُ .
وغير الراغب إن خاف الانقطاع عن عبادة غير واجبة فمكروه له الزواج ، سواء رجا النسل أم لم يرج ، فإن لم يخش الانقطاع ورجا النسل ندب ، فإن لم يرج أُبيح له .
ويحرم الزواج في كل قسم المندوب والمباح والمكروه إن أدى إلى محرّم ، كترك واجب ، مثل تأخير الصــلاة عن أوقاتها اشتغالا بتحصيل نفقتها أو أدى إلى الإضرار بها ، كعدم
قدرته على الوطء أو على النفقة أو التكسب من الحرام .
الحض على النكاح والترغيب فيه
رغب الإسلام في النكاح إكراما للإنسانية و حفاظا على الجنس البشري ، وصونا له من الوقوع في الرذيلة ، فقال الله تعالى : ( و أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإيمائكم ) [ النور 32 ]
وقال محذرا من الزنا : ( و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) [ الإسراء 32 ]وقد بيّن الله عز وجل في كتابه الكريم أن النكاح و إنجاب الذرية من سنن الفطرة ومن سمات المرسلين ، فقــال تعالى : ( ولقد أرسـلنا رسـلا من قبلك وجعلنا لهم أزوجا وذرية ) [ الرعد 38 ]
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أربع من سنن المرسلين : الحياء والتعطر والسواك والنكاح ) [ الترمذي 1080 وقال حسن غريب ]
وكذلك حثّ النبي صلى الله عليه وسلّم عليه ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) [ متفق عليه ]
بل تزوج هو ورغّب فيه ، فما لأحدٍ أن يتنزه عن فعل فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتقى الناس و أخشاهم لله و أعلمهم بمحبوباته و مكروهاته ، و أوقفهم عند حدوده ، ومن خالف سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتنكّب طريقته ، ودعا إلى غير سبيله ، فقد ضلّ ضلالا مبينا .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
أحبّ للرجل والمرأة أن يتزوجا إذا تاقت أنفسهم إليه ، لأن الله تعالى أمر به ورضيه و ندب إليه ، وبلغنا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ( تناكحوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط )
وقال صلّى الله عليه وسلّم : ( من أحب فطرتي فليستنّ بسنتي ، ومن سنّتي النكاح ) .
وقد فقِهَ الصحابة هذا المنهج الذي دلهم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وكان أحدهم يُفقّه غيره بهذا الفقه ، ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال لي ابن عباس : هل تزوّجتَ ؟ قلت : لا ، قال : تزوج ، فإن خير هذه الأمة كان أكثرهم نساء ، يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
وقال إبراهيم بن ميسرة : قال لي طاوس : لتنكحنّ أو لأقولنّ لك ما قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد : ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور .
وفقه العلماء الأعلام هذا المنهج فسلكوه ورغبوا في اتّباعه و أنكروا على من حاد عنه .
يقول الإمام أحمد رحمه الله :
" ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء ، النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج أربع عشرة امرأة ، ومات عن تسع ، ثم قال : لو كان بشر بن الحارث تزوج كان قد تمّ أمره كلّه ، لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجّوا ، ولم يكن كذا ولم يكن كذا ، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصبح وما عندهم شيء ، وكان يختار النكاح ويحث عليه وينهى عن التبتّل ، فمن رغب عن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو على غير حقّ ، ويعقوب عليه السلام في حزنه تزوّج و وُلِِد له ولد ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال : حُبّب إلى النكاح " .
شرع الله النكاح لعباده ووضع لهم الأحكام والضوابط التي تنسجم مع الفطرة والعقل السليم وذلك حتى تتحقق مقاصد وغايات كثيرة منها :
1) تحقيق عبودية الله تعالى بتوحيده :
وقد فهم السلف رضوان الله عليهم هذا المعنى الجليل ، فتجد أحدهم لا همّ ولا غاية له في الزواج مقدمةً على غاية تحقيق العبودية لله تعالى ، يقول عمر بن الخطـاب رضي الله عنه : " إني لأكره نفسي على إتيان امرأتي رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده " .
2) المحافظة على النوع الإنساني :
لأن بالتزاوج يتكاثر البشر وتمتد حياتهم فوق ظهر هذه الأرض ، قال الله تعالى : ( يأيـها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحـدة وخلق منهـما رجالا كثيرا ونساء ) [ النساء 01 ]
وقال : ( والله جعل لكم من أنفسـكم أزواجا وجعل لكـم من أزواجكم بنين وحفدة ) [ النحل 07 ]
3) تكثير الأمة وحفظها من الزوال والإذلال :
ولذا قدّم كثير من العلماء أحكام الزواج في مؤلفاتهم على أحكام النكاح ، لأن الجهاد و إن كان سببا لحفظ حوزة الإسلام والمسلمين ، إلا أن النكاح هو الذي تتكاثر به الأمة الإسلامية ، وهو الذي يوجد به الرجال المجاهدون الذين يحفظون الديار ، ويقومون بواجب العبودية لله رب العالمين ، وقد قرر كثير من أهل العلم أن " الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات " أي الاشتغال به لما يشتمل عليه من القيام بمصالحه ، و إعفاف النفس عن الحرام وتربية الولد ، و نحو ذلك .
4) سلامة المجتمع من الانحراف الخلقي :
لأنه هو السبيل الأمثل لإعفاف كل واحد من الزوجين نفسه وإحصانها حتى لا تقع في الفاحشة ، و لا يسلك مسلكا خاطئا في قضاء الشهوة ، واستمتاع كل واحد من الزوجين بالآخر بما أحل الله عز و جل وفي الحديث ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ) [ رواه مسلم وغيره ]
وفي كتاب الله تعالى : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) [ النساء 21 ]
وهذا الاستمتاع الذي يتحقق به قضاء الشهوة عند كل واحد من الزوجين فيه إشباع للغريزة وتحقيق للفطرة وتحصيل للسكون النفسي وهو ضروري للإنسان ، لأن الله تعالى خلق الذكر والأنثى ، وركز في كيان كل واحد منهما الميل إلى الآخر ، والذي يعاند هذا الميل الفطري يحمل نفسه رهقا ، ويسبب لها عنتا ، وعندما تغاب الفطرة فإنها في النهاية تغلب من يعاندها .
إن التوتر الذي يصيب كل من الرجل والمرأة عندما يفكر أحدهما في الآخر ليس سبيله الكبت الذي يولد الانفجار ، ويكون عامل تدمير للأفراد والمجتمعات ، وليس سبيله أن نطلق للشهوات العنان بغير حدود ولا قيود ، ولكن السبيل لذلك هو إقامة العلاقة السّوية التي تُشبع الفطرة وتروّيها بالطريق القويم الذي يعمّر ويثمر ولا يدمّر ويخرّب ، وهذا السبيل هو الزواج .
ـــــــــــــــ ـــــــ
1- وصف للأنثى ، وهو أن تكون غير محرمة النسب أو رضاع أو مصاهرة إذ لا يصح العقد عليها .
2- أي لا يصح العقد على مجوسية ، وذلك لو أسلم وتحته مجوسية فإنه يفسخ نكاحها ولا يُقرّ عليها ما دامت مجوسية و أما الكتابية فلا يمنع العقد عليها .
والمحرم والمجوسية المانع فيهما أصلي ، بخلاف المبتوتة والمعتدّة من الغير والمحرمة بحج أو عمرة أو من لاعنها زوجها ، فإن مانعهن عرضي .
3- الباءة : قال الخطابي في معالم السنن 3 / 3 : الكناية عن النكاح ، وأصـل الباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان .
4 – الوجاء : رضّ الأنثيين ، والخصاء نزعهما .
5- التبتل : الإنقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى عبادة الله تعالى .
6- العنت :الوقوع في الزنا .
رد: ملخص أحكام النكاح ( الجزء الأول )
جمع مبارك و طيب حبذا لو نشرت