شكر الله مروركم وإضافتكم يا شيخ سليمان..
الإخوة الكرام الشبولي، وأبا أويس، جازكما الله خيرا وجمعنا وإياكم في مستقر رحمته.
الأخ الفاضل أبا نسيبة، صدقت وجزاك الله خيرا.
-------------------------
هذا ومما يحلو لبعض الأشاعرة قذفه في وجوه إخواننا في المنتديات ما ينقلونه عن الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على كتاب الإمام الدارمي رحمه الله، حيث قال:
اقتباس:
لا شك في حفظ الدارمي وإمامته في السنة ، ولكن يبدو من كتابه ( الرد على المريسي ) أنه مغال في الإثبات ، فقد ذكر فيه ما عزاه الكوثري إليه من القعود والحركة والثقل ونحوه!! وذلك مما لم يرد به حديث صحيح ، وصفاته تعالى توقيفية فلا تثبت له صفة بطريق اللزوم مثلا كأن يقال : يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة ، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق فالله ليس كمثله شيء فتأمل
قلت: رحم الله الشيخ الألباني وجزاه عن المسلمين خيرا. ولقد كان يحسن به رحمه الله ألا يطلق مثل هذا الكلام عن مثل الإمام الدارمي رحمه الله في حاشية صغيرة بمثل هذه العبارة دون بيان مفصل لصرف ما قد ينقدح في ذهن المخالف من قراءتها. فإن فيها فيما أرى – والله أعلم - خللا في التحرير والاصطلاح يحتاج إلى معالجة وبيان مفصل والله المستعان.
أولا إن تحرير معنى المغالاة في الإثبات يتوقف على تحرير معنى الإثبات نفسه. فإن قيل إن إثبات الصفة هو نسبتها إلى الله تعالى بدليل، فإن المثبت هذا إن أثبت ما لا يصح فيه دليل، وإنما قال به لشبهة دليل عنده (وأعني بذلك تصحيحه ما لا يصح من الأخبار التي ورد فيها ما أثبته)، فإنه لا يوصف بالغلو في الإثبات ولكن يوصف بالخطإ فيه! فإن آكد أصول أهل السنة في الإثبات إنما هو قبول ما جاء في الخبر الصحيح بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.. فإن رأينا رجلا يثبت صفات تقوم عنده على دليل ضعيف من نص لا يُحتج به، لم نقل له إنه غال في الإثبات، وإنما قلنا إنه مقصر - أو مجتهد مخطئ - في استيفاء شروط الإثبات من التحقق من صحة النص، ولذا فإثباته هذا مردود عليه!
فإن كان في كلام الدارمي من تعويل على نصوص لا يرى الألباني صحتها (رحمهما الله جميعا)، فإنه ليس له أن يصف الدارمي – لأجل ذلك – بالغلو في الإثبات، وإنما بالخطإ في الإثبات! والفرق بين "الغلو" و"الخطإ" ليس بالذي يخفى! وإلا فإن هذه المعاني التي ذكرها الألباني وقرر أنها لا يصح فيها نص، قد يصح فيها وفي معناها عند الدارمي نص بل نصوص (بغض النظر عن أيهما أسعد بالصواب في ذلك)! فلا يكون إثباته إياها – والحالة تلك – "غلوا في الإثبات"!
وعلى سبيل المثال فإن من ينظر في الكتاب يجد أن صفة (الثقل) هذه قد ساق فيها الدارمي نصا، ولم يأت بها من رأسه – ولا يُظن بمثله أن يطلق هذا الوصف من عند نفسه، إذ هو ليس من معنى الاستواء لغة ولا يلزم عقلا من الاستواء على العرش إلا في المخلوقين، والله ليس كمثله شيء! فإن جاءنا به نص وصح عندنا (ولا يعني كلامي هذا أني أصحح ما جاء به الدارمي من النص ولابد، فليتنبه لهذا)، طردنا عليه قاعدتنا، بأن نمره كما جاءنا، نثبته على النحو اللائق بذاته جل وعلا، ونقول لمن يسأل: الله أعلم كيف يكون ذلك الإثقال على حملة العرش: (فلا يكون من جذب الجاذبية لذاته جل وعلا - مثلا - ولا يلزم منه معنى الاعتماد على العرش كذلك، سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين)! فيكون حينئذ كالاستواء.. الإيمان به – على معناه الصحيح - واجب والسؤال عنه – أي عن كيفه وحقيقته - بدعة.
فالقصد أنه لا يصح أن نقول إن الدارمي غالى في الإثبات لأنه أثبت تلك الصفة بناء على هذا النص الذي صح عنده!! وأنا ما أظن إلا أن الألباني رحمه الله لو وقف على نص صح عنده بتلك الصفة لما تردد في إثباتها كذلك، ولرأيتنا الآن ندفع عنه – هو أيضا – كلام من يرميه "بالغلو في الإثبات"، رحمه الله!
أما قوله رحمه الله:
وصفاته تعالى توقيفية فلا تثبت له صفة بطريق اللزوم مثلا كأن يقال : يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة ، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق فالله ليس كمثله شيء
فلنا معه فيه وقفات. والكلام ههنا اصطلاحي دقيق يحتاج إلى روية في القراءة وطول تأمل في النظر، لأنه قد زلت فيه أقدام والله المستعان، ومنه التوفيق والسداد.
فإن هناك فرقا دقيقا بين "إثبات الصفة": التي هي معنى مستقل لا يقال مثله في حق الله تعالى إلا بالنص، وتفسير الصفات أو الكلام – عند المحاججة والجدال مع النفاة والمعطلة – بمعاني تلك الصفات الثابتة ومقتضياتها العقلية الصحيحة. فإن من معاني الاستواء التي ذكرها السلف: الاستقرار (وقد اختلف فيما إذا كان قد ثبت عنهم تفسير الاستواء بالجلوس). فهل يقال لا تثبتوا لله (صفة الاستقرار) – هكذا – لأنه "لا يلزم من ثبوت استوائه ثبوت الجلوس أو الاستقرار، لأن هذا لا يصح إلا في الملخوقين"؟؟ وافقت إذن من عطلوا معنى صفة الاستواء ومنعوا من القول بظاهره!
هذا ليس إثباتا لصفة بلا دليل، وإنما هو تفسير للصفة، وتحقيق لمعناها – لغة - بما يناسب من الألفاظ الصحيحة ولا يلزم منه ما يتوهمه المعطلة والمفوضة هداهم الله! وقد تقدم ضرب المثال بمعنى الوجود، فإنه ليس الوجود (صفة) نثبتها لله تعالى، حتى يقال إنه لا دليل لنا عليها في كتاب ولا سنة فلا يجوز لنا وصف الله بها! وإنما هو إخبار عن الله تعالى بمعاني تلك الصفات الثابتة له وبلوازمها العقلية الصحيحة! إذ الوجود من اللوازم المعنوية لمعنى الحياة والقيومية والصمدية والأولية والآخرية وغير ذلك مما ثبت لله من المعاني! الوجود معنى صحيح لازم لتلك المعاني، ومن نفاه وعطله فقد عطلها كلها بالتبعية! فيجب من إثباتها إثباته (معنويا)! لا أننا إن قلنا نثبت لله معنى الوجود أنه يصير بهذا صفة مستقلة نبحث عن لفظها في النصوص الثابتة الصحيحة، فضلا عن أن يقال إن الله تعبدنا بها كسائر أسمائه وصفاته التي قال فيها ((ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها))! فلا يصح اشتقاق اسم لله منها – على مذهب من يقولون بجواز اشتقاق الأسماء من الصفات – كمثل قولنا إن الله اسمه "الموجود"! فهذا إثبات، وذاك إثبات، ولكن لا يستويان اصطلاحا، ولا ينبني على الأول ما ينبني على الثاني من عمل! فإثبات الصفة شيء، وإثبات معناها أو تفسيرها بظاهر اللغة شيء آخر.
وهذا التفريق الاصطلاحي بين إثبات الصفة لله تعالى، وتصحيح المعاني اللازمة من معناها، الشارحة له، في باب الإخبار عنه جل وعلا، لا ينبغي أن يغيب عن أذهان طلبة العلم في هذا الباب، والله أعلى وأعلم.
فكما تقدم في مشاركة آنفة، إن قال القوم: هذا – أي معنى الوجود - نقبله لأنه لا يلزم منه التجسيم أما معنى الاستقرار والحركة والحد ونحوها فيلزم منها التجسيم فلا نقبله، رجع الأمر بيننا وبينهم إلى إبطال دعواهم لزوم التجسيم في ظواهر ألفاظ الصفات ومعانيها كما تفهمها عقول البشر بلسان التنزيل..
فهل معنى الحركة فيه ما يحتاج إلى نص مخصوص لإثباته (كصفة)؟ كلا!
فإن النزول – لغة – حركة! فإن قلنا ليس بحركة، فما هو إذن في اللغة وكيف نعقل تلك الصفة؟؟ لست أسأل عن كيفيته أو عن صفته (التي لا تعرف إلا بخبر مخصوص، وليس ثم ذلك ولا تسعه عقولنا أصلا)، وإنما أسأل عن معناه، معنى النزول في اللغة! هو حركة من أعلى إلى أسفل (إلى السماء الدنيا) وليس يلزم منه مفارقة العرش ولا خلوه منه ولا الحلول وسط المخلوقين ولا شيء من هذا، مع كونه محققا لمعنى النزول!! ولا بديل عن هذا الفهم لظاهر المعنى إلا التأويل أو التفويض كما يذهب المتكلمة، وما حملهم عليه إلا ما تعلمون!
فلو دفعنا عن النزول معنى الحركة لدفعنا ظاهره المعنوي، وهذا عين ما يريده لنا المعطلة والمفوضة! وإلا فما حقيقة قول القائل منا: "نزولا حقيقيا كما يليق بذاته سبحانه وتعالى"؟؟؟ حقيقته أنه نزول على معنى النزول لغة، ولكن على كيف لا نعلمه ولا يقاس على المخلوقين، ولا يلزم ذلك القياس في الكيفية من ذلك المعنى الذي نفسره به! فإن نحن وافقناهم وجعلنا معنى الحركة داخلا في هذا القياس الممنوع شرعا وعقلا، فقد عطلنا معنى النزول نفسه وصرفناه عن ظاهره كما يريدون، ولزمنا حينئذ تأويله أو تفويضه كما يصنعون!
فقول الألباني رحمه الله: "(لا).. يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة ، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق فالله ليس كمثله شيء"
هذا يلزمه به – عند التأمل - قبول كلام المفوضة في منعهم حمل معنى النزول على ظاهره!!
والقول الجامع في ذلك كما في غيره أن نقول إنه لا يلزم أن يكون هذا الشيء المتحرك ذاتا مخلوقة مقيسة على ذوات المخلوقين، تماما كما لا يلزم أن يكون ذلك النازل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير، ذاتا مخلوقة أو مقيسة على ذوات المخلوقين (صفة نزولها كصفة نزولهم)! فإذا ما دفعنا ذلك اللزوم الباطل عن الأذهان، لم يبق لنا من إشكال عقلي في تحقيق معنى النزول على أنه "حركة" (كما يفهمه سائر العقلاء في جميع لغات الأرض)! وليس هذا إثباتا لصفة بلا نص، ولا هو وصف بما لا يصح عقلا إلا بالنسبة للمخلوقين، وإنما هو ظاهر المعنى اللغوي!
وفي الأخير، وحتى يزداد المعنى وضوحا، لو قال الألباني (مثلا): لا يلزم من ثبوت استوائه تعالى على العرش ثبوت معنى الثقل، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق فالله ليس كمثله شيء"
لوافقته بلا تردد! ولقلت إنه يلزم الوقوف على نص صحيح للقول بمعنى الثقل (وهو حينئذ يكون إثباتا لصفة مستقلة).. ولكن إطلاقه هذا الكلام – رحمه الله - في العلاقة بين معنى النزول ومعنى الحركة ليس بمقبول منه، وإنما مثله عندي كمثل من يقول: إنه لا يلزم من ثبوت الحياة والقيومية لله تعالى، ثبوت الوجود!!!
فمن تأمل هذا التفريق وفهمه حق الفهم، زال عنه – بإذن الله تعالى – كثير من شبهات القوم في تلك البابة، والله أعلى وأعلم.