شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أُصُولُ الفِقْهِ: دَلَائِلُ الفِقْهِ الإِجْمَالِيَّة ُ، وَقِيلَ: مَعْرِفَتُهَا.
وَالأُصُولِيُّ: العَارِفُ بِهَا، وَبِطُرُقِ اسْتِفَادَتِهَا ، وَمُسْتَفِيدِهَ ا.
وَالفِقْهُ: العِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّ ةِ.
وَالحُكْمُ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى المُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ المُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ.
وَمِنْ ثَمَّ: لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ.
رد: شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
(وَالحُكْـمُ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى المُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ المُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ):
(الحُكْـمُ):
المراد بالحكم هنا الحكم الشرعي الذي هو من علم الأصول ثمرة تمامه، وصُرَّةُ إحكامه.
واحتيج إلى تعريفه في التصنيف الأصولي لأمرين:
أحدهما: أن الحكم هو ثمرة الأصول وغايته القصوى، ولا بد قبل الشروع في الأصول من الإحاطة بثمرته وفائدته، حتى لا يقع العبث في عمل مَن شرع في تعلُّمِهِ من غير دراية بقيمته ووظيفته المنوطة به.
والآخر: أنه عرَّف الفقهَ - قبلا - بالعلم بالأحكام؛ فاحتاج إلى تعريف الحكم، حتى يفهم الطالب حد الفقه على تمامه.
والمراد بالحكم هنا: الحكم الشرعي، على اعتبار أن لام التعريف فيه للعهد الذهني، إذ إن الحكم الشرعي هو مراد الأصوليين من بحوثهم.
(وَالحُكْـمُ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى):
المراد بالخطاب الكلام الموجَّه إلى آخر بقصد الإفهام، وللأصوليين اعتراض مشهور في هذا السياق متعلق بقدم الخطاب، فكيف يتعلق القديمُ بالمُحْدَثِ، والجواب الإجمالي: أن هذا الاعتراض مبنيٌّ على مذهب الأشاعرة في إثبات الكلام النفسيِّ، والقول بِقِدَمِ الكلام، وسيأتي تفصيل القول فيه عند بيان قول المصنِّفِ – رحمه الله -: ((وَالكَلَامُ فِي الأَزَلِ: قِيلَ: لَا يُسَمَّى خِطَابًا، وَقِيلَ: لَا يَتَنَوَّعُ)).
(وَالحُكْـمُ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى المُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ المُكَلَّفِ):
إضافة الخطاب إلى مسمى لفظ الجلالة أخرج به خطاب غيره، من خطاب العقل الموجب والمحيل في المبادئ العقلية الضرورية البدهية، وأخرج خطاب غيره من الآباء والمشايخ والسادة، ومن كل خطاب يحمل معنى الطلب من غير الشارع الحكيم، فإنه لا حجة فيه مطلقا، إلا ما اعتبره الشرع القويم، فضلا عن أن يصادم الأمر الشرعي، ولذلك نحى الله – عز وجل - باللائمة على من اعتذر عن كفره ومخالفته بتقليد الآباء أو السادة:
فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}، وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}، وقال تعالى - في إنكار تقليد الآباء والأجداد -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
وقد يستفيد غير الكتاب والسنة حُجيَّتَهُ من الدليل الشرعي؛ فيكون حاكما؛ كتحكيم العقل في القياس العقلي المصلحي، وكالاجتهاد في فهم النص، وتحكيم المحكَّمين، واعتبار تقويم المقوِّمِينَ شرعا؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}.
وتقييد الخطاب بفعل المكلف أخرج أربعة أنواع من الخطاب مما لا يتعلق بفعل المكلف؛ هي:
ـ الخطاب المتعلق بذات الله - عز وجل – وأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ كقوله تعالى: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ}.
ـ خطاب الله المتعلق بأفعاله سبحانه وتعالى؛ كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
ـ خطاب الله المتعلق بالجمادات؛ كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}.
ـ خطاب الله المتعلق بذوات المكلفين؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}.
(وَالحُكْـمُ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى المُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ المُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ):
في الحق أن هذه العبارة بالغة الأهمية في تحرير حدِّ الحكم الشرعي؛ لأنها خَلَّصَتْ حدَّ الحكم من إيراد قويٍّ يَرِدُ على التعريفات الأخرى له عند بعض الأصوليين: مفاد هذا الإيراد أن هناك نصوصا متعلقة بأفعال المكلفين لا لقصد الامتثال، فتكون داخلة في حد الحكم لولا هذا الاحتراز؛ من ذلك قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، وقوله تعالى: {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا}، وقوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، فهذه النصوص جميعا وأمثالها متعلقة بأفعال المكلفين، لكنها لم ترد بقصد الامتثال، فلا تدخل في الحد، وهي داخلة في الحد لولا تقييده بفعل المكلف من حيث إنه مكلف، وهذا الإيراد يفتح باب البحث والتأمل في تعريف الفقه، بغض النظر عن تقييده بما يراد منه الامتثال، فَلْيُتأمَّلْ.
(وَالحُكْـمُ: خِطَابُ اللهِ تَعَالَى المُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ المُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ):
إيراد على تعريف الحكم:
تعريف الحكم بخطاب الشارع هو ما اعتمده جمهرة الأصوليين، لكنه يرد عليه أن الحكم الشرعي نسبة كلامية موضوعها ما يصح فعلا للمكلف، ومحمولها يفيد معنى الطلب للفعل أو الترك بإلزام، أو بغير إلزام، أو بتخيير، وخطاب الشارع، لا يسمى حكما على هذا المعنى؛ فإنك إذا ذهبت تقول لعربي فصيح: ((إن قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} حكم شرعي، ويجب عليك امتثال هذا الحكم))، لاتَّهَمَ بيانك بالعِيِّ، ولسانك بالعُجْمة؛ فإن الحكم الشرعي إنما هو مدلول هذا الخطاب ومقتضاه لا الخطابُ نفسُهُ، وهذا المعنى ينسبه الأصوليون إلى الفقهاء، ولم أقف عليه في كلامهم، (انظر نسبة هذا القول إلى الفقهاء في: الإحكام للآمدي: (1/90-91)، روضة الناظر لابن قدامة: 1/95)، ولذلك عرَّف ابن أمير الحاج الأحكام الشرعية بأنها ((آثار خطابِهِ تعالى المتعلِّقِ بأفعال المكلفين طلبا أو وضعا)) انظر: التقرير والتحبير: 1/18.
وحد الحكم بمدلول الخطاب هو المنقول هن الإمام أحمد رضي الله عنه؛ انظر: شرح الكوكب المنير: 1/333، التحبير شرح التحرير للمرداوي: 2/790.
رد: شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
(وَمِـنْ ثَـمَّ: لَا حُكْمَ إِلَّا للهِ):
أي: لأن الحكم خطاب الله؛ اختص الحكم بالخطاب الشرعي؛ فلم يفترقا، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا حكم إلا لله عز وجل، وهذه المسألة مرتبطة بما يأتي بعدها من الكلام على التحسين والتقبيح العقلي، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام في خلاف المتكلمين فيه، وتحرير مذاهبهم، ومذاهب الأصوليين، والكلام على الحاكم الذي منه تستفاد الأحكام الشرعية، وليكن هذا - بعون الله تعالى وحُسن توفيقه - أوَّلَ موضوعات الحلقة القادمة.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
رد: شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
أين أنت يا شيخنا الكريم؟!
اشتقنا لدروسكم، أسأل الله أن ييسر لكم الأمور.
رد: شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
بارَك الله في الشيخ مصطفى، وأصلح بالَه، في انتظار الحلقة الخامسة - إن شاء الله.
رد: شرح جمع الجوامع للسبكي ـ الحلقة الرابعة ـ الكلام في المقدمات (1)
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو أروى الدرعمي
بارَك الله في الشيخ مصطفى، وأصلح بالَه، في انتظار الحلقة الخامسة - إن شاء الله.
أين أنت يا شيخُ مصطفى؟! لقد اشتَقنا إلى كتاباتِك!