اعلم أن العلماء قد حضوا على تحري حسن السمت وتعلمه:
قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
فصْلٌ ( فِي تَعَلُّمِ الْأَدَبِ وَحُسْنِ السَّمْتِ وَالسِّيرَةِ وَالْمُعَاشَرَة ِ وَالِاقْتِصَادِ ) .
وَيُسَنُّ أَنْ يُتَعَلَّمَ الْأَدَبُ وَالسَّمْتُ وَالْفَضْلُ وَالْحَيَاءُ وَحُسْنُ السِّيرَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا(الآدا الشرعية)اهـ.
(6/1)وهذه أهمها ألا وهو تعمير الباطن بالطاعة و إصلاحه بالإخلاص لله تعالى:
وأصل الاحتفاء بحسن السمت الظاهر هو دلالته,في الغالب على صلاح الباطن. ومن هنا لا سبيل إلى التماس السمت الحسن بدون إصلاح القلب.
وقال ابن عبد البر قال سفيان بن حسين : أتدري ما السمت الصالح ؟ ليس هو بحلق الشارب ولا تشمير الثوب ، وإنما هو لزوم طريق القوم ، إذا فعل ذلك ، قيل قد أصاب السمت ، وتدري ما الاقتصاد ؟ هو المشي الذي ليس فيه غلو ولا تقصير (التمهيد ج : 21 ص 68 ).
وذكر الذهبي في الكبائر عن محمد بن مبارك الصوري قال : أظهر السمت في الليل فإنه أشرف من إظهاره بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين و السمت بالليل لرب العالمين.
وفي ترتيب المدارك:سمع يحيى بن يحيى يقول في قول الله تبارك وتعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التَّقوى. قال: لباس التقوى، السكينة والوقار وحسن السمّت. ثم رجع يحيى يقول:مع العمل بما يشبه ذلك.
(6/2)الانتفاع بالقدوات والإكثار من مجالستهم:
وقد حرص السلف على تتبع القدوات ممن عرفوا بحسن السمت سيما من كان يشبه في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بغرض ملازمتهم والاقتداء بهم,ومن ذلك أثر عبد الرحمن بن زيد رحمه الله:
عبد الرحمن بن يزيد – رحمه الله – قال : « سألتُ حذيفةَ عن رجل قريب السَّمْتِ والهَدي والدَّلِّ من رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- حتى نأخذَ عنه ؟ فقال : ما نعلم أحدا أقربَ سَمْتا وهَدْيا ودَلاّ بالنبيِّ –صلى الله عليه وسلم- من ابنِ أمِّ عبد ، حتى يتوارى بجدار بيته، ولقد عَلِمَ المحفُوظُون من أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم- : أن ابن أم عبد أقربُهم إلى الله وسيلة » أخرجه البخاري.
وعن إبراهيم، عن علقمة قال: كان عبد الله يشبه النبي، صلى الله عليه وسلم، في هديه ودله وسمته، وكان علقمة يشبه بعبد الله (سير أعلام النبلاء).
وعلقمة هو الامام، الحافظ، أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي، الكوفي,جاء في ترجمته رحمه الله:
لازم ابن مسعود حتى رأس في العلم والعمل، وتفقه به العلماء، وبعد صيته.
وكان يشبه بابن مسعود في هديه ودله وسمته. (سير أعلام النبلاء).
وفي (العلل) قال الحسن بن اسماعيل: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون أقل من خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الادب وحسن السمت.اهـ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى سَمْتِهِ وَإِلَى صَلَاتِهِ وَإِلَى حَالِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَمَاعَةٍ . (الآداب الشرعية).
وقال سحنون: كنا نختلف عند البهلول نتعلم منه السمت.(ترتيب المدارك).
وظهر ذلك على بعض السلف ممن شابه أباه في السمت والهدي:
فمنهم السيدة فاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم,وقد أوردنا حديث عائشة رضي الله عنها آنفاً.
ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب:
قال ابن حبان في ترجمته: كنيته أبو عمر كان يشبه أباه في السمت والهدى وكان يخضب بالحناء وكان أشبه ولد عمر بن الخطاب به.
(ثقات ابن حبان4/304).
قال الامام أحمد وابن راهويه: أصح الاسانيد: الزهري عن سالم عن أبيه، كان يشبه أباه في السمت والهدى.(الكامل).
ومنهم من شابه شيخه في السمت كمثل علقمة بن قيس النخعي وشيخه ابن مسعود الذي ذكرناه آنفاً.
ومن التماس القدوات إدمان النظر في كتب السلف وسيرهم واجتهادهم ومقارنة ما كانوا عليه من الهدي بحالنا.وهذه نافعة سيما عند انعدام القدوات وقلة الشيوخ.
(6/3) التزام الصمت ومراقبة اللسان:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ »البخاري ومسلم.
عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم عليك بطول الصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك رواه الطبراني وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما( من صمت نجا ) .
قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 62 :أخرجه الترمذي ( 2 / 82 ) و الدارمي ( 2 / 299 ) و أحمد ( 2 / 159 ، 177 )
عن أنس رضي الله عنه :(رحم الله امرءا تكلم فغنم أو سكت فسلم).
حسنه الشيخ الألباني, انظر حديث رقم : 3492 في صحيح الجامع .
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن النضر الحارثي رحمه الله:كان يقال كثرة الكلام تذهب الوقار.
كما روى عن يحى ابن ابي كثير رحمه الله:خصلتان إذا رأيتهم في الرجل فاعلم أنما ورائهما خيرٌ منهما:إذا كان حابساً لسانه محافظاً على صلاته.
وللحافظ السيوطي رحمه الله رسالة لخص فيها كتاب الصمت لابن أبي الدنيا سماها(حسن السمت في الصمت).وأورد فيها أبياتاً لابن المبارك رحمه الله:
الصمت زينٌ للفتى--- من منطقٍ في غير حينه
والصدق أجمل للفتى---في العقد عند يمينه
وعلى الفتى بوقاره---سمتٌ يلوح على جبينه
(6/4) التزام الهدي الظاهر في اللباس وإعفاء اللحية وغيرها:
ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إني لأحب النظر إلى القارئ أبيض الثياب.رواه مالك بلاغاً وعن طريقه أبونعيم في حلية الأولياء.
قال الباجي: المراد بالقارئ العالم استحسن لاهل العلم حسن الزي والتجمل في أعين الناس(تنوير الحوالك).
وفي حلية طالب العلم:
لا تسترسل في (التنعم والرفاهية)، فإن "البذاذة من الإيمان"، وخذ بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه في كتابه المشهور، وفيه:
"وإياكم والتنعم وزي العجم، وتمعددوا، واخشوشنوا 000".
وعليه، فازور عن زيف الحضارة، فإنه يؤنث الطباع، ويرخى الأعصاب، ويقيدك بخيط الأوهام، ويصل المجدون لغاياتهم وأنت لم تبرح مكانك، مشغول بالتأنق في ملبسك، وإن كان منها شيات ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتاً صالحاً، والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديد له، وهل اللباس إلا وسيلة التعبير عن الذات؟!
فكن حذراً في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء، والتكوين، والذوق، ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن، والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من:
الرصانة والتعقل.
أو التمشيخ والرهبنة.
أو التصابي وحب الظهور.
فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالا لقائل، ولا لمزا للامز، وإذا تلاقى ملبسك وكيفية لبسك بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم الشرعي، كان أدعى لتعظيمك والانتفاع بعلمك، بل بحسن نيتك يكون قربة، إنه وسيلة إلى هداية الخلق للحق.
وفي المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه:"أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب".
أي: ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.
والناس - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعضفإياك ثم إياك من لباس التصابي، أما اللباس الإفرنجي، فغير خاف عليك حكمه، وليس معنى هذا أن تأتى بلباس مشوه، لكنه الاقتصاد في اللباس برسم الشرع، تحفه بالسمت الصالح والهدي الحسن.
وتطلب دلائل ذلك في كتب السنة الرقاق، لا سيما في "الجامع" للخطيب.
ولا تستنكر هذه الإشارة، فما زال أهل العلم ينبهون على هذا في كتب الرقاق والآداب واللباس والله أعلم)اهـ.
ومن علامات السمت الظاهر وهدي الأنبياء إعفاء اللحية:
وفي هذا كلام نفيس للعلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تفسير قوله تعالى:( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (سورة طه/94). وأورده هنا كاملاً لنفاسته وتعلقه بموضوعنا:
يقول رحمه الله:
(هذه الآية الكريمة بضميمة آية "الأنعام" إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها. وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} . ثم إنه تعالى قال بعد أن عدّ الأنبياء الكرام المذكورين {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فدّل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا. لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما بيّنا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة "المائدة" وقد قدّمنا هناك: أنه ثبت في صحيح البخاري: أن مجاهداً سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في "ص" قال: أو ما تقرأ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة "الأنعام" ، وعلمت أن أمره أمر لنا. لأن لنا فيه الأسوة الحسنة، وعلمت أن هارون كل موفراً شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} لأنه لو كان حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته, تبيّن لك من ذلك بإيضاح: أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم. والعجب من الذين مضخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة، إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية. وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم
صورة. والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها: ليس فيهم حالق. نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقاً، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه).(أضواء البيان 4/162).
ومن ثمرات الإلتزام بالهدي الظاهر ما يتبعه غالباً من صلاح الباطن.وقد فصل شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة في الإقتضاء وأورده هنا بكماله لنفاسته قال رحمه الله:
(ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالاً.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له.
فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاععن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد) اهـ.