تجديد علم الأصـول عند الشـوكاني رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان الأساس الثاني الذي أقام عليه الشوكاني تجديد المنهج الفقهي هو تجديد علم أصول الفقه بتحقيق الحق منه. وتمثلت مبررات هذا العمل المنهجي في أمرين:
الأول: أن أصول الفقه هو منهج استنباط الأحكام الفقهية، وأي تجديد في الفقه يقتضي تجديداً في أصوله.
الثاني: أن التراث الأصولي صار يؤخذ مسلمات لا مجال لنقاشها، وبالتحقيق والتمحيص يتبيّن أن منه ما لا مستند له من الشرع، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة وقواعده المحررة تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن له المنازعون وإن كانوا من الفحول، لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسة على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيء منه أيدي الفحول وإن تبالغت في الطول»
وقد نتج عن هذا التصور الذي استقر في العقل الفقهي والأصولي عن علم أصول الفقه تكريس التقليد، وهو ما جعل الرأي البحت في نظر الشوكاني يحل محل الدليل في التفكير الأصولي والفقهي حيث قال: «....هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهـدين بالرجـوع إليه إلى التقليد من حيث لا يشعرون، ووقع غالب المتمسكيـن بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون .
فهذه المبررات حملت الشوكاني على تصنيف كتابه "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول "، والذي التزم فيه منهجاً خاصاً قوامه عدم ذكر «المبادئ التي يذكرها المصنفون فـي هذا الفن، إلا ما كان لذكره مزيد فائدة يتعلق بها تعلقاً تاماً وينتفع بها فيه انتفاعاً زائداً "
مجالات تجديد علم الأصول عند الشوكاني .
لقد أفصح الإمام الشوكاني في مقدمة كتابه إرشاد الفحول عن المقصد الذي توخاه من تحقيق علم أصول الفقه، وعن مجالات هذا التحقيق فقال: «حملني ذلك بعد سؤال جماعة لي من أهل العلم على هذا التصنيف في هذا العلم الشريف قاصداً به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحاً لما يصلح منه للرد إليه وما لا يصلح للتعويل عليه، ليكون العالم على بصيرة في علمه، يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيق بالقبول حجاب»
وهذه المقالة تبين أن تجديد علم أصول الفقه عنده هو تحقيقه وتمحيصه، وأنه يكون من خلال مجالين اثنين:
المجال الأول: بيان الراجح من المرجوح والسقيم من الصحيح.
والمجال الثاني: بيان ما يصلح للرد إلى علم أصول الفقه وما لا يصلح.
وفي الآتي تفصيل المجالين:
المجال الأول: بيان الراجح من المرجوح والسقيم من الصحيح:
وأهم ما قام به الشوكاني في هذا المجال تحقيق بعض المفردات الأصولية نظراً لأهميتها، ويمكن الاكتفاء في هذا المقام بالتمثيل لأهم المفردات التي تساعد على تصور فكره الأصولي.
المفردة الأولى: نظرية الاجتهاد:
وتناولها من زوايا متعددة أهمها:
أولاً: ضبط مفهوم الاجتهاد والمجتهد:
لقد أورد الشوكاني في تحديده لمفهوم الاجتهاد تعريفات عديدة، منها تعريف ابن الحاجب: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي» ، وتعريف الآمدي: «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه»
وغيرها من التعريفات التي اشتملت على قيود مانعة من دخول أفراد غير المعرّف فيها.
لكن التعريف الذي ارتضاه الإمام الشوكاني وتولى شرح قيوده قيداً قيداً هو: «بذل الوسع في سبيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط " والفارق بين التعريفات التي ساقها وبين هذا التعريف الذي تبناه أن الأولى ليست شاملة لجميع أفراد المعرّف، إذ أنها ركزت على عنصرين: المستثمر للحكم، أي المجتهد، وثمرة الاجتهاد، ولم تتضمن طرق استثمار الأحكام أي الاستنباط، وهو ما اشتمل عليه التعريف الذي تبناه. وقد استثمر الشوكاني هذا القيد في ضبط مفهوم المجـتهد حيث قال: «ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظـاهراً، أو حفظ المسـائل، أو استعلامها من المفتي، أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي، فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي» .
وفحوى كلامه هذا أن المجتهد هو الذي يستطيع نيل الحكم الشرعي بطريق الاستنباط من الكتاب والسنة، وأن مجرد حفظ فروع الفقه ومسائله في مذهب ما، لا يجعل من صاحبه مجتهداً. من هذا المنطلق لم يعد الشوكاني ما اصطلح على تسميته - بعد استقرار المذاهب وشيوع التقليد- بمجتهدي المذهب (وهم نوعان: مجتهدو التخريج ومجتهدو الفتيا) من أهل الاجتهاد.
والسبب في ذلك أن النوع الأول يقتصر عمله على تطبيق العلل الفقهية التي استخرجها إمامه فيما لم يعرض له من مسائل، وليس له أن يجتهد في مسائل قد نص عليها في المذهب إلا في دائرة معيّنة، وهي أن يكون استنباط الإمام فيها مبنياً على اعتبارات لا وجود لها في عرف المتأخرين
فالاستنباط عند هذا النوع من العلماء لا يكون من الكتاب والسنة، بل من أقوال الإمام المتبّع. أما النوع الثاني أي مجتهدو الفتيا فعملهم يقتصر على ترجيح بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو بغيره مما لا يعد استنباطاً أصلاً .
ثانياً: ضبط شروط الاجتهاد:
تعرض الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة " إلى شروط الاجتهاد بشكل إجمالي ، ثم توسّع الأصوليون بعده في تفصيل هذه الشروط، ويعد عمل الإمام الغزالي خلاصة ما انتهى إليه العلماء السابقون في ضبط شروط الاجتهاد، كما أصبح قدوة لمن بعده في اعتماد منهج التخفيف في الشروط الأساسية. وبعد استقرار المذاهب وشيوع التقليد توسعت كتب المتأخرين في الحديث عن شروط الاجتهاد، وسبب ذلك أن العلماء قسّموا الاجتهاد بالنسبة إلى المجتهد إلى: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيّد، وقسّموا هذا الأخير إلى مراتب، الأمر الذي اقتضى منهم بيان شروط كل مرتبة.
أما الشوكاني فقد اعتمد منهجاً خاصاً في بيان شروط الاجتهاد يتوافق ونظريته العامة في التقليد والاجتهاد، ويخدم دعوته التجديدية للفقه وأصوله.. ويمكن تحديد معالم هذه المنهجية في النقاط الآتية:
- حصر حديثه فـي شـروط الاجـتهاد على المجتهد المطلق، لأنه لا يدرج باقي الأقسام والمراتب ضمن دائرة الاجتهاد.
- تأكيده الشروط التأهيلية الأساسية التي يجب تحققها في المجتهد، بحيث إذا تخلف أحدها لم يكن أهلاً لهذا المنصب، وهي: العلم بنصوص الكتاب والسنة؛ معرفة مسائل الإجماع لمن يقول بحجيته؛ العلم باللغة العربية؛ العلم بأصول الفقه؛ العلم بالناسخ والمنسوخ؛ وأعرض عن الشروط التي لا يتوقف عليها وجود ملكة الاجتهاد، وبلوغ درجة المجتهد، وإنما تسمو بصاحبها إلـى درجة الكمال. وهي شروط أدى التمسك بها عند المتأخرين إلى الحكم باستحالة تحقيق جميعها في عالم واحد، ومن ثمّ الإعلان عن شغور منصب الاجتهاد.
- عدم الإطناب في شرح الشروط غير المكتسبة، كالبلوغ، والعقل، والاكتفاء بذكرها فقط لأنها شروط التكليف فهي بدهية.
- النظر الاجتهادي في مناقشة الشروط الأساسية، وتحـقيق ما يراه الحق بعد مناقشة آراء العلماء في تفاصيل هذه الشروط.
ففي الشرط الأول، وهو العلـم بنصوص الكتاب والسنة، وافـق ما استقر عليه العلماء من تخفيف فقال: «ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام» ولكن كانت له بعض الاعتراضات في التفاصيل. ففي العلم بالكتاب، اعترض على الغزالي وابن العربي تقديرهما آيات الأحكام بخمسمائة آية فقال: «ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح، وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال .
وفي العلم بالسنة، علّق على اختلاف العلماء في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة، إذ قيل خمسمائة، وقيل ألفٌ ومائتين، وقيل غير ذلك، فقال: «ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط، وبعضه من قبيل التفريط. والحق الذي لا شـك فيه، ولا شبهة أن المجتهد لابد أن يكون عالماً بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن، كالأمهات الست وما يلحق بها، مشرفاً على ما اشتملت عليه المسانيد، والمستخرجات، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه، بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك .
وقد ردّ الشوكاني بكلامه هذا على ما ذهب إليه الغزالي، وجماعة من الأصوليين، من أن المجتهد يكفيه أن يكون عنده أصلٌ يجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود كما عدّ الشوكاني من مستلزمات العلم بالسنة، العلم بمصطلح الحديث فقال: «وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة»، وذكر تخفيفاً في هذا الشرط فقال:
«وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجـرح وما لا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هـو مردود، وما هو قادح من العلل، وما هو غير قادح» .
وفي الشرط الثالث وهو العلم باللغة العربية، أكد أنه على المجتهد «أن يكون عالماً بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه» ولا يشترط في نظره «أن يكون حافظاً لها عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكناً من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك» ، ولكنه رفض التخفيف الذي هو محل اتفاق جميع الأصوليين، وهو أنه يكفي المجتهد أن يعلم من اللغة والنحو القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال، ولا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرّد . وإنما اشترط على المجتهد في الأحكام أن يبلغ درجة الاجتهاد في العربية وعلومها إذ قال:
«وإنما يتمكن من معرفة معانيها، وخواص تراكيبها، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا، من كان عالماً بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان، حـتى يثبت له في كل فن من هذه ملكة يسـتحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظراً صحيحاً، ويستخرج منه الأحكام استخراجاً قوياً» .
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الرأي لم يذهب إليه من الأصوليين غير الإمام الشوكاني والإمام الشاطبي , وإذا حاولنا فهم خلفية هذا الموقف من خلال كلامه السابق يتبيّن أن الشوكاني اشترط الاجتهاد في علم اللغة للمجتهد، لأن ذلك يمكنّه من النظر المستقل في الأدلة، ويعصمه من التقليد. ذلك لأنه إذا وقع نزاع، أو خلاف في معنى، أو حكم توقف عليه فهم نص شرعي، تعيّن عليه بذل الوسع في معرفة الحق بين المختلفين، ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية، أو البيانية في تقرير حكم إلاّ أن يستبين له رجحانه بدليل، وإلا كان مقلداً. فالتقليد في اللغة في نظر الشوكاني يخلّ بحقيقة الاجتهاد.
ومما ترتب على موقفه هذا، رفض ما ذهب إليه بعض الأصوليين، كابن عرفة وابن الوزير من جواز اكتفاء المجتهد بقراءة مختصر في اللغة العربية، فقال: «ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون - النحو والصرف والبيان - هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الإطلاع على مطوّلاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث، وبصراً في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه. والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية فـي هـذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن».
واستثنى الشوكاني من علوم اللغة علم البلاغة، فلم ير ضرورة الإحاطة به لفهم كتاب الله تعالى، لأنها ليست لازمة لاستخراج الأحكام، وإنما هي لمعرفة بلاغة القرآن الكريم وما عليه من إعجاز .
أما في الشرط الرابع وهو العلم بأصول الفقه، فقد أكد الشوكاني أنه على المجتهد «أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه؛ لأنه عماد الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه»
ومقصوده بالعلم هنا هو النظر المستقل وعدم التقليد، وهو ما جعله يقول: «وعليه أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصل إلـى ما هو الحق فيها، فإنه إذا فعل ذاك تمـكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل، وإذا قصر فـي هذا الفن صعب عليه الرد وخـبط فيه وخلط»
وفحوى كلام الشوكاني أنه من كان مقـلداً في القضايا الأصولية، لن يكون مستقلاً في استنباطه للفروع الفقهية، ذلك لأن النتائج تتبع المقدمات، فمن لم يكن مجتهداً في إحدى مقدمات الاجتهاد، فليس بمجتهد.
إن الدراسة التحليلية لشروط الاجتهاد عند الشوكاني تبيّن أن العلوم التي ضمّنها تلك الشروط هي المطلوبة لبلوغ رتبة الاجتهاد، وأن التبحر في غيرها ليس مراداً للقدرة على الاجتهاد، ولا مانع منه عند الإمكان، فإن به فقط يظهر التفاوت بين المجتهدين، وهذا يؤكد قناعة أساسية في فكر الشوكاني التجديدي، وهي أن الاجتهاد يسّره الله تعالى لعباده وشروطه مقتدر على تحصيلها، فلا رخصة في التزام التقليد، ولا مبرر للحكم بغلق باب الاجتهاد بدعوى عدم وجود من هو أهل لممارسته، وهو ما لخصه بقوله:
«والذي أدين الله به أنه: لا رخصة لمن علم لغة العرب، ما يفهم به كتاب الله، بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيـز، أو السنة المطهرة، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحداً أو جماعة أو الجمهور»
ثالثاً: مراتب الاجتهاد:
فرق الشوكاني في حديثه عن شروط الاجتهاد بين نوعين من العلوم: علوم مطلوبة لبلوغ رتبة الاجتهاد، وهي التي ضمّها شروط الاجتهاد الخمسة، وعـلوم ليست شـرطاً لبلوغ رتبة الاجـتهاد، ولكن يظـهر بها التفاوت بين المجتهدين. من هذا المنطلق جعل مراتب الاجتهاد مرتبتين:
المرتبة الأولى: هو المجتهد الذي كملت له جميع أنواع علوم الدين، وصار قادراً على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء، وكيف شاء، فيصير ببلوغه هذه المرتبة من العلم إماماً مرجوعاً إليه، مستفاداً منه مأخوذاً بقوله، مدرساً ومفتياً ومصنفاً، وهذه الطبقة العالية من طبقات المجتهدين
وعلو هذه المرتبة تقتضي في نظر الشوكاني الإحاطة بعلوم أخرى غير تلك التي حوتها شروط الاجتهاد، منها علم المنطق الذي يمكّن المجتهد من إدراك الحجج العقلية واستيعاب المباحث المنطقية التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد .ومنها علم الكلام لمعرفة حقيقة الاعتقادات وإنصاف كل فرقة بالترجيح أو التجريح على بصيرة ،كما يفيد في حسن فهم علوم أخرى كعلم التفسير وعلم تفسير الحديث. ومنها علم التاريخ، عده من العلوم المطلوبة لهذه الطبقة من المجتهدين .وكثيراً ما يوظّف الشوكاني هذا العلم في تحقيق بعض المسائل الفقهية أو الأصولية، كما فعل فـي مسألة خلو العصر عن المجتهد، إذ أثبت بالدليل التاريخي عدم وقوع الخلو، كما سيأتي بيانه .ومنها العلوم الفلسفية كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب.
هذا، وقد حذر المجتهد من أن يثنيه تنفير بعض أهل العلم من هذه العلوم عن الاشتغال بها قائلاً: « ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها كما قدمنا لك من التقليد، وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم، غير محكوم عليك، واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء»
كما رفض أن يحصر مجتهد هذه المرتبة نفسه في دائرة العلوم الشرعية دون التفتح على باقي العلوم، فقال: « ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعاً عظيماً وفائدة جليلة في دفع المبطلين، والمتعصبين، وأهل الرأي البحت، ومن لا اشتغال له بالدليل». وقرر في الأخير أن « العلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنـزلة الرفيعة» .
المرتبة الثانية: المجتهد الذي بإمكانه معرفة ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، ودون أن تتعدى فوائد معارفه إلى غيره كما هو الحال عند مجتهد المرتبة الأولى . وشروط هذا الصنف من المجتهدين هي شروط الاجتهاد الخمسة التي حددها الشوكاني، إذ قال:
«فمن علم بهذه العلوم علماً متوسطاً يوجب ثبوت مطلق الملكة في كل واحد منها صار مجتهداً مستغنياً عن غيره، ممنوعاً من العمل بغير دليل، وعليه أن يبحث عند كل حادثة يحتاج إليها في دينه عن أقوال أهل العلم وكيفية اسـتدلالهم في تلك الحادثـة، وما قالوه، وما رد عليهم به، فإنه ينتفع بذلك انتفاعاً كاملاً، ويضم إلى علمه علوماً، وإلى فهمه فهوماً، وهو وإن قصر عن أهل الطبقة الأولى فليس بمحتاج فيما يتعلق به من أمر الدين إلى زيادة على هذا المقدار ».
رابعاً: إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد:
لقد أخذت إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد حيزاً كبيراً في نظرية الاجتهاد عند الشوكاني، وذلك لاعتبارات ثلاثة:
الاعتبار الأول: أنها كانت المقدمة النظرية التي أُسست عليها دعوى غلق باب الاجتهاد. فقد ادعى من قال بخلو العصر عن المجتهد بجواز ذلك شرعاً وعقلاً من هنا أقام الشوكاني استدلاله ببطلان هذه الدعوى على عدم جوازها شرعاً وعقلاً.
أما الأول فقد استفاده من الحكم الشرعي للاجتهاد، وهو أنه فرض كفاية إذا لم يوجد من يقوم به أثم الجميع، فهو إذن واجب على الأمة الإسلامية، وقد لخص هذا في قوله: «لا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضاً يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، ويدل على ذلك ما صح عنه e من قولـه: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة». وأما عدم الجواز العقلي فاحتج له بأن من طبيعة العلوم والمعارف أن تزداد وتتطور، فقال معترضاً على من ادعوا جواز خلو العصر من مجتهد:
«إن قالوا ذلك باعتبار أن الله عز وجلّ رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأئمة من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات، وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضاً دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيراً لم يكن للسابقين، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دوّنت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنة المطهرة قد دوّنت، وتكلم الأئمة على التفسير والتخريج والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح من قَبْل هؤلاء المنكرين، يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر. فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي» .
الاعتبار الثاني: تغيّر مضمون الإشكالية من جواز الخلو وعدمه إلى جواز وجود المجتهد وعدمه. ذلك لأن الذين قالوا بجواز خلو العصر عن مجتهد لم يكتفوا به، بل تجاوزوا ذلك في الواقع إلى عدم جواز وجود مجتهد في عصرهم، وما بعده، فقد نقل الشوكاني عن الرافعي قوله: «الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم» ، كما نقل عن القَفّال والغزالي والرازي أنه قد خلا العصر عن المجتهد .
والملاحظ هنا أن الإشكالية قد أخذت بعداً آخر، إضافة إلى الإمكان الشرعي والعقليّ، وهو الوقوع التاريخي، وما دام الأمر تعلق بالوقوع الفعلي، لم يجد الشوكاني بداً من الاستناد إلى علم التاريخ لإبطال هذه الدعوى فقال: «إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرافعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم. ومن كان له إلمام بعلم التاريخ والإطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتده أهل العلم في الاجتهاد» .
وزيادة في البيان والتأكيد، لم يقف الشوكاني عند حد استقراء التاريخ الإسلامي عموماً، بل انتقل إلى تاريخ المذهب الشافعي، باعتبار أن العلماء الذين صرحوا بعدم وجود مجتهد شافعية، فقال:
«ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية فها نحن نصرّح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد، فمنهم ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سـيد الناس، ثـم تلميذه زين الدين العراقي، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني، ثم تلميذه السيوطي. فهؤلاء ستة أعلام، كلُ واحدٍ منهم تلميذ من قبله، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة، عالم بعلوم خارجة عنها. ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعداد لبعضهم فضلاً عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل» .
كما حاول الشوكاني أن يفنّد دعوى عدم وجود مجتهد من داخل المذهب الشافعي ذاته، إذ نقل عن الزركشي قوله: «ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد»، ثم علّق قائلاً: «وهذا الإجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي» يقصـد قول الرافعي: «الخلق كالمتفقيـن علـى أنه لا مجتهد اليوم».
الاعتبار الثالث: إن القول بعدم جواز وجود مجتهد اقتضى القول بوجوب تقليد المذاهب المبتدعة وحصر الحق فيها وحدها واستقر في العقل الفقهي، كما قال الشوكاني: «أنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها" فأصبح التقليد أمراً واجباً، والاجتهاد أمرًا منكراً.
يؤكد هذا ما نقله الشوكاني على لسان أنصار المذاهب إذ قال: «فقالت طائفة منهم ليس لأحـد أن يجتهد بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، والهذيل، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن ابن زياد اللؤلؤي، وإلى هذا ذهب غالب المقلدة من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: \"ليس لأحد أن يجتهد بعد المائتين من الهجرة\"، وقال آخرون: ليس لأحد أن يجتهد بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك، وقال آخرون ليس لأحد أن يجتهد بعد الشافعي»
والملاحظ في هذا الاستشهاد أن الشوكاني ركز على مدعي خلو العصر عن المجتهد المطلق المستقل، لأنه لا يعتبر غيره من مجتهدي المذاهب من أهل الاجتهاد كما سبق بيانه. ولكن في الحقيقة، الأمر تعدى الحكم بانعدام المجتهد المطلق إلى الحكم بانعدام مجتهد المذهب أيضاً. قال صاحب \"فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت\": «ثم إن من الناس من حكم بوجوب الخلو من بعد العلامة النسفي، واختتم الاجـتهاد به، وعنوا الاجتـهاد فـي المذهـب. وأما الاجتهاد المطلق، فقالوا اختتم بالأئمة الأربعة، حتى أوجبوا تقليد واحد من هؤلاء الأربعة "
وقال عالم الأقطار الشامية ابن أبي الدم، بعد سرده شروط الاجتهاد المطلق: «هذه الشرائط يعز وجودها فـي زماننا فـي شخص من العلماء، بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق... بل ولا مجتهد في مذهب إمام تعتبر أقواله وجوهاً مخرجة على مذهب إمامه»
والحاصل أن الشوكاني بعد دراسته التحليلية لأبعاد ومرتكزات إشكالية جواز خلو العصر عن المجتهد، خلص إلى أن وقوع الخلو ممنوع شرعاً وعقلاً وواقعاً، و أنها دعوى باطلة لا يلزم بها أحد فقال:
«وبالجملة فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة، فإن أمره أوضح من كل واضح، وليس ما يقوله من كان من أُسراء التقليد بلازم لمن فـتح الله عليه أبواب المعارف، ورزقـه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال.. ومن حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عزّ وجلّ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبّدهم الله بالكتاب وبالسنة»
خامساً: تجزؤ الاجتهاد:
من المسائل التي ميّزت نظرية الاجتهاد عند الشوكاني وجعلتها أساس التجديد الفقهي، قضية تجزؤ الاجتهاد. والمقصود بتجزؤ الاجتهاد أن يجتهد العالم في استنباط بعض الأحكام دون بعض .وأول من أثار هذه الإشكالية وحكم بجوازها الإمام الغزالي في كتابه المستصفى([117]) وتبعه في ذلك جمهور الأصوليين كالآمدي، والقرافي، وابن القيم، وابن الهمام، وابن دقيق العيد، وابن السبكي، وابن قدامة، وغيرهم . حجتهم في ذلك أنه قد تمْكُن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد.
أما الإمام الشوكاني فقد ذهب إلى عدم جواز تجزئة الاجتهاد لسببين: أولهما: تعلق علوم الاجتهاد بعضها ببعض.. وثانيهما: أن ثبوت ملكة الاجتهاد تجعل العالم قادراً على الاجتهاد في جميع أبواب ومسائل الفقه. وهو ما سطره في قوله:
«إن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحجزة بعض، ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة، فإنها إذا تمت كان مقتدراً على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن احتاج بعضها إلى فريد بحث، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك، ولا يثق من نفسه لتقصيره، ولا يثق به الغير. لذلك فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة، فتلك الدعوى تبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهاداً مطلقاً، فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله»
ثم إن شدة تمسك الشوكاني بمنع تجزء الاجتهاد جعلته يرفض التفريق بين معرفة باب من أبـواب الفقه، وبيـن معرفة مسـألة من مسـائله، إذ أجاز بعض العلماء الاجتهاد في الأول ومنعوا من الثاني. وقد سجل هذا الرفض بقوله:
«ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزؤ الاجتهاد، فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانـع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه فـي باب دون باب، أو فـي مسألة دون مسألة، فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك، لأنه لا يزال يجوّز الغير ما قد بلغ إليه علمه، فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف، وتتضح مجازفته بالبحث معه»
إن محاولة فهم موقف الشوكاني هذا فهماً يحقق الارتباط العضوي والانسجام الداخلي بين هذا العنصر والعناصر السابقة في نظرية الاجتهاد، يؤكد أن رفض الإمام الشوكاني لمبدأ تجزؤ الاجتهاد سببه أمرين: أولهما: إزالة فكرة صعوبة الاجتهاد وتعذره، وتأكيد يسر شروطه، وتحصيل ملكته، فإذا ثبتت ملكة الاجتهاد، تمكن العالم من الاجتهاد في كل الأحكام. ثانيهما: أن الاجتهاد الجزئي كان هو المنفذ الذي يتنفس منه العلماء بعد غلق باب الاجتهاد. قال الزحيلي: «.... كان - الاجتهاد الجزئي- هو النافذة التي استطاع بها العلماء تخفيف غلو أو سد باب الاجتهاد، نزولاً تحت عامل الضرورة أو الحاجة التي تصادف العلماء في كل زمن للإفتاء في حكم الحوادث المتجددة»
وحيث إن الإمام الشوكاني قد أبطل هذه الدعوى وفنّد مرتكزها الشرعي، وهو جواز خلو العصر عن المجتهد، فما الداعي إلى فتح هذا المنفذ - القول بتجزؤ الاجتهاد - خاصة وأنـه لا يرى قـيام فرض الاجـتهاد إلاّ بالمجتهد المطلق، وغيره ليس معدوداً من أهل الاجتهاد؟
يتبع ان شاء الله ...
هذا المبحث منقول عن كتاب : معالم تجديد المنهجي الفقهي الشوكاني نموذجا .
للباحثة : حليمه بوكروشه وفقها الله .
رد: تجديد علم الأصـول عند الشـوكاني رحمه الله تعالى
يُنظر هذا البحث/ الكتاب :
http://majles.alukah.net/showthread....250#post390250
ففيه طرح أصولي تجديدي أحسبه عميقاً