من روائع الحكمة للعلامة أبي محمد ابن حزم الظاهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة ، والسلام ، على قائد الغر المحجلين ، نبينا محمد ، وآله ، وصحبه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، أما بعد:
فإن العلامة أبا محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى عام (456) هـ علم من أشهر أعلام هذه الأمة له مكانة عظمى ، ومنزلة عليا في العلم لا تخفى .
وقد برع العلامة أبو محمد ابن حزم في عدد من العلوم : كالفقه ، والحديث ، والأصول ، والأدب والبلاغة والشعر ، والتأريخ والأخبار ، والنسب ، والمنطق ، والطب ..
وقد أوتي جدلا و حجة وبلاغة ، يأسر من اطلع على كلامه ، ويملك قبله ، وتقنعه ، أو تفحمه حججه !
وهو مع ذلك أديب وشاعر مرهف الحس... له قصائد سارت بها الركبان.
وهو حكيم مجرب له نظر ثاقب ، وذهن يتوقد ، وقوة ملاحظة ، وسبر وتقسيم عجيب لأخلاق الناس وآدابهم .
وقد حصلت له خطوب وحروب مع أهل زمانه = جرت عليه محن وفتن ، وابتلاءات كثيرة أثرت في نفسه وخلقه وطبعه، وكشفت له من أمور الناس وما تنطوي عليه أخلاقهم وصفاتهم شيئا كثيرا .
= فكان نتاج ذلك أن كتب كل ما تحصل له من ذلك في كتاب محاولة منه في معالجة أخلاق الناس، وحثهم على الجميل، وكَفِّهِم عن القبيح .
وهذا الكتاب اسمه : (الأخلاق والسير في مداواة النفوس) أو (مداواة النفوس)
يقول في مقدمة كتابه :
.. جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة ، أفادنيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال ، بما منحني عز وجل من التهمم بتصاريف الزمان ، والإشراف على أحواله ، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري ، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له ، والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس ، وعلى الازدياد من فضول المال ، وزممت كل ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب ، لينفع الله تعالى به من يشاء من عباده ممن يصل إليه بما أتعبت فيه نفسي ، وأجهدتها فيه ، وأطلت فيه فكري ، فيأخذه عفواً ، وأهديته إليه هنيئاً ، فيكون ذلك أفضل له من كنوز المال ، وعقد الأملاك ، إذا تدبره ويسره الله تعالى لاستعماله ، وأنا راج في ذلك من الله تعالى أعظم الأجر لنيتي في نفع عباده ، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم ، ومداواة علل نفوسهم ، وبالله أستعين .اهـ
وعزمت أن أنتقي من هذا الكتاب ما استحسنه مع نصيحتي للكل بقراءته كاملا ، فهو بحر مليء بالدرر .. لا غنى لطالب العلم عنه .
والآن وقت الشروع في المقصود :
قال رحمه الله ص 2 :
لذة العاقل بتمييزه ، ولذة العالم بعلمه ، ولذة الحكيم بحكمته ، ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده = أعظم من لذة الآكل بأكله ، والشارب بشربه ، والواطيء بوطئه ، والكاسب بكسبه ، واللاعب بلعبه ، والآمر بأمره ، وبرهان ذلك أن الحكيم العاقل والعالم والعامل واجدون لسائر اللذات التي سمينا ، كما يجدها المنهمك فيها ، ويحسونها كما يحسها المقبل عليها، وقد تركوها وأعرضوا عنها، وآثروا طلب الفضائل عليها، وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر.
ثم قال :
إذا تعقبت الأمور كلها فسدت عليك ، وانتهيت في آخر فكرتك باضمحلال جميع أحوال الدنيا ، إلى أن الحقيقة إنما هي العمل للآخرة فقط ، لأن كل أمل ظفرت به فعقباه حزن ،
إما بذهابه عنك ،
وإما بذهابك عنه ،
ولا بد من أحد هذين الشيئين ،
إلا العمل لله عز وجل ؛ فعقباه على كل حال سرور في عاجل وآجل،
أما العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس ، وإنك به معظم من الصديق والعدو ،
وأما في الآجل فالجنة.
و قال :
لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها ، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق ، وفي حماية الحريم ، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى ، وفي نصر مظلوم.
وباذل نفسه في عَرَض دنيا ، كبائع الياقوت بالحصى!
لا مروءة لمن لا دين له.
العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة.
لإبليس في ذم الرياء حبالة ، وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير خوف أن يظن به الرياء.
العقل والراحة هو اطراح المبالاة بكلام الناس ، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هذا باب العقل ، والراحة كلها.
من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون.
من حقق النظر، وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه ؛ لأن مدحهم إياه ، إن كان بحق وبلغه مدحهم له = أسرى ذلك فيه العجب = فأفسد بذلك فضائله .
وإن كان بباطل فبلغه فَسَرَّه ، فقد صار مسروراً بالكذب ، وهذا نقص شديد.
وأما ذم الناس إياه ، فإن كان بحق فبلغه ، فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه ، وهذا حظ عظيم ، لا يزهد فيه إلا ناقص .
وإن كان بباطل وبلغه فصبر = اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر ، وكان مع ذلك غانماً ؛ لأنه يأخذ حسنات من ذمه بالباطل = فيحظى بها في دار الجزاء ، أحوج ما يكون إلى النجاة بأعمالٍ لم يتعب فيها ، ولا تكلفها ، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا مجنون.
وأما إن لم يبلغه مدح الناس إياه ، فكلامهم ، وسكوتهم سواء ، وليس كذلك ذمهم إياه ؛ لأنه غانم للأجر على كل حال بلغه ذمهم ، أو لم يبلغه.
ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثناء الحسن ذلك عاجل بشرى المؤمن = لوجب أن يرغب العاقل في الذم بالباطل ، أكثر من رغبته في المدح بالحق ، ولكن إذا جاء هذا القول ، فإنما تكون البشرى بالحق لا بالباطل ، فإنما تجب البشرى بما في الممدوح لا بنفس المدح.
ليس بين الفضائل والرذائل، ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس ، وأنسها فقط. فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ، ونفر من الرذائل والمعاصي ، والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي ، ونفرت من الفضائل والطاعات ، وليس هاهنا إلا صنع الله تعالى وحفظه.
طالب الآخرة ليفوز في الآخرة متشبه بالملائكة،
وطالب الشر متشبه بالشياطين،
وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع،
وطالب اللذات متشبه بالبهائم،
وطالب المال لعين المال لا لينفقه في الواجبات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شبه !
ولكنه يشبه الغدران التي في الكهوف، في المواضع الوعرة، لا ينتفع بها شيء من الحيوان.
فالعاقل لا يغتبط بصفه يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد ،
وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله تعالى بها عن السباع والبهائم والجمادات، وهي: التمييز الذي يشارك فيه الملائكة.
فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منهن وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه ،
ومن سر بقوة جسمه، فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسماً ،
ومن سر بحمله الأثقال ، فليعلم أن الحمار أحمل منه ،
ومن سر بسرعة عدوه ، فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه ،
ومن سر بحسن صوته، فليعلم أن كثيراً من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور في ما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه.
رأيت أكثر الناس إلا من عصم الله تعالى ـ وقليل ما هم ـ يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم في الدنيا، ويحتقبون عظيم الإثم الموجب للنار في الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً ! :
من نيات خبيثة يضبون [أي: يضمرون] عليها من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ، ومن لا ذنب له ،
وتمني أشد البلاء لمن يكرهونه ، وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه.
وإنهم لو صفوا نياتهم وحسنوها ، لتعجلوا الراحة لأنفسهم ، وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم ، ولا قتنوا بذلك عظيم الأجر في المعاد ، من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يريدونه ، أو يمنع كونه.
فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عليها ، وأي سعد أعظم من التي دعونا إليها?
رد: من روائع الحكمة للعلامة أبي محمد ابن حزم الظاهري
إذا ارتفعت الغيرة فأيقن بارتفاع المحبة .
الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل ؛ لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره ، وإن يتعدى غيره إلى حرمته ؛ ومن كانت النجدة طبعاً له ، حدثت فيه عزة ، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام.
أخبرني بعض من صحبناه في الدهر عن نفسه ، أنه ما عرف الغيرة قط ، حتى ابتُلي بالمحبة فغار . وكان هذا المخبر فاسد الطبع ، خبيث التركيب ؛ إلا أنه كان من أهل الفهم والجود .
كنا نظن أن العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر ، فوجدنا الأمر بخلاف ذلك ، وهو في الساكنة الحركات أكثر ، ما لم يكن ذلك السكون بلهاً.
التلون المذموم هو التنقل من زي متكلف لا معنى له إلى زي آخر مثله في التكلف ، وفي أنه لا معنى له .
وأما من استعمل من الزي ما أمكنه مما به إليه حاجة ، وترك التزيد مما لا يحتاج إليه = فهذا عين من عيون العقل والحكمة كبير ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو القدوة في كل خير ، والذي أثنى الله تعالى على خلقُه ، والذي جمع الله تعالى فيه أشتات الفضائل بتمامها ، وأبعده عن كل نقص ـ : يعود المريض مع أصحابه راجلاً في أقصى المدينة بلا خُفٍ ولا نعل ولا قلنسوة ولا عمامة ، ويلبس الشعر إذا حضره ، وقد يلبس الوشي من الحبرات إذا حضره ، ولا يتكلف ما لا يحتاج إليه ، ولا يترك ما يحتاج إليه ، ويستغني بما وجد عما لا يجد ، ومرة يمشي راجلاً حافياً ، ومرة يلبس الخف ، ويركب البغلة الرائعة الشهباء ، ومرة يركب الفرس عرياً [بلا سرج] ومرة يركب الناقة ، ومرة يركب حماراً ، ويردف عليه بعض أصحابه ، ومرة يأكل التمر دون خبز ، والخبز يابساً ، ومرة يأكل العناق المشوية ، والبطيخ بالرطب والحلواء .
يأخذ القوت ، ويبذل الفضل ويترك ما لا يحتاج إليه ، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة ولا يغضب لنفسه ، ولا يدع الغضب لربه عز وجل.
الثبات الذي هو صحة العقد والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق.
والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه ، وقد لاح له فساده ، أو لم يلح له صوابه ولا فساده ، وهذا مذموم ، وضده الإنصاف.
وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق ، أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يلح له باطله ، وهذا محمود ، وضده الاضطراب.
وإنما يلام بعض هذين ؛ لأنه ضيع تدبر ما ثبت عليه ، وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل.
حد العقل استعمال الطاعات والفضائل ، وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل. وقد نص الله تعالى في غير موضع من كتابه على أن من عصاه لا يعقل ، قال الله تعالى حاكياً عن قوم { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ثم قال تعالى مصدقاً لهم { فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير }.
وحد الحمق استعمال المعاصي والرذائل ... ولا واسطة بين العقل والحمق إلا السخف.
وحد السخف هو العمل والقول بما لا يحتاج إليه في دين ولا دنيا ، ولا حميد خلق مما ليس معصية ولا طاعة ولا عوناً عليهما ، ولا فضيلة ولا رذيلة مؤذية ؛ ولكنه من هذر القول وفضول العمل.
فعلى قدر الاستكثار من هذين الأمرين أو التقلل منهما يستحق المرء اسم السخف ، وقد يسخف المرء في قصة ، ويعقل في أخرى ، ويحمق في ثالثة.
وأما إحكام أمر الدنيا والتودد إلى الناس بما وافقهم ، وصلحت عليه حال المتودد من باطل ، أو غيره أو عيب أو ما عداه ، والتحيل في إنماء المال ، وبعد الصوت ، وتسبيب الجاه بكل ما أمكن من معصية ورذيلة ؛ فليس عقلاً ، ولقد كان الذين صدّقهم الله بأنهم لا يعقلون سائسين لدنياهم مثمرين لأموالهم مدارين لملوكهم حافظين لرياستهم ، لكن هذا الخلق يسمى الدهاء ، وضده العقل والسلامة.
وأما إذا كان السعي فيما ذكرنا بما فيه تصاون ، وأنفة = فهو يسمى: الحزم ، وضده المنافي له التضييع.
وأما الوقار ووضع الكلام موضعه والتوسط في تدبير المعيشة ، ومسايرة الناس بالمسالمة فهذه الأخلاق تسمى الرزانة ، وهي ضد السخف.
أصول الفضائل كلها أربعة عنها تتركب كل فضيلة وهي:
العدل ، والفهم ، والنجدة ، والجود.
أصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة وهي :
الجور ، والجهل ، والجبن ، والشح. وهذه أضداد الذي ذكرنا.
الأمانة والعفة نوعان من أنواع العدل والجود.
النزاهة في النفس فضيلة تركبت من النجدة والجود ، وكذلك الصبر.
الحلم نوع مفرد من أنواع النجدة.
القناعة فضيلة مركبة من الجود والعدل.
والحرص متولد عن الطمع ؛ والطمع متولد عن الحسد ، ويتولد من الحرص رذائل عظيمة منها: الذل والسرقة والغصب والزنا والقتل والعشق..
والمداراة فضيلة متركبة من الحلم والصبر.
الصدق مركب من العدل والنجدة .
من جاء إليك بباطل رجع من عندك بحق ؛ وذلك أن من نقل إليك كذباً عن إنسان حرك طبعك ؛ فأجبته = فرجع عنك بحق ، فتحفظ من هذا ولا تجب إلا عن كلام صح عندك عن قائله .
لا شيء أقبح من الكذب ، وما ظنك بعيب يكون الكفر نوعاً من أنواعه ، فكل كفر كذب ، فالكذب جنس والكفر نوع تحته.
والكذب متولد من الجور والجبن والجهل ؛ لأن الجبن يولد مهانة النفس ، والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها المحمودة.
رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقساماً ثلاثة:
أحدها: من لا يبالي فيما أنفق كلامه ، فيتكلم بكل ما سبق إلى لسانه غير محقق نصر حق ولا إنكار باطل وهذا هو الأغلب في الناس.
والثاني: أن يتكلم ناصراً لما وقع في نفسه أنه حق ، ودافعاً لما توهم أنه باطل غير محقق لطلب الحقيقة لكن لجاجاً فيما التزم وهذا كثير وهو الأول.
والثالث: واضع الكلام في موضعه ، وهذا أعز من الكبريت الأحمر .
لقد طال هم من أغاظه الحق .
رد: من روائع الحكمة للعلامة أبي محمد ابن حزم الظاهري
اثنان عظمت راحتهما:
أحدهما في غاية المدح ، والآخر في غاية الذم ، وهما :
مطرح الدنيا ، ومطرح الحياء.
من عجيب تدبير الله عز وجل للعالم أن كل شيء اشتدت الحاجة إليه كان ذلك أهون له ، وتأمل ذلك في الماء فما فوقه.
وكل شيء اشتد الغنى عنه كان ذلك أعز له ، وتأمل في الياقوت الأحمر فما دونه.
الناس فيما يعانونه كالماشي في الفلاة كلما قطع أرضاً بدت له أرضون ، وكلما قضى المرء سبباً حدثت له أسباب .
صدق من قال: إن العاقل معذب في الدنيا. وصدق من قال: إنه فيها مستريح !
فأما تعذيبه ففيما يرى من انتشار الباطل ، وغلبة دولته ، وبما يحال بينه وبينه من إظهار الحق .
وأما راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.
إياك وموافقة الجليس السيئ ومساعدة أهل زمانك فيما يضرك في أخراك أو في دنياك ؛ وإن قل ، فإنك لا تستفيد بذلك إلا الندامة حيث لا ينفعك الندم ، ولن يحمدك من ساعدته بل يشمت بك. وأقل ما في ذلك وهو المضمون أنه لا يبالي بسوء عاقبتك وفساد مغبتك.
وإياك ومخالفة الجليس ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك ؛ وإن قل فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة ، وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلاً.
إن لم يكن بد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل ولم يكن لك مندوحة عن منافرة الخلق أو منافرة الحق فاغضب الناس ونافرهم ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق.
الاتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعظ أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدى طريقته صلى الله عليه وسلم ، وصار في أكثر الأمر مغرياً للموعوظ بالتمادي على أمره لجاجاً وحرداً ومغايظة للواعظ الجافي = فيكون في وعظه مسيئاً لا محسناً.
ومن وعظ ببشر وتبسم ولين وكأنه مشير برأي ، ومخبر عن غير الموعوظ بما يستفتح من الموعوظ ، فذلك أبلغ وأنجع في الموعظة.
فإن لم يتقبل فلينتقل إلى الموعظة بالتحشيم ، وفي الخلاء فإن لم يقبل ، ففي حضرة من يستحي منه الموعوظ ، فهذا أدب الله في أمره بالقول واللين.
ومما ينجع في الوعظ أيضاً الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله ، فهذا داعية إلى عمل الخير.
وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا هذا وحده ، وهو: أن يقتدي به من يسمع الثناء ؛ ولهذا يجب أن تؤرخ الفضائل والرذائل = لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره ، ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف.
من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه ، فإن أعجب بفضائله ، فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه ؛ فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه لأتم الناس نقصاً ، وأعظمهم عيوباً. ، وأضعفهم تمييزاً.
وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل ، ولا عيب أشد من هذين ؛ لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالَبَها وسعى في قمعها .
والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته .
وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال ! وهذا أشد عيب في الأرض.
وفي الناس كثير يفخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم ؛ فيُعْجَب بتأتي هذه النحوس له وبقوته على هذه المخازي.
واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط ، وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه مختلف من الأرذال ، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة ! فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها ، وعن عيوب غيره التي لا تضره في الدنيا ولا في الآخرة.
وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها ، فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.
وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلاً. والواجب اجتنابه إلا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه لا خلف ظهره ، ثم يقول للمعجب ارجع إلى نفسك فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك ، ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها فتستسهل الرذائل ، وتكون مقلداً لأهل الشر ، وقد ذم تقليد أهل الخير ، فكيف تقليد أهل الشر! لكن مثل بين نفسك ، وبين من هو أفضل منك فحينئذ يتلف عجبك وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس وفيهم بلا شك من هو خير منك.
فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله تعالى يقول{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } فتولد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك على الحقيقة مع مقت الله عز وجل وطمس ما فيك من فضيلة.
وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك وأصاب غيرك وأخطأت أنت ، فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابه فتخرج لا لك ولا عليك ، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك ! وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم.
وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك وفي تقصيرك وفي معاشك ووجوهه فو الله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفي على حسناتك فليطل همك حينئذ وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى ؛ فلا تقابلها بما يسخطه ، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت.
ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً لم يعاوده ذلك الذكاء بعد.
واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة و الإكباب على الدروس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً ؛ فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه ؛ فصح أنه موهبة من الله تعالى فأي مكان للعجب ها هنا!
ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها.
ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم ثم من أصناف علمك الذي تختص به. فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى .
وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً ؛ فلتهن نفسك عندك حينئذ وتفكر في إخلالك بعلمك ، وأنك لا تعمل بما علمت منه فلعلمك عليك حجة حينئذ ، ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً.
واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً ، وأعذر فليسقط عجبك بالكلية.
ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة فتهون نفسك عليك .
ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة فاستدللت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها.
وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك ولعلهم أخساء وضعفاء سقاط فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه ، ولعلهم ممن يستحيا من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وأخلاقهم ومنابتهم فاستهن بكل منزلة شاركك فيها من ذكرت لك .
وإن أعجبت بمالك فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس هو أغنى منك فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت.
وإن أعجبت بمدح إخوانك لك ففكر في ذم أعدائك إياك فحينئذ ينجلي عنك العجب ، فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له ، فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله.
فإن استحقرت عيوبك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس وتمثل إطلاعهم عليها فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مسكة من تمييز.
وإن أعجبت بنسبك فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة.
وانظر هل يدفع عنك جوعة ، أو يستر لك عورة ، أو ينفعك في آخرتك ، ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك ، وربما فيما أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ، ثم ولادة الخلفاء ، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ، ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة ، ثم ولادة التبابعة ، وسائر ملوك الإسلام ، فتأمل غبراتهم وبقاياهم ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة وتلفهم في غاية السقوط والرذالة والتبدل والتحلي بالصفات المذمومة ؛ فلا تغتبط بمنزلة هم فيها نظراؤك أو فوقك. ثم لعل الآباء الذين تفخر بهم كانوا فساقاً وشربة خمور ولاطة ومتعبثين ونوكى أطلقت الأيام أيديهم بالظلم والجور فأنتجوا ظلماً وآثاراً قبيحة تبقي عارهم بذلك الأيام ، ويعظم إثمهم والندم عليها يوم الحساب. فإن كان كذلك فاعلم أن الذي أعجبت به من ذلك داخل في العيب والخزي والعار والشنار لا في الإعجاب.
واعلم أن التعسف وسوء الملكة لمن خولك الله تعالى أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس ، ودناءة الهمة ، وضعف العقل ؛ لأن العاقل الرفيع النفس العالي الهمة إنما يغلب أكفاءه في القوة ونظراءه في المنعة.
وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة فسقوط في الطبع ورذالة في النفس والخلق وعجز ومهانة.
ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ ، أو بقتل برغوث ، أو بفرك قملة وحسبك بهذا ضعة وخساسة.
وقد يكون العجب لغير معنى ، ولغير فضيلة في المعجب ؛ وهذا من عجيب ما يقع في هذا الباب وهو شيء يسميه عامتنا : التمترك ، وكثيراً ما نراه في النساء ، وفيمن عقله قريب من عقولهن من الرجال ، وهو عجب من ليس فيه خصلة أصلاً ؛ لا علم ولا شجاعة ولا علو حال ولا نسب رفيع ولا مال يطغيه ، وهو يعلم مع ذلك أنه صفر من ذلك كله ؛لأن هذه الأمور لا يغلط فيها من يقذف بالحجارة ، وإنما يغلط فيها من له أدنى حظ منها .
ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو نفسه واحتقاره الناس ؟
فما وجدت عنده مزيداً على أن قال لي: أنا حر لست عبدَ أحدٍ !
فقلت له: أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة ، فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد هم أطول منك يداً ، وأمرهم نافذ عليك ، وعلى كثير من الأحرار ! فلم أجد عنده زيادة.
ودواء من ذكرنا الفقر والخمول ، فلا دواء لهم أنجع منه ، وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جداً ، فلا تجدهم إلا عيابين للناس ، وقاعين في الأعراض مستهزئين بالجميع مجانبين للحقائق مكبين على الفضول ، وربما كانوا مع ذلك متعرضين للمشاتمة والمهارشة ، وربما قصدوا الملاطمة والمضاربة عند أدنى سبب يعرض لهم.
رد: من روائع الحكمة للعلامة أبي محمد ابن حزم الظاهري
إياك والامتداح فإن كل من يسمعك لا يصدقك ، وإن كنت صادقاً بل يجعل ما سمع منك من ذلك في أول معايبك.
وإياك ومدح أحد في وجهه فإنه فعل أهل الملق ، وضعة النفوس .
وإياك وذم أحد لا بحضرته ولا في مغيبه ؛ فلك في إصلاح نفسك شغل.
من بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنساناً يغرب في علم ما : هذا شيء بارد لم يتقدم إليه ، ولا قاله قبله أحد.
فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال: هذا بارد ، وقد قيل قبله.
وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم يصدون الناس عنها ؛ ليكثر نظراؤهم من الجهال.
لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ، ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل ، بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل ، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل.
الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع.
من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإنه يلوح له وجه تعسفه.
قلما رأيت أمراً أمكن فضيع إلا فات فلم يمكن بعد.
الغالب على الناس النفاق ، ومن العجب أنه لا يجوز مع ذلك عندهم إلا من نافقهم.
أشد الناس استسهالا للعيوب بلسانه هو أشدهم استسهالاً لها بفعله.
اللقاء يذهب بالسخائم ، فكأن نظر العين للعين يصلح القلوب.
الذل عند النفوس الكريمة أشد من المرض والخوف والهم والفقر ، وهو أسهل المخوفات عند ذوي النفوس اللئيمة.
من عجائب الأخلاق أن الغفلة مذمومة ، وأن استعمالها محمود ، وإنما ذلك لأن من هو مطبوع على الغفلة يستعملها في غير موضعها ، وفي حيث يجب التحفظ ، وهو مغيب عن فهم الحقيقة ؛ فدخلت تحت الجهل فذمت لذلك.
وأما المتيقظ الطبع فإنه لا يضع الغفلة إلا في موضعها الذي يذم فيه البحث والتقصي .
إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علم وأجر ، لا حضور مستغن بما عندك طالباً عثرة تشنعها ، أو غريبة تشيعها ؛ فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبداً.
فإذا حضرتها على هذه النية فقد حصّلت خيراً على كل حال ، وإن لم تحضرها على هذه النية ؛ فجلوسك في منزلك أروح لبدنك ، وأكرم لخلقك ، وأسلم لدينك.
فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي:
إما أن تسكت سكوت الجهال ، فتحصل على أجر النية في المشاهدة ، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول ، وعلى كرم المجالسة ، ومودة من تجالس.
فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المتعلم ، فتحصل على هذه الأربع محاسن ، وعلى خامسة وهي: استزادة العلم.
وصفة سؤال المتعلم: أن تسأل عما لا تدري لا عما تدري ، فإن السؤال عما تدريه سخف ، وقلة عقل وشغل لكلامك ، وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك ، وربما أدى إلى اكتساب العداوات ، وهو بعد: عين الفضول.
فيجب عليك أن لا تكون فضولياً فإنها صفة سوء ، فإن أجابك الذي سألت بما فيه كفاية لك فاقطع الكلام ، وإن لم يجبك بما فيه كفاية ، أو أجابك بما لم تفهم ، فقل له: لم أفهم ، واستزده فإن لم يزدك بياناً ، وسكت ، أو أعاد عليك الكلام الأول ، ولا مزيد فأمسك عنه ، و إلا حصلت على الشر والعداوة ، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة.
والوجه الثالث: إياك من أن تراجع مراجعة العالم ، وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقصه نقصاً بيناً ، فإن لم يكن ذلك عندك ، ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة ، فأمسك فإنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر ، ولا على تعليم ، ولا على تعلم بل على الغيظ لك ، ولخصمك والعداوة التي ربما أدت إلى المضرات.
وإياك وسؤال المعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين ، وكثرة الفضول ، وضعف العقل ، وقوة السخف ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب ؛ فإياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة قبل أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع.
وأيضاً: فلا تقبل عليه إقبال المصدق به المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك ، وتبعد عن إدراك الحقيقة. ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه ، والنزوع إليه .
من اكتفى بقليله عن كثير ما عندك = فقد ساواك في الغنى ، ولو أنك قارون ، حتى إذا تصاون في الكسب عما تشره أنت إليه فقد حصل أغنى منك بكثير .
ومن ترفع عما تخضع إليه من أمور الدنيا = فهو أعز منك بكثير.
فرض على الناس تعلم الخير والعمل به ، فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معاً ، ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم ، وأساء في ترك العمل به ، فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وهو خير من آخر لم يعلمه ، ولم يعمل به ، وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالاً ، وأقل ذماً من آخر ينهى عن تعلم الخير ويصد عنه.
ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ، ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسبك بمن أدى رأيه إلى هذا فساداً ، وسوء طبع ، وذم حال ، وقد صح عن الحسن أنه سمع إنساناً يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله ، فقال الحسن: ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ، ولا يأمر بمعروف.
وصدق الحسن جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل به ، وممن يبصر رشد نفسه فما أحد إلا له عيوب إذا نظرها شغلته عن غيره ، نسأل الله أن يحيينا ، ويـتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم .
انتهى المقصود اختياره من هذا الكتاب العظيم ، نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا.
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله ، وسلم.
رد: من روائع الحكمة للعلامة أبي محمد ابن حزم الظاهري
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الرحمن السديس
من فضل العلم والزهد في الدنيا ، أنهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما ،
ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت ، أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما.
اليس في هذا اعتراض على حكمة الله عز وجل ؟