لم جاءت الطاعة في القرآن للرسول فقط؟..من "كيمياء الصلاة"
انتشرت بعض الطروحات مؤخرا تقول ان الطاعة في القرآن جاءت للرسول فقط و ليس للنبي "عليه الصلاة و السلام "..و هي طروحات تهدف الى عزل طاعتنا عن السنة النبوية لأنها تعيد تعريف مصطلح الرسول و مصطلح النبي بشكل يفصلنا عن سنته عليه الصلاة و السلام..
هنا ..في كتاب "سدرة المنتهى" من سلسلة "كيمياء الصلاة" للدكتور احمد خيري العمري نرى طرحا جديدا يرد على اصحاب طرح الفصل.ز و يعيد رؤية مصطلح النبي و الرسول بشكل يكرس المزيد من الاتباع و الطاعة...
الرسول و النبي
يجب أن ننتبه الى السلام الذي نلقيه على الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في التحيات –في آخر الصلاة-، قد صيغ بصيغة خطاب للنبي.. وليس للرسول..
هل هناك من فرق؟.. الرسول هو النبي، عليه الصلاة والسلام، بشخصه ولحمه ودمه وحضوره الكريم والنور والدفء المنبعثان منه علينا.. هل دفء الرسول أقل – أو أكثر – من دفء النبي؟..
أبداً، إنه هو هو..
لكن هناك ما يجب أن نقف عنده، عند النبي.. وعند الرسول.. صلوات الله وسلامه عليه..
* * *
ليس فقط، لأن البعض من المعاصرين يحاول أن يفصل بينهما، ويقول أنهما وإن اتحدا في جسد رجل واحد، إلا أن الطاعة مطلوبة منا – بزعمهم -للرسول فقط، وليس للنبي – مستندين في ذلك أن آيات الطاعة جاءت مرتبطة بالرسول فقط، وليس النبي.. وذلك يجعلنا – حسب زعمهم – في حل من الارتباط من الالتزام بأوامر النبي.. لأن الطاعة، حسب زعمهم للرسول فقط.. وهذا الرأي لا يهدف التفريق الاصطلاحي بين الرسول والنبي، ولكنه يهدف تفريقنا عن سنة النبي كلها، كل ما كانت عليه حياته عليه الصلاة والسلام..
والفصل القسري بين الرسول والنبي، سيكون مثل الفصل بين توأمين بقلب واحد..
بفارق أن من سيموت، هو نحن!..
* * *
لكن، لأن السلام هنا في الصلاة كان على "النبي" فإنه لابد أن يكون لذلك معنى.. معنى لا يفصل بين النبي والرسول، ولكن يكامل بين المصطلحين، ويفعّل العلاقة بينهما.. ويجعلنا نزداد وعياً وتفاعلاً مع المفهومين..
معه هو، عليه الصلاة والسلام..
* * *
فلنحاول أن نعرف من هو الرسول، ومن هو النبي، ليسَ من مفاهيمنا السائدة، ولكن من القرآن الكريم نفسه، فمن هناك ينبغي أن تنبع مفاهيمنا.. من هناك ينبغي أن يبعث تصحيح ما هو سائد..
فلنحاول أن نبحث في الرسل، والأنبياء، والتداخل الموجود بينهم في القرآن الكريم، بمعزل عن مفاهيمنا المتوارثة..
* * *
هناك مجموعة من الرسل، في القرآن الكريم، سنبدأ منهم، لنفهم الطبيعة الوظيفية للرسل، واختلافها – أو عدم اختلافها – عن الطبيعة الوظيفية للأنبياء.. يذكر أولاً، في سورة الشعراء، عدداً من الرسل..
نوح {إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقون.اني لكم رسول أمين} [الشعراء: 26/107]، هود {إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. اني لكم رسول أمين } [الشعراء: 26/124] صالح {إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ.اني لكم رسول أمين} [الشعراء: 26/142] لوط {إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ اني لكم رسول أمين.} [الشعراء: 26/161] شعيب {إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. اني لكم رسول أمين.} [الشعراء: 26/177]..
أي إن هؤلاء الخمسة – عليهم السلام أجمعين – ذكروا بوضوح أنهم رسل.. وبحسب مفاهيمنا السائدة، فإن كل رسول نبي.. لأن الرسالة أخص من النبوة..
إلا أن ذلك لن يثبت قرآنياً: أي إنه لن توجد أي إشارة إلى أن كلاً من هؤلاء كان نبياً، باستثناء إشارة عامة قد تضع نوحاً في خانة الرسل – الأنبياء.. {إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْباطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُودَ زَبُوراً} [النساء: 4/163]..
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 19/58]..
{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 33/7]..
وكذلك لوط أشير إلى انه من {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ} [الأنعام: 6/89].. وهكذا يبقى لدينا (3) رسل فقط لم يقل عنهم أنهم أنبياء..
أما الأسماء المتبقية في قائمة الرسل، فلا شيء – قرآنياً – يثبت أنهم أنبياء..
* * *
أما قائمة الأنبياء فهي أوسع، وتضم يحيى {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ} [آل *عمران: 3/39] عيسى {قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 19/30] إبراهيم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} [مريم: 19/41] إسحاق ويعقوب {فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيّاً} [مريم: 19/49] موسى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسَى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم: 19/51] هارون {وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيّاً} [مريم: 19/53] إسماعيل {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم: 19/54] إدريس {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} [مريم: 19/56]..
وتضم أيضاً داود {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 17/55] سليمان {وَوَهَبْنا لِداوُودَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ} [ص: 38/30]، يوسف {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُودَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 6/84] {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ} [غافر: 40/34]..
وتضم بشكل غير مباشر إليسع {وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ} [الأنعام: 6/86] وإلياس {وَزَكَرِيّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ} [الأنعام: 6/85] كما أن أيوب قد ذكر فيمن أوحي إليه {إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْباطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُودَ زَبُوراً} [النساء: 4/163]..
وذكر ذا الكفل بشكل عام مع أنبياء آخرين {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ} [الأنبياء: 21/85]..
ويبقى في هذه القائمة يونس الذي ذكر ضمن أسماء أخرى {إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْباطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُودَ زَبُوراً} [النساء: 4/163] ممن أوحي إليهم..
* * *
لدينا ثلاثة أنواع من الفئات، عليهم السلام أجمعين..
الفئة الأولى، فئة رسل لم يقل عنهم أنبياء.
الفئة الثانية، فئة رسل وأنبياء..
الفئة الثالثة، فئة أنبياء لم يقل عنهم رسل، ويدخل ضمنهم من لم يذكر بوضوح أنهم أنبياء لكنهم اعتبروا أنهم كذلك..
ما الذي يتمخض عن ذلك كله؟..
إن مقولة "كل رسول نبي" – رغم انتشارها – إلا أنها لا تتلاءم مع حقيقة أن هناك رسلاً لم يذكر عنهم أنهم أنبياء..
ولعل عكس هذه المقولة "كل نبي رسول" هو الصحيح، وهو ما يتناسب مع المعطيات القرآنية الآنفة الذكر.. ومع آية أخرى شديدة الوضوح:
{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 7/94]..
{وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف: 43/6]..
فالنبي هنا "قد أرسل"، وهذا يعني أنه رسول.. والآية تستخدم أسلوب التعميم بطريقة تشمل كل الانبياء..
كما أن ذلك يتناسق أيضاً مع آية {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 22/52]..
فلو كان "النبي" متضمناً في الرسول، حسب مفهوم "كل رسول نبي"، لما ذكر الوحي الكريم النبي بعد الرسول، فهذا يعني أن كلمة الرسول لم تغط معنى النبي، وأن النفي سيتضمن لاحقاً "النبي" الذي لم يرد معناه ولم يتضمن في كلمة الرسول..
وهذا يعني أن الرسول، عندما يكون غير النبي – فإنه لا يتضمنه..
وأن النبي – عكس الشائع – دوماً رسول..
مفهوم النبوة : المرحلة التالية
أين يضعنا هذا؟ وإلى أين سيأخذنا بالضبط؟..
إنه يأخذنا إلى مفهوم "النبوة" الذي سيبدو هنا أنه مرحلة أعلى من مفهوم الرسالة..
ورد هذا اللفظ ضمن مرات في القرآن الكريم.. كان في كل مرة قطعاً يأتي ذكره مع الكتاب..
وفي (3) مرات من أصل (5)، سيكون ذكر النبوة، مرتبطاً، بالإضافة إلى الكتاب، مع الحكم..
وهكذا سيكون هناك متلازمة ثلاثية:
{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل *عمران: 3/79]
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ} [الأنعام: 6/89]
{وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} [الجاثية: 45/16]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِما النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} [الحديد: 57/26]
{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} [العنكبوت: 29/27]..
الحد بين الرسالة و النبوة
سنضع هذا في بالنا، ونعود خطوة إلى الوراء.. إلى الرسل الذين لم يثبت أنهم أنبياء.. فهناك، "الحد" بين الرسالة فقط، وبين النبوة التي تتضمن الرسالة..
في الفرق بين الرسل والأنبياء.. نجد المعنى الذي يجعلنا نلقي السلام عليه، ونحن نسميه النبي، وليس الرسول، صلوات الله عليه وسلامه بكل أسمائه..
* * *
الأسماء الثلاثة للرسل الذين كانوا رسلاً فقط، هي هود و صالح وشعيب.. وقصصهم تشبه قصص غيرهم من الرسل، بالذات تشبه قصة نوح ولوط اللذين خرجا من خانة الرسل فقط، إلى المرتبة التالية..
كانا في قومهما، وكان القوم في حالة بعد عن الله عز وجل، بمختلف معاني البعد، من الكفر والشرك إلى الفاحشة مروراً بالظلم الاجتماعي.. وكانت هناك "رسالة" – من الله عز وجل – عبر "الرسل"، مفادها أن العذاب قادم لا محالة – إن لم يحدث تغيير في نمط المفاهيم والسلوك التي يدين بها السواد الأعظم مجتمعياً وفي الحالات الخمس كلها، سيكون هناك العذاب، كما قال الرسل بالضبط.. بأشكاله المتعددة..
ما الذي يجعل نوحاً ولوطاً استثناءً من هذا وقد حل العذاب بقومهما كما حل بقوم صالح وهود وشعيب؟..
المختلف في السياق الخاص بكل منهما، أننا رأيناهما، ولو بشكل جزئي، وهما يكملان المسيرة. يمضيان مع الفئة التي آمنت بالرسالة.. ويبينان – او على الاقل يحاولان إنشاء مجتمع بديل عن ذاك الذي تركاه..
أين كانت الإشارة إلى ذلك؟..
{قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ} [هود: 11/48]..
إنه نوح ما بعد الطوفان، هذا الذي سيحل عليه "السلام" و "البركات"، فالسفينة لم تكن الهدف النهائي، والنجاة لم تكن كل القصة، ولكنه الوصول إلى البر الآمن.. إلى المجتمع البديل..
وأين الإشارة إلى ذلك مع لوط؟..
{وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء: 21/71]..
لقد انضم إلى إبراهيم.. وساهم معه في انشاء مجتمع البركات العالمي: بركات للعالمين..
* * *
وهذا كله يوضح، بشكل قاطع وجاد، الحد بين مهمة الرسول، ومهمة النبي التي يوسع فيها مهمة الرسول..
فالنبي، لا يتخلى عن مهمة الرسول، إنه يحملها حتماً معه، وهو يظل، رسولاً بالتعريف، ما دام نبياً.. لكن مهمته تصبح ليس فقط إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المجتمع.. بل بناء مجتمع جديد.. المهمة لا تقتصر على إلقاء طوق النجاة، بل على إيجاد البديل.. بالذات على بناء البديل حجراً حجراً..
****************************** ****************
الرسالة من النظرية الى التطبيق
مهمة الرسول تركز على "الفكرة" أكثر، تركز على "النظرية"، على فكرة أن الدمار قادم، وعلى فكرة أن الحل يجب أن يبدأ من الأساس، مهمة النبي لا تنسخ ذلك طبعاً، ولكن تكملها، تتممها.. تحول الأمر إلى الحفر في الأساس ووضع حجر الأساس.. ورفع القواعد..
وبعبارة أخرى، مهمة النبي، تحتوي مهمة الرسول ضمنها، لأنها ستظل تحتوي على الرسالة، وعلى فكرة الرسالة.. لكنها تتجاوزها إلى أفق أبعد، إلى الواقع العملي الذي لا غنى عنه لأي نظرية، مهما كانت متقنة، ولا أي عقيدة، مهما كانت سليمة..
وبعبارة أخرى، أشد وضوحاً، مهمة النبي، عملياً، تكمل وتتمم مهمة الرسول، على العكس من مهمة الرسول، التي ستظل بحاجة إلى مهمة النبي لإتمامها..
وبناء على ما سبق، وكنتيجة طبيعية: كان عليه الصلاة والسلام "خاتم النبيين"..
ذلك أن خاتم الأنبياء، هو حتماً، وضمناً، وبالتعريف المشار إليه، هو خاتم الرسل.. باعتبار أن مفهوم "النبي" يتمم مفهوم الرسول و يختمه. ...
ولذلك، قال الذكر الحكيم عنه – عليه الصلاة والسلام: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 33/40].. و لم يقل خاتم الرسل.
بهذا المنظور صار الأمر الآن متناسقاً.. ومفهوماً..
* * *
حقيقة أخرى تتوهج، لتتكامل مع هذه الحقيقة..
إنها حقيقة أنه، عليه الصلاة والسلام، لم يخاطب قط بـ "النبي" منفردا عبر القرآن، إلا في العهد المدني، أي في السور المدنية..
قبلها، في القرآن المكي كله، كان يطلق عليه – عليه الصلاة والسلام – "الرسول".. باستثناء مرتين في سياق واحد ذكر انه "الرسول النبي الأمي" (الأعراف 157-158)أي إن ذكر النبي هنا لم يستقل عن ذكر الرسول كما لو أن ذلك كان مرحلة انتقالية بين المرحلتين.
لكن في المرحلة المدنية، ومع بداية مرحلة جديدة من الدعوة أدخلت مفردة جديدة في الخطاب القرآني للرسول الكريم هي النبوة..
ولفظ "نبي" جاء قطعاً في القرآن المكي، ولكن ليس لمخاطبته عليه الصلاة والسلام.. وإنما للإشارة إلى تجارب نبوية سبقت تجربته الرسولية، أما "يا أيها النبي" فلم ترد قطعاً إلا في المرحلة النبوية..
وفي ذلك دلالات واضحة تتفق مع ما توصلنا إليه من الفرق بين مهمة الرسول ومهمة النبي..
ذلك أن المرحلة المدنية كانت مرحلة التطبيق والبناء وتكوين ذلك المجتمع البديل، بل الحضارة البديلة بأسرها..
أما المرحلة المكية، فقد كانت مرحلة النظرية، مرحلة العقيدة والفكرة السابقة على البناء، والضرورية له..
لهذا كان الخطاب في المرحلة المكية مقتصراً على الرسول..
وتوسع في المرحلة المدنية، ليشمل المهمة الإضافية التي اضطلع بها، فصار يخاطب، بالإضافة إلى الرسول، بالنبي..
النبي، الذي ختم سلسلة الأنبياء.. وبالتالي سلسلة الرسل.
نبوة النبي لا تنسخ رسالته
لكن ما ينبغي الانتباه له، أن مصطلح "النبي" لم يلغ مصطلح "الرسول".. وطبعاً نحن نتحدث عن شخص واحد – عليه الصلاة والسلام – شخص تدرج في حمل المسؤوليات والمهمات ومرَّ بذلك بشكل تطوري ومتتالي، وبالتالي لا يمكن إحداث فصل حقيقي بين الرسول، والنبي..
يشبه الأمر، أن طبيباً ما، تدرج في دراسته وتخصصه، حتى صار جرّاحاً، ثم إنه أنهى تخصصاً دقيقاً في جراحة معينة، فصار جراح أعصاب على سبيل المثال.. كونه جراح أعصاب لن يلغي أنه "جراح"، وهذا كله لن يلغي أنه طبيب.. لا يوجد "لقب" إضافي تحصل عليه، ينسخ لقبك السابق، وكذلك مقام النبوة – لن ينسخ مقام الرسالة.. "المرحلة المدنية".. مهمته عليه الصلاة والسلام فيها – لم تلغ "المرحلة المكية" وجذورها بل ستحتويها..
لذا، سنجد في الآيات المدنية، خطابٌ وإشارة إليه، عليه الصلاة والسلام، بصفته الرسولية، بالإضافة إلى صفته النبوية، تباركت كل صفاته عليه الصلاة والسلام..
ولذلك التداخل في المرحلة المدنية – بين الرسول والنبي – معنى لابد من الوقوف عنده..
اسقاط معاصر من اجل التطبيق
ذلك أنك عند التطبيق، يجب أن لا تنفصل عن النظرية، عند البناء يجب أن لا تحذف الخطة.. لذا تتكامل "الرسالة والنبوة" في المرحلة المدنية كما تتكامل النظرية والتطبيق العملي.. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن التطبيق العملي، وبناء النموذج على أرض الواقع، يجب أن لا يبتعد عن القيم الأساسية للنظرية، و "رفع القواعد" يجب أن لا يبتعد عن "القواعد" نفسها.. ذلك أن الكثير من الأفكار والمبادئ (والحديث هنا عن الديني والوضعي منها) تصطدم عند التطبيق، ليس بالواقع وصعوباته، بل بحقيقة أن بعض من يحمل مسؤولية التطبيق، يترك "قيم الرسالة" الأصلية، وخطة البناء والنسبة المقررة لخلطة الإسمنت، بحجة الإسراع بالبناء وبرفعه.. والنتيجة لهذا الأمر أن البناء قد لا يكون مطابقاً للمواصفات القياسية، أو حتى قريب منها.. الأمر في مخاطبته عليه الصلاة والسلام، في المرحلة المدنية، مرة بالرسول، ومرة بالنبي، هو التأكيد على الأمرين معاً: النظرية، الفكرة، العقيدة – والتطبيق، البناء، السلوك..
ولقد التحما معاً، في تماهي تام، لا مجال لتجزئته أو فصله، في شخص الرسول النبي الكريم..
لم الطاعة للرسول؟
ضمن هذا التطور يمكن فهم لِمَ أن كل الآيات القرآنية، التي تأمر بطاعة الرسول، لم تأت إلا في المرحلة المدنية.. أي بعدما انتقل عليه الصلاة والسلام من مرحلة الدعوة، إلى مرحلة البناء الاجتماعي ومرحلة إعادة بناء العالم بشكل مباشر.. أي بعبارة أخرى، بعد أن حمل معه – مرحلة الرسالة – إلى مرحلة النبوة..
كل آية وردت فيها "طاعة الرسول" – كانت حتماً مدنية، لكنها لم تستخدم المصطلح الجديد الذي استخدم لأول مرة في العهد المدني: النبي.. أي إن السياق ربط بين طاعة الله وطاعة الرسول – في أكثر من مرة، لكن لم يذكر السياق من طاعة "النبي" – وهو الأمر الذي جعل دعاة التفلت يعتبرونه تحللا من طاعة "النبي" و اوامره و ليس من كل السنة النبوية فقط و من لكن كل سياق قرآني ورد فيه لفظ النبي و احتوى على امر شرعي، بدعوى أن الطاعة للرسول فقط، وليس للنبي..!
وقبل أن نؤكد عدم وجود انفصال حقيقي أو افتراضي بين الرسول والنبي في شخصه الكريم عليه الصلاة والسلام، نشير إلى أن الطاعة للرسول، تضم حتماً وطبعاً، الطاعة للنبي، لسبب بديهي هو أن النبي هو مكمل ومتمم لمهمة الرسول، وإذا كنت مطالباً ومأموراً بالطاعة للرسول، فإنك، ومن باب أولى، مطالباً بالطاعة للنبي، الذي هو المرحلة الأعلى والمتممة للرسول..
الاتباع أقوى...
الأمر الآخر، الذي لابد من الانتباه له هنا، هو أن "الاتباع" الذي اقترن مع "الرسول النبي الأُمي" – وهو المركب الذي جمع "الرسول النبي" {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 7/157] أقوى من الطاعة، لأن الطاعة انقياد لأمر واضح ومحدد، أما "الاتباع" فهو أن "تراه فتمضي خلفه"..
واتباع "الرسول النبي" – جاء قبل الطاعة – جاء بالذات في الفترة المكية، لأن الاتباع مطلوب فيما سيأتي، والاتباع سيكون أساساً للطاعة..
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل *عمران: 3/31] ستليها فوراً {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل *عمران: 3/32]..
فالاتباع والطاعة هنا مرتبطان معاً بطريقة لا يمكن التمييز بينهما..
كما أن الرسول النبي الأمي، هو واحد..
وطاعته واتباعه واجبة على كل من آمن به..
"رسول" لكنه "النبي "
الأمر الذي يلفت النظر أيضاً، أن الرسول الكريم، قد ذكر كرسول – بدون تعريف-في أكثر من مرة في الخطاب القرآني..
{ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ} [آل *عمران: 3/81]..
{أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } [البقرة: 2/87]..
{وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ} [البقرة: 2/101]..
{وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل *عمران: 3/144]
{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} [التوبة: 9/128]..
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل *عمران: 3/164]..
{كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتِنا} [البقرة: 2/151]..
{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 16/36]..
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة: 62/2]..
{إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمل: 73/15]..
أي إن السياق القرآني، في كل هذه الآيات، قد استخدم لفظ "رسول" – بدون تعريف، لا بالإضافة ولا بأل التعريف، والسياق كان يشير إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.. هو ما يعرف لغويا : بالتنكير للتفخيم..
لكن هذا الأمر لم يحدث مع لفظ "النبي" أبداً..
لم يحدث أبداً أن جاء الخطاب القرآني، بلفظ "نبي" – بدون التعريف، ويكون السياق موجهاً إليه عليه الصلاة والسلام..
ولم يكن هناك أبداً أن جاء الخطاب القرآني، بلفظ "النبي" – بالتعريف – إلى نبيٍّ آخر، غيره عليه الصلاة والسلام..
ما الذي يعنيه ذلك؟..
يعني أنه ربما كان هناك أنبياء كثر قبله عليه الصلاة والسلام .. ولكن، كان هناك دوماً نبي واحد فقط سيكون هو النبي بالإطلاق..
و "النبي" – بالإطلاق – تعني أنه "النبي" المطلق، الذي سيقوم بالدور الأقصى لنبي، سيقوم بالمهمة التي حاول القيام بها كل الأنبياء من قبل.. لكنه هو وحده، عليه الصلاة والسلام، سيذهب إلى المدى الأبعد، إلى المدى الذي فيه نهاية الشوط كله..
الأنبياء كثيرون، لكن "النبي" واحد..
و لقد كان اسمه دوماً "النبي"..
انتظروه دوماً على هذا الأساس.. وكانوا يعرفون أن أنبياء سيأتون وسيرحلون، منهم من سينجح، ومنهم من سيفشل، ومنهم من سيقتل قبل أن يصل لسفح آماله..
لكن واحداً منهم، واحد فقط، سيختصر تاريخ النبوة، ويقوم بما لم يقم به أحد، واحد فقط، سيتمكن من أن ينطلق من الصفر الاجتماعي، ويصل إلى القمة.. بلا تواصل مع إرث أنبياء آخرين، واحد فقط سيتمكن بمفرده من أن يبني ما لم يبنه سواه.. سيتمكن من أن يثبت أن ذلك ممكن..
ولهذا فهو "النبي"..
* * *
وتحفظ لنا ذاكرة التاريخ، موقفاً لابد أن يذهلنا وقد وصلنا لحقيقة أن هذه المفردة لم تستخدم إلا له عليه الصلاة والسلام، ما هو هذا الموقف؟.. وكيف احتفظت به ذاكرة التاريخ؟..
ها هي وثيقة تاريخية، من العهد الجديد "المتداول اتلى يومنا هذا و المعترف به كنسيا " إنجيل يوحنا،الاصحاح 19-20 تنقل لنا ذلك الانتظار المسكون بالشغف.. للنبي.. للنبي بالإطلاق..
وإنها شهادة يحيى.. أو يوحنا المعمدان، كما تسميه الأناجيل، حين أرسل اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين يسألونه:( "من أنت؟".. فاعترف ولم ينكر بل أكد قائلاً: "لست أنا المسيح". فسألوه: ماذا إذن؟.. هل أنت إيليا؟.. قال: "لست إياه!..".. "أو أنت النبي؟..".. فأجاب: "لا!"..)
ليس المسيح، ولا إيليا، ولا "النبي"..
إذن المسيح غير النبي!..
كانوا ينتظرون النبي.. كانوا يعرفون أن هناك المسيح.. وأن هناك سواه، من أسموه، من وجدوه مكتوباً عندهم بأنه، ليس مجردَ نبي، كما قد يكون المسيح، أو إيليا..
لكنه "النبي".. بالمطلق..
نبي آخر الزمان ؟
هل يعني هذا أنه نبي آخر الزمان؟..
ربما.. لكن الاصح أنه نبي كل زمان.. النبي الذي ستكون نبوته متجاوزة لأطر الزمان والمكان.. النبوة، التي ستظل، دوماً قادرة على أن تؤدي وظيفتها.. حتى بعد زوال الزمان والمكان الذي أنزلت ضمنه تلك النبوة..
إنه "النبي" الذي يظل يمدنا بالإنباء، حتى بعد وفاته..
عليه الصلاة والسلام..
لا تتحد السنن ..تحد نفسك
أمر ينبغي أن لا يفوتنا هنا، وهو جدير بالانتباه، إلى أن مخاطبتنا له عليه الصلاة والسلام – ظلت مباشرة، كما لو أنه موجود معنا، بقينا نقول "السلام عليك أيها النبي" – لم تتغير، بعد وفاته عملية الصلاة والسلام، لتصبح بصيغة أخرى.. لم تتغير، حتى في أثناء حياته، عندما كان أصحابه يصلونها بعيداً عنه..
إنها صيغة غير مرتبطة بزمان ومكان محددين بوجوده الشخصي – لكنها صيغة تستحضره وتستحضر وجوده والدفء المنبعث من وجوده – صيغة تتحدى الزمان والمكان، وتتحدى حقيقة أنه مات عليه الصلاة والسلام، رغم إقرارها لها، لكنها تتحدى أن الموت يمكن أن يطوي كل شيء، فحضوره يتعدى الحضور الجسدي الفيزيائي الذي طواه فعلاً الموت، لكن استحضاره، واستشعار حضوره سيستعد في تلك الأبعاد غير الجسدية..
سنقول، ونحن نعرف أنه قد مات، ونحن نعرف أنه ربما لن يسمعها منا ما دام قد مات "السلام عليك أيها النبي" نقولها.. فهل نحن نحاول التحدث معه وهو في قبره الشريف؟.. هل نحاول أن نتحدى سُنة الموت التي جرت على كل أبناء آدم ومن ضمنهم أشرف خلقه؟..
لا طبعاً، لكن نحاول تحدي أنفسنا.. عبر إحيائه عليه الصلاة والسلام فيها، إذا كان قد مات جسدياً – فهذا لا يعني أن دور القدوة، دور الأسوة الحسنة، دور المثل الأعلى، قد مات.. أو حتى إنه معرض للموت.. هذه الصيغة لا نوجهها له في قبره، بل إلى حيث يجب أن يستمر في الحياة.. في أنفسنا، في عقولنا، عملية تفاعل مستمرة بيننا وبين (دوره) هذا، نكون نحن مسؤولين عن قدح زناد هذا التفاعل، عبر استحضاره في أنفسنا – في جزء خاص لا يمكن تحديده مكانياً أو فيزيائياً – لكن هذا الجزء الخاص مهم جداً في الوقت نفسه لأنه يمارس دوراً تربوياً في اللا وعي..
الطراز الأصيل
هل هذا الجزء الخاص هو ما يسمى في علم النفس "الطراز الأصيل"archetype •.. – والذي يشبه الحاجة الأصيلة العميقة داخل النفس البشرية إلى دور القدوة – الأسوة الحسنة؟..
هذه الحاجة الموغلة في القدم إلى بطل ما – يعبر عن القيم ويجسدها في شخصه.. وهي الحاجة التي تم ملؤها عبر العصور وفي مختلف الحضارات – عبر أبطال الأساطير والحكايات الشعبية، وأيضاً عبر الأنبياء والزعماء الروحيين.. ويتم ملؤه حالياً – عبر وسائل الإعلام – بالنموذج العولمي الهوليودي..
ربما كان الأمر شيء كهذا، وربما كان أكثر، لكن هذا المصطلح النفسي – الطراز الأصيل - هو أقرب ما أجده شخصياً، لما يمكن أن يملأه عليه الصلاة والسلام في داخلنا، وملئه لا يكون عبر ألفاظ محبة مجردة وشعارات وأناشيد، بل أن يكون موجوداً وحاضراً في ذلك الحيز بشكل فعال، بشكل أن يكون – بتعاليمه، بأخلاقياته، بسلوكياته وممارساته، الجزء الذي يتحكم بنا – بسلوكنا – منا.. أي أن يكون الجزء الفعال من المركب المعقد من الوعي واللاوعي الذي قد يسمى أحياناً "الضمير"..
فلنتذكر هنا السياق الذي ورد فيه السلام عليه، "السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" كما لو أن هذا التتالي في الذكر (النبي أولاً عليه الصلاة والسلام، ثم نحن) سيؤدي إلى تلك النتيجة: عباد الله الصالحين، كما لو أن التفاعل بين "النبي" – الموجود في ضمائرنا – وبيننا – هو الذي سيؤدي إلى "عباد الله الصالحين".. أي إلى أن نكون نحن، منهم..
ولكن ينبغي نذكر أن السلام هو ليس مجرد إلقاء التحية، بل هو عملية التخلص واستئصال الآفات المعيقة للنمو، ولا عباد الله الصالحين هو الدراويش، بل هم من يرث الأرض..
هكذا يبدو الأمر منطقياً الآن، فالتواصل معه عليه الصلاة والسلام، عندما يكون موجوداً فينا، واستحضاره، سيساعدنا على التخلص من آفاتنا، وأمراضنا، سيكون السلام هنا عملية تفاعل داخلي، سيكرسها وسيقويها استشعارنا أنه موجود بالقرب منا..
إننا نخاطبه بهذه الصيغة – لا لكي تصله في قبره الشريف.. ولكن لكي يتقوى وجوده في ذلك الحيز في أنفسنا..
لكي نستشعر وجوده بقربنا..
......
من كتاب " سدرة المنتهى " الجزء الخامس و الاخير من سلسلة " كيمياء الصلاة " للدكتور أحمد خيري العمري – اصدار دار الفكر دمشق