(( *** الصحوة وفقه الواقع....عود على بدء *** ))
يتفق أهل الفقه والفكر على "ركنية فقه الواقع" لدى أي باحث أو فقيه أو مفكر للوصول لحكم موضوعي للمسألة أو القضية المراد بحثها، واتخاذ موقف شرعي أو فكري إزاءها، وفي الشأن الفقهي تبرز القاعدة الفقهية الشهيرة (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، وقد أوضح علماء الأصول في كتبهم أهمية هذا الأمر للفقيه والمفتي.
ومصطلح "فقه الواقع"، وإن كانت مضامينه أصيلة في كتب الفقهاء وفي عرف العلماء والمفكرين، إلا أنه برز في محيط الصحوة الإسلامية مع محاضرة (فقه الواقع) للشيخ د. ناصر العمر، والتي طبعت بعد ذلك في كتاب، وقد أجلب المخالفون على الشيخ بخيلهم ورجلهم عقب هذه المحاضرة، متهمين الشيخ العمر، بوصف كبار العلماء آنذاك بالبعد عن تصور الواقع السياسي والثقافي الذي تعيشه الأمة.
وبعيداً عن الغوص في أحداث تاريخية قد يكثر الجدل حولها دون طائل، فإن الملاحظ أن هذا الركن الركين في الحكم على أي قضية شرعية أو سياسية أو ثقافية، قد بدأ يعلوه الغبار بفعل الأحداث العاصفة فكرياً وثقافياً وأمنياً التي مرت بها البلاد خلال العقد الأخير، ويظهر لي أن الحاجة ماسة اليوم لنفض الغبار عن هذا المفهوم الأصيل، وهو "فقه الواقع"، فالمسيرة الدعوية والإصلاحية لا يمكن أن تحقق أهدافها الكبرى دون أن تأخذ باعتبارها ركنية فقه واقعها السياسي والاقتصادي والثقافي.
وعند التأمل ومحاولة تحليل أسباب هذا الخلل، ظهر لي أن ثمة عاملين مهمين أفرزا هذا الخلل في فقه واقع الأمة:
العامل الأول: التقصير في الأخذ بالأسباب المعينة على فقه واقع الأمة
ظل التيار السلفي المحلي يعاني ضموراً في فقه واقع الأمة السياسي والثقافي، فاتخاذ موقف شرعي من قضية الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، استند إلى "ظواهر" الحدث، مما أفرز تبسيطاً للموقف الشرعي، فالمسألة غير عويصة بالنسبة لكثير من الفضلاء، فالقضية واضحة وضوح الشمس... دولة ملحدة كافرة تغزو دولة مسلمة، وبالرجوع لمصنفات الفقه الإسلامي، فالحكم الشرعي بدهي ولا يحتاج للكثير من التأمل، فتم اتخاذ قرار دعم الأفغان بالأموال وحث الشباب على الذهاب للجهاد، وهكذا اصطفت البنادق السلفية بأنواعها في صف واحد مع المعسكر الغربي ضد المعسكر الشرقي في أوج الحرب الباردة، ولا مجال للزعم هنا بأن ما حدث كان عبارة عن "تقاطع مصالح" بين السلفيين ومعسكر الغرب، فوتيرة الأحداث بعد ذلك أظهرت أن التيار السلفي برموزه العلمية والجهادية كان يدور في دائرة "المفعول به".
وليس ثمة إشكال في أصل نصرة أي بلد مسلم يستباح من الغزاة، فهذا أيضاً لا غبار عليه، بل إن هذا هو المتعين، ولكن الرؤية التبسيطية للحدث والغفلة عن فقه واقع صراع الدول العظمى آنذاك، والجهل بالخلفيات والبواعث التي كانت تحرك قادة الأحزاب الأفغانية، والنظر في جدوى ذهاب الشباب لجبهات القتال، أفرز توصيفاً خاطئاً للواقع، وأخطاء فادحة في صياغة الموقف الشرعي للحدث، ولهذا وقع التيار السلفي التقليدي في التناقض لدى العامة، عندما اختلفت مواقف رموزه تجاه الاحتلال الغربي لأفغانستان.
وفي المواقف الشرعية عموماً من النظم العربية المعاصرة، والهيئات الدولية، والأحزاب السياسية، ظل الضمور كامناً في الرؤية السلفية التقليدية لواقع الأمة السياسي والثقافي، فمتى يدرك فضلاؤنا أن اتخاذ أي موقف شرعي من نظام سياسي أو تيار فكري أو منظومة ثقافية، لا يكفي فيه قراءة العناوين الكبرى، والشعارات المرفوعة، وترحيل الفتاوى والأقوال الفقهية من أزمنة سالفة تختلف عن واقعنا اختلافاً جوهرياً.
متى يدرك السلفيون أنهم مع حاجتهم ـ ولا شك ـ لكتب السياسة الشرعية، فهم بحاجة كذلك للإطلاع على كتب فكرية وسياسية واقتصادية كتبها متخصصون في هذه العلوم، وليس المقصود جعل هذه الكتب مصدراً وحيداً للمعرفة أو التأثر بخلفيات كتّابها الفكرية ولكن المقصود أن الإطلاع على مصادر متنوعة في المعرفة سوف يكون ولاشك مغذيّا رئيساً لصياغة رؤية شرعية موضوعية للقضايا والأحداث مع التأكيد على ضرورة التسلح بالعلم الشرعي.
وفي المناخ الثقافي المحلي، أفرز هذا الضمور تبسيطا وتسطيحاً لمفاصل الخلاف مع التيار الليبرالي، فأصبحت "قيادة المرأة للسيارة"، والقول بجواز "كشف المرأة لوجهها" معلماً من معالم العلمنة في العقل الجمعي السلفي، وأذكر أني استمعت لشرح أحد شيوخنا للعقيدة الطحاوية، فذكر فيها أن القول بجواز كشف المرأة لوجهها من علامات دعاة السفور، ولست أنكر هنا أن التيار الليبرالي حاول تنفيذ مخططاته التغريبية عبر بوابة (الخلاف الفقهي)، كما أني قد أعتذر لهذا الشيخ الفاضل، بأنه أراد بكلامه ظرفاً زمنياً محدداً، كانت الحناجر التي ترفع مثل هذه الأقوال، حناجر ليبرالية، كما أني أتفهم كذلك أن يكون ثمة مواقف ممانعة مشكورة ومطلوبة تجاه هذه القضايا، ولكن ثمة فرق جوهري بين أن أقف موقفاً شرعياً مصلحياً من قضايا فقهية معينة، كالقول بمنع قيادة المرأة للسيارة أو منع كشف الوجه، وبين أن أجعل هذه الأقوال الفقهية المعتبرة عند جمهور الفقهاء (مفصلاً عقدياً ومنهجياً) بيننا وبين القائلين بها، وأربّي شباب الصحوة في درس علمي خاص على هذا التصور الخاطئ، ولعل هذا الإشكال لا ينحصر في عدم فقه الواقع بل يتجاوزه إلى مشكل علمي منهجي.
ذكر لي أحد الشيوخ، أنه صلى في بعض المساجد التي شهدت خطباً رنانة، ودعوات من منبر الجمعة ضد أشخاص أكاديميين بأعيانهم، بوصفهم رموز التغريب والفساد عقب أحداث دمج رئاسة البنات مع وزارة التربية والتعليم، ومرة أخرى ليس الإشكال في مبدأ الاعتراض على قرار كهذا أو الاحتجاج عليه، ولكني أجزم أن الخصوم لو طالبونا ببرهان أو مستند أو إثبات لاتهام فلان من الناس بأنه علماني، لما وجدنا سوى تأييده لدمج الرئاسة مع الوزارة أو إدخال الموسيقى في محفل تربوي أو تأييده لقيادة المرأة للسيارة.
وقبل أن أغادر هذه النقطة أعيد التنبيه أنه لا يخفى على المطلع وجود تيار ليبرالي يسعى للتغريب، ولهذا التيار رموزه الذين أظهر الكثير منهم منطلقاتهم الفكرية عبر كتب ومقالات فهؤلاء لا شك في وجوب الوقوف في وجه مخططاتهم التي تستهدف دستور البلد المعلن، وهو الشريعة الإسلامية، ولكن الحديث هنا عن العجلة في رمي شرائح من المثقفين والأكاديميين والإداريين بالعلمنة والتغريب بسبب عدم استقامتهم ظاهرياً والميل لبعض القضايا والمسائل التي لا تُعد مفصلاً عقدياً وفكرياً، وهذا الموقف قد يولّد ردة فعل تجاه الإسلاميين، تقذف بهؤلاء إلى ضفة التيار الليبرالي.
ـ العامل الثاني: ضغوط الواقع تفرز خللاً في فهمه
يسر الله لي أن أحضر محاضرة، ألقاها أحد المشايخ في قاعة جامعية عن الحوار الوطني، وقد ذهب الشيخ في تحليله لأسباب النظرة السلفية السلبية تجاه مصطلح "الوطنية" إلى الصدام التاريخي السياسي والثقافي الملتهب الذي شاع في المنطقة العربية في الستينات بين القوميين والإسلاميين، ورأى الشيخ أنه ليس ثمة حرج في الدعوة إلى الوطنية مستدلاً بأحاديث الإحسان إلى الجار، وما نص عليه الفقهاء من أولوية فقراء البلد بأموال أغنيائه، كما في حديث معاذ عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.
ومع قناعتي بأن محبة الأوطان التي ينشأ فيها الإنسان مركوز في فطرته، والسيرة تشهد بشواهد على ذلك، فقد أصابت الحمى المهاجرين بعد هجرتهم للمدينة، فكان بعضهم كأبي بكر وبلال رضي الله عنهما، ينشد الأشعار في جبال مكة وشعابها شوقاً إليها، كما أن مجرد الانتساب إلى بلد معين لا إشكال فيه، فقد كان هذا موجود عند السلف بلا نكير، بل سبق أن ذكرت في مقال سابق، أن ليس ثمة محذور شرعي من التعاون بين أهل السنة ومخالفيهم من أهل البلد، لتنمية بلدهم والسعي في تحقيق ما كفلته الشريعة للجميع من حفظ أمنهم ورقي اقتصادهم، سيما والجميع يعيش في ظل كيان دستوره المعلن هو الشريعة الإسلامية وهذه نعمة كبرى يختص بها الإسلاميون في بلاد الحرمين دون غيرهم...
إلا أن تحليل الشيخ المحاضر للموقف الإسلامي الحاد في الماضي والحاضر تجاهها، حوى كثيرا من التبسيط، فمصطلح "الوطنية"، حديث، وفد على المسلمين خلال القرن الماضي من الغرب، وله محدداته وقواعده، التي تتجاوز ما ذكره الشيخ عن إحسان المرء إلى جيرانه أو دفع الزكاة لفقرائها، وعندما يريد أي باحث متجرد أن يقيّم مصطلحاً وافداً عليه أن يراجع تاريخ هذا المصطلح ومحدداته وقواعده التي اتفق حولها المهتمون والمختصون، لئلا تدفعه ضغوط الواقع لـ"أسلمة"، مصطلح لا توجد صورته إلا في ذهن قائله، وأما المتخصصون في علوم السياسة والعلوم الإنسانية عموماً، وطبيعة الخطاب الإعلامي السائد في المجتمع فيطرحه بصورة مغايرة تماماً، وطبقاً لما جاء به سدنته من إعلاء الرابطة القطرية على كل الروابط الدينية، وعندها يتم تسيير الجماهير خلف الخطاب الإعلامي السائد بعيداً عن الفهم الخاص للمصطلح الذي يطرحه هذا الداعية أو ذاك، ومع تسليمنا بأثر الصراع السياسي بين القوميين والإسلاميين في الستينات في إذكاء الصراع، إلا أن قصر الموقف السلفي على هذا العامل حوى كثيرا من التبسيط، وفي ظني أن ضغوط الواقع وخصوم اليوم الذين يمعنون في اتهام الدعاة بعدم الإخلاص لأوطانهم ساهم في تشكيل هذه النظرة التبسيطية للموقف الإسلامي.
ومن صور تأثير ضغوط الواقع في فقهه، ما كتبه أحد الدعاة عن محاسن الدول الغربية، مثنياً على ما اسماه "تداول السلطة" عندهم، منكراً أحوال الكثير من البلاد العربية، التي ما أن تنام على نبأ انقلاب حتى تستيقظ على نبأ انقلاب آخر، وعند التأمل في خطاب هذا الداعية المرئي والمسموع إزاء الأوضاع السياسية في بلده العربي، تجد أن الرجل أبعد ما يكون عن هذه المحاسن التي غرد بها، بل إن مواقفه في كثير من الأحيان كانت تطبيلاً للوضع السائد، وتغريداً بمحاسنه، وعندها تظهر المفارقة بجلاء لكل متابع حصيف.
في بعض الأحوال، تلحظ نقاشاً محتدماً هنا أو هناك حول قضايا متنوعة في الفقه والثقافة والسياسة، وربما كانت المنطلقات الشرعية والفكرية واحدة أو متقاربة، ولكن الاختلاف بين المتحاورين في فهم الواقع، يفرز حالة مأساوية من الجدل العقيم "وحوار الطرشان"، ولهذا تصبح مهمة فقيه الواقع الحصيف أن يجلّي الواقع للبعيدين عن فهمه، بل إن هذا ينبغي أن يكون منهجاً عاماً في دروسه ومقالاته ومجالسه.
فإذا كانت المنطلقات الشرعية متقاربة، فعموم المتلقين سيلتقون معه في موقف موحد بلا توجيه مباشر وهذا أقوى في التأثير وغرس القناعات، أما إني لا أزعم عدم وجود إشكالية منهجية لدى فئات من طلبة العلم تشكل حجاباً ولو بحسن نية عن فقه واقع الأمة، وتفكيك هذه الإشكاليات يحتاج لوقفات طويلة.
والغرض من هذه الوقفات، إن يسر الله الكتابة عنها، ليس الخوض في جدال ونزال فقهي وفكري، قد يورث إحناً وبغضاء، فإني أحسب أن هذا الطوفان الإعلامي والثقافي، كفيل بتهميش تأثير هذه الفئة من طلبة العلم بعد سنوات قليلة والعلم عند الله، ولكننا نحتاج لهذه الوقفات والنقاشات لتدارك ردة فعل معاكسة في الاتجاه من قبل عموم المجتمع، قد يقذف بشعبية التيار الإسلامي إلى أسفل القائمة، ونحتاج أيضاً لهذه الوقفات والمراجعات لإضاءة الطريق لجيل سلفي فتيّ يجمع بين سلاح العلم الشرعي، وفقه واقع أمته.
عبدالرحيم التميمي _ مجلة العصر
رد: (( *** الصحوة وفقه الواقع....عود على بدء *** ))
بارك الله فيك أخي الفاضل....
و خال أن السبب في عدم اهتمام بعض العلماء و طلبة العلم بفقه الواقع, هو خطأ تصور معنى فقه الواقع أو أنهم يعيشون في غير زمانهم...و الله الموفق
رد: (( *** الصحوة وفقه الواقع....عود على بدء *** ))
الفقه للواقع مبدأ مهم ....ولكن لما جاء من طرف غير مرضي عنه صار مرفوضا ...
ولكن أليس فقه الواقع مصطلح معاصر نحتاج لبيان معناه لكي نتمكن من الحكم عليه من الجهة الشرعية؟
رد: (( *** الصحوة وفقه الواقع....عود على بدء *** ))
السلام عليكم. الأخ عبدالرحيم لك مني تحية ولجيمع الأخوة القراء وبعد, كتبتب بارك الله فيك موضوع فقه الواقع واشدت في هذا الموضوع واعتذت لكاتبه بعذر من عندك وأقول وبالله استعين إن مسألت فقه الواقع التي جاء بها بعض الدعاة سددهم الله مسألة تستوجب الوقوف عندها وفك تلك الأغلال المستعصية في داخلها لقد عاشت بلاد الحرمين حقبة من الزمن ولا زالت ولله الحمد تعرف لإهل العلم قدرهم وفضلهم ومكانتهم وتنزلهم منزلتهم لكن بعد احداث الخليخ المرة خرج دعاة بثوب جديد لم تعهد لبسه هذه البلاد ولم يعرف من أين جاء لكن تبين فيما بعد وهوا مسألة فقه الواقع والذي يعنون بفقه الواقع هوا (الواقع السياسي) ومصدر هذا الواقع هي المجلات والجرائد والصحف الغربية والكتاب الذي يعيشون في دول الكفر الذي لا شغل لهم إلا تسليط اقلامهم على كل نازله في بلاد المسليمن ولم يلتفتوا لقوله تعالى( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) لإن لا فقه لهم بشرع الله إلا ما رحم ربك وخرجت مسألة فقه الواقع كما أسلفت في وضع مضرب في بلاد الحرمين بعد الإستعانة التي اجمع عليها علماؤنا الأفذاذ لصد عدوان المعتدين. ومعنا فقه الواقع الذي خرج به بعض الدعاة هوا ( أن علماؤنا في هذه البلاد لا يفقهون الواقع السياسي) ولهذا يفتون على حسب تصورهم وأنهم مغيبون كما زعموا ومن نتائج هذا الفقه المزعوم تجرء شباب أحداث على عمائهم والله المستعان وهذه المسألة اصبحت واضحه جلية لمن بصره الله بحال القوم وأنا أنصح بقرائة رسالة لشيخنا العلامة صالح بن فوزان الفوزان بعنوان(فقه الواقع وتجديد الخطاب الديني) لقد بسطها شيخنا بسطاً يثلج صدور أهل السنة ويبصر المخالف إن أراد الله هدايته إلى جادة الصواب. واسأل الله أن يوفقنا وإخواننا لك خير وأن يجنبنا مسالك الفتن.