وصفة مواساة
بدرية الغنيم
هذه وصفة مواساة لمن اغبرّت قدماه وتناولته الخطوب في مسيره لله؛ علّ فيها بلسماً لجرح يدمي.. وسدَّاً لباب يأس قد فتح.. وباب عطاء يوشك أن يغلق..
على ضفاف نهر الإخلاص تنمو بذرة الحب وتضرب جذورها راسخة في الأرض ثباتاً لتشرب من العقيدة الصافية، فتنمو بذرة العطاء لتصبح شجرة، وكلّما كبرت زاد خيرها وعمّ برها وتنوعت عطاياها، قد تصفعها الريح، ولكنّها تمد أغصانها وتلوح أنّ هذا هو النهر هلموا فاشربوا.. وقد يتعثَّر حولها إنسان فتمدّ أغصانها لتكون له سنداً.. وقد يقطع الغصن الذي مدَّته إليها ويجعل منه عصا يتكئ عليها، أو عصا يضرب بها الآخرين.. فهي تعطي ولكن لا تأخذ، فكيف لها أن تعيد ما قُطع منها؟
ولتعوِّض ذلك تعود لماء الإخلاص فتشرب منه.. فيشرق لها غصن جديد أبهى من الذي قطع.. فيا طيب موردها.. ويا طيب عطائها.. وتلك أغصانها قد تدلَّت وامتدت أمام الشمس لتصنع الظلال للإنسان والحيوان.. أتراها تفرح بالعطاء بدون مقابل؟ أم تأنس بخدمة الإنسان وقد يستريح بظلها ثمّ يرمي بمخلفاته تحتها لينتن المكان ولتعمى عينيه عن الحقيقة: أنَّ ذلك الظل ممدود بماء الإخلاص والمورد الزلال.. فلك في ذلك عبرة، ألا تعتبر بي كيف وصل خيري إليك؟
ثمّ هذه الأزهار تبتسم على وفرتها.. تزيِّن الصباح وتعطِّر المكان، فتغري الطير بالتغريد، وتفتح شهية النحل وما شابهها من عاشقات الرحيق. وكذا الإنسان قد هاتفته الريح وأخبرته بقدوم الزهر: أن أقبل.. إن كان لك مطمع.. فالكل يطمع في زهرها ولم تطمع منهم حتى بالسلامة على زهرها الذي ينبئ عن قرب قدوم ثمرها. أتقطف الزهر ثمّ تطمع بالثمر؟ هلا انتظرت أيُّها العجول؟ فإنك تفوت حظَّك وحظ غيرك من الثمر، ثمَّ بعد ذلك تطلب الثمر فإن لم تجد قلت: شجرة عجوز أجدر بها أن تقلع.. وإذا أقبل الثمر سال لعابك وأقبلت بحصّاداتك ومنجلك تجرع جذوعي وتدمي سيقاني لتسبق الدواب والطير والحشرات..
كم أنت ماهر أيُّها الإنسان في قطف الثمرة، لا يغلبك عليها أحد، ليتك ساهمت في غرسها، فأنت تعرف كيف تقطف، لكنَّك لا تعرف أن تغرس، وإن غرست فلا تحسن المورد، ألم تعلم أنَّ المورد الزلال هو تلك العقيدة السمحة، وأنَّ هذه الشجرة هي المؤمن المعطاء الذي وصل خيره وبرّه للصديق وغيره مهما تطاول شرُّ النَّاس في تثبيطه وثنيه عمَّا هو فيه من خير وعطاء، فلا ينالون منه إلا العطاء؛ لأنه لا ينتظر منهم جزاءً؟ فهو صاحب همّة عالية، فمطامعه أخروية.. ترك الانتقام والتشفي لأهل الدنيا.. الذين مهما حاولوا البذل والعطاء تجدهم قصيري الأيدي في البذل؛ لأنَّهم يخشون على أنفسهم ويغارون عليها أكثر من غيرتهم لدينهم، ويخشون إن مدُّوا أيديهم بالعطاء أن تخدش أو تجرح أو تغبر حينما تلامس حاجات المحتاجين. ولكن المؤمن ـ وفاء لهذا النبع الذي ارتوى منه ـ تجده متجدد العطاء متنوِّع الخيرات، باذلاً في ساعات فرحه وحزنه حتى وإن سار وحده وخذله من حوله، فماءُ العطاء يجري في عروقه. وهمَّته العالية تأبي أن يعامل الآخرين بالمثل. لله درَّه!