-
أغنياء من غير مال
إن من تمام أركان الإيمان التي أوجب الله علينا الإيمان بها: الإيمان بالقدر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أوَّل ما خلق الله القلم، قال له: اكتُبْ، قال: ما أكتبُ؟ قال: اكتب القدر، ما كان، وما هو كائن إلى الأبد))؛ رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع).
ومن هذا المنطلق نقول: إنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله قسَّم الأرزاق، وآجالها، فلماذا الحزن على ما فات، والقلق على المستقبل؟! ولماذا الحسد لما في أيدي الناس؟! ولماذا كل هذا الهم لجمع المزيد من الأموال وقد فاض الله عليك بفضله يا عبدالله، فكن قنوعًا بما أعطاك الله؟!
ولقد قيل: إن القناعة كنزٌ لا يفنى، وإن كان في المقالة ضعف؛ لكن معناها صحيح، فمن يعِشْ قنوعًا يعِشْ مرتاح البال، سليم القلب، هادئ الطَّبْع.
والقناعة من معانيها ترك التشوُّف للمفقود، والرضا بالموجود وإنْ قلَّ، ويكفينا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا))؛ حسَّنه الألباني.
ومتى عاش الإنسان قنوعًا عاش سعيدًا، وهل دمَّر الأُسَرَ إلَّا الطَّمَعُ وحُبُّ الدُّنيا وزخارفها؟ فكم من ربِّ أسرة دخل السجون بسبب عدم قناعة أسرته بالموجود! وكم من ربِّ أسرة ألَمَّت به الأمراض بسبب طَمَع أسرته في المزيد! فكلَّما رأوا جارًا أو قريبًا جاء بجديدٍ تمنَّوا المشابهة والمزيد، فهلَّا اقتنعوا بما أعطاهم الله من فضله، وشكروا الله على ما منَّ به عليهم من عافية، أما تذكر أهل الطمع فيمن فقدوا نعمة العافية وهم فيها يتقلبون؟!
أليس يمشون بأقدامهم وغيرهم راقدون، ويُبصرون وغيرهم من الناس لا يُبصرون، ويسمعون وغيرهم الكثير لا يسمعون، ويتمتعون بلذة الطعام والشراب وغيرهم محرومون؟! أليس قد أعطاهم الله عافية في عقولهم وغيرهم الكثير لا يعقلون؟! فما لهؤلاء القوم أفلا يعقلون؟!
رغيف خبز يابس تأكله في زاوية
وكوز ماء بارد تشربه من صافية
وغرفة ضيقة نفسك فيها خالية
أو مسجد بمعزل عن الورى في ناحية
تدرس فيه دفترًا مُستنِدًا بسارية
معتبرًا بمن مضى من القرون الخالية
خير من الساعات في فيء القصور العالية
تعقبها عقوبة تصلى بنار حامية
إن عدم القناعة والرضا بالموجود من أشدِّ الأمراض فتكًا بالأُسَر؛ حيث يورد أربابه السجون، ويلمهم الهموم والأسقام التي لا دواء لها؛ بل قد تتكالب عليه الهموم حتى تورثه أمراضًا مزمنة، لا ينفعه معها دواء حتى وإن قضى كل ديونه وتخلَّص من همومه.
فهل اعتبرت تلك المرأة المضيقة على زوجها لذة الحياة بكثرة مطالبها وتغيير أثاث بيتها كل عام؟! أما آن لأولئك الطامعين المعتدين على حقوق الآخرين أن يكتفوا بما جمعوا من أموال وعقارات، ويعلموا أن مهما جمعوا من أموال فلن يزيدهم إلا طمعًا وأنهم تاركوه لغيرهم؟! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ)).
ولقد تعجَّبت كثيرًا ممن يملك الأموال الطائلة، ولديه من التجارات الواسعة التي تغنيه سنوات عديدة، وما زال ينافس الضعفاء الذين يبحثون عن تحسين أوضاعهم ببعض التجارات الصغيرة، ولم يتركوا لهم فرصةً في مشاركتهم لقمة العيش في الأسواق والمدارس وغيرها.
خذ القناعة من دنياك، وارض بها، لو لم يكن لك إلا راحة البدن، وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها، هل راح منها بغير الطيب والكفن؟!
فاقتنع أخي المسلم بما أعطاك الله، وارضَ به، وإن قلَّ عددُه أو قلَّتْ قيمتُه، وإذا أصبحت كل يوم وأنت في عافية فاشكر الله عليها، ولا تصبح وهمُّك الدنيا وجمعها، ففي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ)).
والعجيب من ذلك أنك ترى بعض الناس ليس لديه من الدخل إلا قليل، قد لا يتجاوز الألفين من الريالات، وقد رضي بما أعطاه الله، ومن يشاهد ابتسامته العريضة ومزاحه الدائم مع إخوانه وأصدقائه، ويلاحظ راحة باله يقول عنه: إنه يعيش عيشة الأغنياء، وبالعكس من شخص آخر يملك الملايين من الريالات، وتلاحظ على وجهه الهمَّ والغمَّ، ولا تكاد ترى الابتسامة على وجهه إلا نادرًا، ويطرد في الدنيا ليلًا ونهارًا لجمع المزيد والمزيد، ومن يشاهد أثاث بيته وطعامه يقول: إنه من أهل الصدقة والمحتاجين، فارضَ أخي الحبيب بأهلك ومالك وولدك وبيتك وسيارتك بأي حالة كانوا؛ فغيرك لم يجد مثلها، وإذا نظرت إلى من هو أعلى منك فانظر أيضاً إلى من هو أسفل منك؛ يهدأ قلبك، وترتاح نفسك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ))؛ رواه الترمذي (2389)، وصحَّحه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع"، فكفى بهذا القول واعظًا، فمن لم يتَّعظ به، فلا واعظ له، وكفانا الله الدنيا وشرَّها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آ له وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/131574/#ixzz5aaiD9E4h