قاعدة السياق( سباقاً ولحاقاً) وأثرها في التفسير
دراسة تطبيقية على تفسير أبي السعود المسمى ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)
د. سليمان معرفي سفر[(*)]
المبحث الثالث: شيوخه وتلاميذه
شيوخه:
مما لا شك فيه أن من الروافد التي تسهم في تكوين علم الرجل وثقافته: الشيوخ, فهم القدوة العلمية له, فلقد فتح الإمام أبو السعود عينيه على جهابذة الفكر والأدب, فنهل من ينابيعهم, وقطف من بساتينهم, وكان أعظمهم أثراً فيه والده.
العارف بالله تعالى الشيخ/ محيي الدين محمد الإسكليبي
برع في العلوم, وتضلع من المنطوق والمفهوم, وكان من كبار رجالات الصوفية, وجمع بين رياستي العلم والعمل, توفى رحمه الله تعالى في سنة 920ه([39]).
ابن المؤيد:
العالم الفاضل الكامل المولى عبد الرحمن بن علي المؤيد الأماسي, كان بالغاً إلى الأمد الأقصى من العلوم العقلية, ومنتهياً إلى الغاية القصوى من الفنون النقلية, بارعاً في الفنون الأدبية, وشيخاً في العلوم العربية, وماهراً في التفسير والحديث, ماهراً في البلاغة والبيان, ولد في سنة 860ه وتوفى في سنة 922ه([40]).
ابن قطب الدين:
هو محيي الدين محمد بن محمد الحنفي, أحد موالي الروم المعروف بابن قطب الدين, ترقى في التدريس إلى أن ولى قضاء حلب, ثم بروسيا, ثم إسلام بول, ثم قضاء العساكر الأناضولية, وكان عالماً فاضلاً صالحاً ورعاً محباً للصوفية سالكاً طريقهم, توفى رحمه الله تعالى في سنة 957ه([41]).
القوشجي:
علي بن محمد القوشجي الحنفي علاء الدين, عالم مشارك في أنواع العلوم, توفى رحمه الله تعالى في سنة 879ه([42]).
ابن المعلول:
العالم الفاضل الكامل المولى محيي الدين محمد بن عبد القادر, كان رحمه الله عالماً فاضلاً صالحاً محققاً مدققاً عالماً بالعلوم الشرعية والعقلية, تولى قضاء مصر, ثم قضاء العساكر الأناضولية, توفى رحمه الله تعالى في سنة 963ه([43]).
العالم الفاضل الكامل سنان الدين يوسف:
عمل فترة بالتدريس, وكان من جملة الصارفين جميع أوقاتهم في العبادة, وكان كثير الاشتغال بالعلم الشريف, له حاشية على تفسير البيضاوي من أوله إلى آخره توفى رحمه الله تعالى في سنة 891ه([44]).
سعدي جلبي:
المولى سعد الدين عيسى بن أميرخان الحنفي المعروف بسعدي جلبي, الإمام الفاضل لعلامة أحد موالي الروم المشهورين بالعلم والدين والرياسة, عمل بالتدريس, ثم بالقضاء, ثم بالإفتاء, له رسائل وتعليقات وكتب وحواشٍ مفيدة على تفسير البيضاوي, وله شرح مختصر للهداية, توفى رحمه الله سنة 954ه([45]).
تلاميذه:
شيخ زاده:
المولى عبد الرحمن بن جمال الدين الحنفي الأمام العلاّمة, اهتم في تحصيل المعارف غاية الاهتمام, وقد أجاز له الإمام أبو السعود حيث قال: "أجزت له في مطالعة الكتب الفاخرة واحتياض المعالم الزاخرة ... الخ" توفى رحمه الله تعالى في سنة 971ه([46]).
السعودي:
المولى محمد بن حسن الشريف الحسيب المعروف بالسعودي, أخذ هو وأخوه المعروف بالجنابي عن المولى أبي السعود, وكان السعودي إماماً محققاً مدققاً, توفى في سنة 999ه([47]).
مؤلفاته:
إن الإمام أبا السعود الذي فتح عينيه على جهابذة الفكر والأدب فنهل من ينابيعهم وقطف من بساتينهم, وعرف في مقاعد الدرس شوارد اللغة وأسرار الشريعة, وفقه الحياة حتى تضلَّع من العلم والعمل, لم يشغله التدريس والقضاء والإفتاء عن أن يختلس بعض الوقت للكتابة والتأليف.
قال صاحب العقد المنظوم: (وقد قاعه الدرس والفتوى والاشتغال بما هو أهم وأقوى عن التفرغ للتصنيف)([48]).
ومن مؤلفاته التي ذكرها أصحاب التراجم:
إرشاد العقل السليم.
بضاعة القاضي في الصكوك.
بعض الحواشي على تفسير الكشاف.
تحفه الطلاب في المناظرة.
تهافت الأمجاد في فروع الفقه الحنفي.
ثواقب الأنظار في أوائل منار الأنوار.
رسالة في المسح على الخفين.
رسالة في مسائل الوقوف, وأخرى في تسجيل الأوقاف.
غلطات العوام.
غمرات المليح في أول مباحث قصد العام من التلويح.
الفتاوى.
قصة هاروت وماروت.
قانون المعاملات.
ميمية قصيدة مشهورة.
معاقد الطراز.
موقف العقول في وقف المنقول.
نهاية الأمجاد على كتاب الجهاد على الهداية للمرغيناني([49]).
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
لقد برع الإمام أبو السعود في شتى العلوم, وحاز قصب السبق بين أقرانه, فلم يقدر أحد أن يجاريه في ميدانه, وارتقى أعلى المراتب العلمية, وتقلد أرقى المناصب العثمانية.
قال عنه صاحب العقد المنظوم: (كان الإمام أبو السعود من الذين قعدوا من الفضائل والمعارف على سنامها وغاربها, وضربت له نوبة الامتياز في مشارق الأرض ومغاربها, تفرد في ميدان فضله فلم يجاره أحد, ولو تكلم في نقل الجبال الراسيات والأطواد الشامخات لأبرَّ كلامه, ولو قصد إلى راحة الدهر لألقت لديه زمامه)([50]).
وقال عنه صاحب الفوائد البهية: (الإمام أبو السعود: شيخ كبير, وعالم نحرير, لا في العجم له مثيل, ولا في العرب له نظير, انتهت له رياسة الحنفية في زمانه, وبقى مدة العمر في الجلالة وعلو الشأن, وكان يجتهد في بعض المسائل ويخرج ويرجع بعض الدلائل, وله في الأصول والفروق قوة كاملة, وقدرة شاملة, وفضيلة تامة, وإحاطة عامة)([51]).
وقال عنه صاحب الكواكب السائرة: (الإمام العلامة المحقق المدقق الفهامة, العلم الراسخ, والطود الشامخ, مفتي التخت السلطاني, أعظم موالي الروم وأفضلهم, لم يكن له نظير في زمانه في العلم والرئاسة والديانة)([52]).
المبحث الرابع: وفاته
وفاته:
إن أيام الحياة معدودة وهي ستنقضي مهما طال أمدها فبعد أن مكث العلامة أبو السعود في منصب الإفتاء ومشيخة الإسلام قرابة الثلاثين عاماً وافته المنية بالقسطنطينية, في جمادي الأولى سنة اثنين وثمانين وتسعمائة([53]).
قال صاحب العقد المنظوم (ظل أبو السعود في منصب الإفتاء مكرماً مهاباً, يفتح أقفال المشكلات ويسهل طرق المعضلات, ويجيب على الأسئلة السداد بأجوبة حسان, إلى أن دعى من جناب ربه إلى رياض الجنان وكان ذلك في أوائل جمادي الأولى من شهور سنة اثنين وثمانين وتسعمائة)([54]).
وقد حضر جنازته العلماء والوزراء وسائر أبواب الديوان, وخلق لا يحصون كثرة, وصلى عليها المولى سنان([55]) في جامع السلطان محمد خان, وذهبوا به إلى جوار مرقد أبي أيوب الأنصاري([56]) رضي الله عنه, وهم يبالغون في ثنائه, ودفنوه في حظيرة أعدها لنفسه وأبنائه([57]).
المبحث الخامس: نبذة عن تفسير أبي السعود رحمه الله تعالى:
بعد أن قمنا بالتعريف بصاحب التفسير (إرشاد العقل السليم) الإمام أبي السعود رحمه الله تعالى.
نشير هنا إلى التعريف بهذا التفسير وطريقة أبي السعود فيه, فنقول -بعد الاستعانة بالله تعالى-:
لم يقم أبو السعود بإخراج تفسيره للناس دفعة واحدة, بل بدأ في تفسيره وتوقف عند آخر سورة (ص), وقام بتبييضه في شعبان سنة (973ه), وقد تلقاه السلطان سليمان خان بحسن القبول, وأنعم عليه بما أنعم, وزاد في وظيفته, ثم بعد سنة أتم تفسيره, فقابله السلطان بمزيد لطفه وإنعامه, وزاد في وظيفته مرة أخرى.
ويمتاز تفسيره هذا بحسن الصياغة وجمال التعبير, وفيه من أسرار البلاغة بما لم يسبقه أحد إليه, وشهد له كثير من العلماء بأنه خير ما كتب في التفسير, قال عنه صاحب العقد المنظوم: وقد أتى فيه بما لم تسمح به الأزمان, ولم تقرع به الآذان, فصدق المثل السائر كم ترك الأول للآخر. أ. ه([58]).
وقال عنه صاحب الفوائد البهية في تراجم الحنفية: وقد طالعت تفسيره وانتفعت به وهو تفسير حسن, ليس بالطويل الممل, ولا بالقصير المخل, متضمن لطائف ونكات, ومشتمل على فوائد وإشارات([59]).
قال الشيخ محمد الذهبي: قرأت مقدمة الكتاب لمؤلفه, فوجدته يثني كثيراً على تفسير الكشاف, وأنوار التنزيل للبيضاوي, وأنه قرأهما قبل أن يؤلف تفسيره, وذكر الذهبي رحمه الله تعالى أيضاً قوله: ومن هنا يتبين لنا, أن أبا السعود يعتمد في تفسيره على الكشاف والبيضاوي وغيرهما ممن تقدمه, غير أنه لم يغتر بما جاء في الكشاف والبيضاوي من الاعتزالات.
ولهذا لم يذكرها إلا على جهة التحذير منها([60]).
اهتمامه بعلم المناسبات وإلمامه بالقراءات([61]):
يبدي أبو السعود في تفسيره اهتماماً بوجود المناسبات بين الآيات, كما يعرض أحياناً لذكر القراءات, ولكن بقدر ما يوضح به المعنى, ولا يتوسع في ذلك([62]).
رواية الإسرائيليات وعن بعض ما اشتهر بالكذب:
يقول محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى: إنه مقل في سرد الإسرائيليات, وإن ذكرها أحياناً فليس على سبيل الجزم بها, والقطع بصحتها, بل يصدر ذكرها بقوله:
رُوي, أو قيل, مما يشعر بضعفها, ويكتفي بتلك الإشارة دون تعقيب.
كما نلاحظ عليه أنه يروي بعض القصص عن طريق الكلبي عن أبي صالح, مع العلم أن الكلبي متهم بالكذب, لكنه يخلص من تبعة هذه الروايات بقوله أخيراً (والله تعالى أعلم).
وذكر الذهبي رحمه الله تعالى مثالاً على ذلك ما أورده أبو السعود في سورة سبأ عن قصة عمرو بن عامر, وأن طريفة الكاهنة أخبرته بخراب سد مأرب, وتغريق سيل العرم الجنتين .....([63]).
إقلاله من المسائل الفقيهة:
يقول محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى: بأن أبا السعود يتعرض في تفسيره لبعض المسائل الفقهية, ولكنه مقل جداً منها, ولا يكاد يدخل في المناقشات الفقهية والأدلة المذهبية, بل يسرد المذاهب في الآية ولا يزيد.
وذكر مثالاً على ذلك قوله تعالى في الآية (225) من سورة البقرة: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (الآية فإنه يعرض للخلاف المذهبي في تحديد معنى اليمين اللغو فيذكر رأي الأحناف في ذلك فيقول: وقد اختلف فيه, فعندنا هو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه, فإنه لا يقصد فيه الكذب.
وعند الشافعي (رحمه الله) هو قول العرب لا والله, وبلى والله, مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال, ولا يزيد على ذلك, بل بمعنى وينزل الآية على قول الحنفية([64]).
تفسير أبي السعود وتناوله لما تحتمله الآيات من وجوه الإعراب:
إذ كانت الآية تحتمل أوجها من الإعراب, فإنه ينزلها على اختلاف الأعاريب, ويرجح واحداً منها, ويدلل على رجحانه.
ويقول محمد الذهبي: وعلى الجملة. فالكتاب دقيق غاية الدقة, بعيد عن خلط التفسير بما لا يتصل به, غير مسرف فيما يضطر إليه من التكلم عن بعض النواحي العلمية, وهو مرجع مهم يعتمد عليه كثير ممن جاء بعده من المفسرين, وقد طبع هذا التفسير مراراً, وهو يقع في خمسة أجزاء متوسطة الحجم([65]).
الفصل الثاني
الأمثلة التطبيقية من إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المثال الأول:
قال الله عز وجل: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)([66]).
قال أبو السعود رحمه الله تعالى:
بناءً على أن تعاطي القبائح من العالمين بقبحها أقبح, وذلك إنما يتصور في حق الكفرة, فمن صرف التقييد إلى نفس النهي مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضاً فقد نأي عن التحقيق, إن قلت: أليس في تخصيصه بالكفرة في الأمر والنهي خلاص من أمثال ما مر من التكلفات وحسن انتظام بين السباق والسياق, إذ لا محيد في آية التحدي من تجريد الخطاب, وتخصيصه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رباء([67]) محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي؟ قلت: بلى إنه وجه سري, ونهج سوي, لا يضل من ذهب إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه, فتأمل. أ. ه.
أقول وبالله التوفيق:
إن أبا السعود هنا في هذه الجملة القرآنية (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ينكر على من عمم الخطاب بالنهي – هن – ليشمل المؤمنين مع الكافرين.
وقد وجت في تفسير الإمام عبد الحق بن عطية الأندلسي الموسوم بـ: (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)([68]).
من يعمم هذا النهي ليشمل المؤمنين أيضاً, قال ابن عطية:
قال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين, فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا الله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد([69]).
لذلك وجدنا أبا السعود رحمه الله تعالى يأبي دخول المؤمنين في هذا النهي وبقصره على الكافرين وذلك من خلال السباق والسياق.
قال رحمه الله تعالى: (إذ لا محيد في آية التحدي من تجريد الخطاب, وتخصيصه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي). أ. ه.
أقول: يعني بآية التحدي ما جاء في الآية التي تليها مباشرة قوله تعالى: (وَإن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ)([70]).
وهكذا نجد أبا السعود رحمه الله تعالى يرجح اختصاص النهي في هذه الآية بالكافرين فقط ومن خلال قاعدة اللحاق والسياق.
المثال الثاني:
قال الله وعز وجل: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ)([71]).
قال أبو السعود رحمه الله تعالى:
وأياً ما كان فالذي يقتضيه جزالة التنزيل ويستدعي فخامة شأنه الجليل: أن يكون صدور هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً عن نصيحتهم, وحيث كان فحواه تسفيه أولئك المشاهير الأعلام, والقدح في إيمانهم لزم كونهم مجاهرين لا منافقين. وذلك مما لا يكاد يساعده السباق والسياق, وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين. أ. ه.
أقول وبالله التوفيق:
إن أبا السعود هنا في تفسيره لهذه الآية الكريمة إنما يستدل بالسباق والسياق على ترجيح المسألة قول المنافقين (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) هل قالوه بمحضر من المؤمنين؟ أم أنهم قالوه فيما بينهم؟
فأبو السعود رحمه الله تعالى: يستدل بمسألة السباق والسياق على أنهم قالوه بعيداً عن المؤمنين الناصحين لا على وجههم, وإنما قالوه فيما بينهم.
مستدلاً كذلك بأن مجاهرتهم للمؤمنين بهذا القدح والتسفيه يتنافى مع النفاق, فالنفاق يستدعي التستر والتخفي والكذب وعدم الجرأة على التصريح.
لذلك؛ فإن السياق يقتضي انهم قالوا عبارتهم تلك فيما بينهم, لا عند المؤمنين, ولا يمكن أن يظهروا نفاقهم بطريقة معتادة, ولكنه شيء أطلع الله عليه نبيه([72]).
و(الناس) هنا المراد بهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم([73]).
والسفهاء: جمع سفيه: ومعناه هنا: الخفيف العقل, وأصل السفه الخفة([74]).
فلا شك – إذ – أن هؤلاء المنافقين إذا خلا بعضهم إلى بعض يتكلمون بمثل هذا الكلام القبيح في حق المؤمنين, ففضح الله تعالى مقالتهم تلك دون الإشارة إلى أشخاصهم بالاسم.
ومما يؤكد ذلك ويؤيده: قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ولَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُم ْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولَتَعْرِفَنَّه ُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)([75]).
أي لأريناك أشخصهم فعرفتهم عيانا, ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين؛ ستراً منه على خلقه, وحملاً للأمور على ظاهر السلامة ورداً للسرائر إلى عالمها جل وعلا.
(ولَتَعْرِفَنَّ ُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ) أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه, وهو المراد من لحن القول([76]).
فمن كان هذا شأنه وهذه حاله لا يمكن أن يصرح في تسفيه أولئك المشاهير الأعلام علانية, سواء أقلنا: إنهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه أبو السعود رحمه الله تعالى, أم الذين أسلموا من اليهود, كعبد الله بن سلام وأصحابه, فكلهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, فلا يمنع دخول الجميع في ذلك, والله تعالى أعلم.
فهذا مما لا يكاد يساعده السباق والسياق.
المثال الثالث:
قال الله عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)([77]).
قال أبو السعود رحمه الله تعالى:
قيل: أصل النظم الكريم يريد الله أن يبين لكم, فزيدت اللام لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة, ومفعول يبين محذوف؛ ثقةً بشهادة السباق والسياق, أي يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وفضائل أعمالكم, أو ما تعبدكم به من الحلال والحرام. أ.ه.
أقول: فأبو السعود يستدل بالآيات التي سبقت هذه الآية وهي تتكلم عن مسائل الحلال والحرام([78]).
ففي سباقها وسياقها دليل على أن مفعول "يبين" محذوف تقديره يبين لكم ما خفي عنكم من المصالح والفضائل الحاصلة لكم وما تعبدكم به من هذه الأحكام المتقدمة.
لذلك ذيل تلك الآيات بهذه الآية الكريمة استئناساً لنفوس المؤمنين لامتثال تلك الأحكام المتقدمة من أول السورة إلى هنا, لأن هذه الأحكام مخالفة لما اعتادوه وألفوه من عوائد وشهوات كانوا قد استباحوها.
ومن الأدلة القرآنية على زيادة اللام بعد مادة الإرادة وبعد أن المصدرية قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ )([79]).
وقوله تعالى: ((يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ )([80]).
وقد نقل الطاهر بن عاشور في تفسيره ما يؤيد ما نقله عن سيبويه, حيث قال سيبويه عن لام "ليبين" هي لام التعليل أي لام كي, وأن ما بعدها علة, ومفعول الفعل الذي قبلها محذوف يقدر بالقرينة, أي يريد الله التخليل والتحريم ليبين.
وقد أيد الطاهر ابن عاشور سيبويه في ذلك. أ. ه.([81])
أقول: وإذا تأملنا كلام سيبويه في قوله: ومفعول الفعل الذي قبلها محذوف يقدر بالقرينة, إنما يعني بالقرينة قرينة السباق والسياق لا شك في ذلك.
وبهذا يتأيد ما ذهب إليه أبو السعود رحمه الله تعالى من أن مفعول "يبين" محذوف دل عليه سباق الآيات وسياقها.
المثال الرابع:
قال الله عز وجل: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)([82]).
قال أبو السعود رحمه الله تعالى:
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ) أي ما أوجس منهم من الخيفة, واطمأن قلبه بعرفانهم وعرفان سبب مجيئهم, والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببعض غب([83]) انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه, بل له مدخل تام في السباق والسياق. أ. ه.
أقول: إن أبا السعود رحمه الله تعالى: يستدل بالسباق والسياق على أن الآيات من قوله تعالى: (ولَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهُمْ وأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإسْحَاقَ ومِن ورَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا ويْلَتَى أَأَلِدُ وأَنَا عَجُوزٌ وهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وإنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) الواردة في هذه السورة الكريمة والتي تتحدث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام والملائكة الذي جاءوا يبشرونه بهلاك قوم لوط وبولادة زوجه سارة لإسحاق وهي عقيم, وحديث سارة مع الملائكة وتعجبها من ولادتها وهي عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير, ورد الملائكة على سارة بأنه لا عجب من أمر الله تعالى وقدرته على كل شيء.
فإن هذا الحوار بين سارة والملائكة الكرام داخل في أحوال إبراهيم صلى الله عليه وسلم, ولا يعد انفصالاً عن ذلك بدلالة السباق والسياق, فالآيات كلها تتحدث عن أحوال إبراهيم عليه السلام.
و"الروع" مرادف للخيفة.
و"يجادلنا" جواب "لما" جاء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى: (ويَصْنَعُ الفُلْكَ).
والمجادلة: المحاورة.
وقوله: (فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي في عقاب قوم لوط([84]).
المثال الخامس:
قال الله عز وجل: (إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وهُم مُّسْتَكْبِرُون َ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ومَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِي نَ (23) وإذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ومِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ويَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلَى الكَافِرِينَ)([85]).
قال أبو السعود رحمه الله تعالى:
في قوله تعالى: (ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ويَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلَى الكَافِرِينَ).
والضمير إما للمفترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن (مثلوا) بهم من الماكرين كما أشير إليه, وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق كما سقف عليه. أ. ه.
أقول: ويعني بالضمير في قوله: "يخزيهم", فأبو السعود يستدل بالسباق والسياق على أن الضمير في "يخزيهم" يعود إلى الفريقين, إلى الذين يفترون على القرآن بأنه أساطير الأولين, وإلى الماكرين الذين من قبلهم.
وأن سباق الآيات وسياقها يأتي قصر الخزي على المفترين فقط دون الماكرين وذلك أن من المفسرين من ذهب إلى أن الضمير في "يخزيهم" عائد على الفريق الأول, وهم "الذين لا يؤمنون بالآخرة"([86]).
وذهب بعضهم إلى أن الضمير في "يخزيهم" عائد على الماكرين الذين من قبل المفترين([87]).
فبالسياق والسياق يرجح أبو السعود رحمه الله تعالى أن الضمير عائد إلى الفريقين, ولا يقتصر على فريق واحد منهما, فإن سباق الآيات وسياقها يحتمان أن يدخل الفريقان في هذا الوعيد, وليس هناك ما يدعو إلى قصر الضمير على فريق مجرم دون فريق مجرم آخر, وكلاهما في نفس السياق.
و"لا جَرَم" أي لابد ولا محالة, وحقاً([88]).
و"الخزي" السوء, وخزي الرجل وقع في بلية وشر وشهرة فذل بذلك وهان([89]).
و"تشاقون" من المشاقة وهي: غلبة العداوة والخلاف([90]).
يتبع