فقه السنة*** متجدد إن شاء الله
فقه السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 1 )
الحديث الخامس
غسل الإناء عند ولوغ الكلب فيه
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً). وفي رواية لمسلم: (أولاهن بالتراب)، ولمسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب)، وفي لفظ لمسلم: (فليريقه)، وفي رواية للترمذي: (أخراهن، أو أولاهن بالتراب).
* * *
هذا حديث عظيم فيه مسائل مهمة تتعلق بطهارة ما مسه الكلب، وولغ فيه، نعرضها في الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: قوله: (إذا ولغ) المراد بالولوغ أي إذا شرب بطرف لسانه، وقال بعضهم: إذا أدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع، وحركه، سواء شرب أو لم يشرب، وقيل: إذا كان ما في الإناء غير مائع يقال: لعقه، وإذا كان الإناء فارغاً يقال: لحسه.
والحكم هنا يعم الجميع، سواء كان الإناء فارغاً أو غير فارغ، سواء كان ما فيه مائعاً كالماء، أو غير مائع، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.
الوقفة الثانية: قوله: (في إناء أحدكم) الإضافة هنا ملغاة؛ لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملك الإناء، وكذلك في قوله: (فليغسله) لا يلزم أن يكون الغاسل مالك الإناء.
الوقفة الثالثة: قوله: (فليرقه) أي ما في هذا الإناء.
الوقفة الرابعة: استدل جمهور أهل العلم بهذا الحديث على نجاسة الكلب، سواء نجاسة فمه، أو سائر جسده، قالوا: إن نجاسة فمه أخذت من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- بغسل الإناء الذي ولغ فيه، فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجاسة، وليس هنا حدث فتعينت النجاسة، ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أمر بإراقة الماء، وفي إراقته إضاعة للمال، فلو كان الماء طاهراً لما أمر بإضاعته، فدل على نجاسته المتفرعة عن نجاسة فم الكلب.
أما نجاسة سائر جسده فأخذت بالقياس على نجاسة فمه، إذ إن فمه أشرف ما فيه، فبقية بدنه أولى، كذلك إذا تعين نجاسة لعابه، وهو عرق فمه، والعرق جزء متحلب عن البدن، فجميع عرقه نجس، وجميع بدنه نجس.
الوقفة الخامسة: هل هذه النجاسة خاصة بكلب معين، أم عامة لجميع الكلاب؟ ذهب الإمام مالك - رحمه الله تعالى- إلى أنه خاص في الكلب المنهي عن اتخاذه، أما المأذون في اتخاذه، وهو كلب الصيد، أو كلب الحراسة للزرع والماشية، فهذا لا يعمه الحكم، لكن الصحيح – والله أعلم ما ذهب إليه جمهور أهل العلم – أن الحكم عام لكل كلب، أما الكلاب التي رخص فيها، فقد رخص فيها للحاجة.
الوقفة السادسة: استنبط جمهور العلماء من هذا الحديث أن الإناء الذي ولغ فيه الكلب قد تنجس، وكذلك ما في هذا الإناء من ماء أو غيره. وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أمر بغسل الإناء سبعاً، والثامنة بالتراب، والغسل لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، كما استدلوا بما رواه الإمام مسلم مرفوعاً: (طهور إناء أحدكم...)، والطهورية لا بد أن تكون بعد نجاسة.
الوقفة السابعة: تعددت روايات الحديث في عدد الغسلات، فمن تلك الروايات: (فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، ومنها: (فاغسلوه سبعاً وعفروه بالتراب). من هنا استنبط أهل العلم أن الواجب سبع غسلات؛ لصحة الحديث، وتعددت رواياته، خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم أن الواجب غسلة واحدة فقط.
الوقفة الثامنة: استنبط جمهور أهل العلم من هذا الحديث أنه يجب أن يغسل الإناء مرة واحدة بالتراب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (أولاهن بالتراب)، وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب)، وفي رواية: (إحداهن بالتراب)، لكن ما هو موضع هذه الغسلة؟ بمعنى هل يغسل الإناء بالتراب الغسلة الأولى أم الأخيرة؟ الراجح - والله أعلم- أنها الغسلة الأولى، فيغسل المرة الأولى بالتراب، ثم يغسل سبع مرات بالماء.
الوقفة التاسعة: هل تكفي المنظفات الأخرى عن التراب كالصابون، والأشنان، ونحوهما؟
الجواب: ذكر العلماء أنه لا يكفي وذلك لوجود مادة في الكلب لا يُقْضَى عليها إلا بالتراب، فلله الحكمة البالغة، وإن كان بعض الناس يظن أن المقصود زيادة التنظيف، فتكفي إحدى المواد المنظفة، وهذا فهم خاطئ، بل لا بد من التراب. وإن شفعه بمنظفات أخرى فلا بأس.
الوقفة العاشرة: ذكر بعض أهل العلم أن الكلب إذا أدخل يده، أو رجله في الإناء فإن الحكم يعمه؛ قياساً على الولوغ، وبناءً على أن سائر الكلب نجس، وأن المادة التي في لعابه موجودة في عرقه المنتشر على جسده، وذكر بعضهم أن الحكم خاص بالولوغ فقط، والأول أحوط - والله أعلم-.
الوقفة الحادية عشرة: هل يقاس على الكلب حيوانات أخرى، الصواب – والله أعلم – ما رآه جمهور أهل العلم أنه لا يقاس على الكلب غيره؛ لورود النص فيه، خاصة وإن كان هناك حيوانات أخرى نجسة كالخنزير – مثلاً-، لكن لا تقاس على الكلب في غسل ما ولغ فيه.
رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله
فقه السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 17 )
الحديث الرابع والعشرون
المؤمن لا ينجس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليهوسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت، ثم جئت، فقال: (أين كنت يا أبا هريرة؟) قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك، وأنا على غير طهارة، فقال: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) متفق عليه(1).
في هذا الحديث فوائد مهمة، نستعرضها في الوقفات الآتية:
الأولى: قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب) الجنابة دالة على معنى البعد، ومنه قوله تعالى: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ)، وقوله (فانخنست منه) بالنون والخاء المعجمة، والسين المهملة، الانخناس: الانقباض والرجوع، قال القزاز: انخنست منه أي مضيت عنه مستخفياً. وروي أيضاً: (فانبجست منه) بالجيم من الانبجاس، وهو الاندفاع، أي اندفعت عنه، ويؤيد هذا ما جاء في رواية أخرى: (فانسللت منه).
وقوله: (كنت جنباً): أي كنت ذا جنابة، وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر، والمؤنث، والاثنين، والجمع.
وقوله (فذهبت فاغتسلت) الغسل بضم الغين: اسم الاغتسال الذي هو تعميم البدن بالماء، والغسل بإسكان الغين هو الماء الذي يغتسل به.
وقوله: (سبحان الله): التسبيح معناه التنزيه، ويراد به هنا التعجب من إطلاق أبي هريرة النجاسة، وقال الصنعاني نقلاً عن ابن الكمال: انفعال عما خفي سببه.
وقوله: (إن المؤمن لا ينجس) يقال: نَجَس ونَجُس بالفتح والضم.
الثانية: استنبط بعض أهل العلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- تعظيم أهل الفضل، والصلاح، والعلم، والتقى، وينبغي أن تكون مجالستهم على أحسن الهيئات.
الثالثة: دل الحديث على أن الجنابة ليست نجاسة تحل بالبدن، قال ابن دقيق العيد - رحمه الله-: (والحديث دلّ بمنطوقه على أن المؤمن لا ينجس، فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن، والمشهور التعميم، وبعض الظاهرية يرى أن المشرك نجس في حال حياته؛ أخذاً بظاهر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، ويقال للشيء: إنه نجس بمعنى عينه نجسة، ويقال فيه إنه نجس بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة له، ويجب أنه يحمل على المعنى الأول، وهو أن عينه لا تصير نجسة؛ لأنه لا يمكن أن يتنجس بإصابة النجاسة، فلا ينفي ذلك) اهـ. ففهم من ظاهر الحديث ذات المؤمن لا تنجس، فتخرج عنه حالة التنجس التي هي محل الخلاف.
الرابعة: دل الحديث على استحباب الطهارة لملابسة الأشياء العظيمة، وهذا يؤخذ من إقرار النبي -صلى الله عليهوسلم- لقول أبي هريرة، فلم يعترض على بعده، وإنما اعترض على الحكم بالنجاسة فقال: (إن المؤمن لا ينجس).
الخامسة: استدل بعض أهل العلم بالحديث على طهارة الميت، وذلك لقوله: (إن المؤمن لا ينجس)، فقوله شامل للحي والميت.
السادسة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على جواز تأخير الغسل من الجنابة؛ وذلك لكون أبي هريرة - رضي الله عنه- لم يغتسل حال إصابته الجنابة، ولم يعترض على ذلك رسول الله -صلى الله عليهوسلم-، لكن يستحب أن يغتسل من الجنابة حال حصولها، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
السابعة: يؤخذ من الحديث أيضاً أنه ينبغي استئذان التابع للمتبوع في الانصراف، حيث أنكر النبي -صلى الله عليهوسلم- على أبي هريرة - رضي الله عنه- ذهابه من غير علمه، ولا شك أن ذلك من حسن الأدب، فإذا أراد شخص أن يفارق آخر فليستأذن منه ويعلمه بذلك.
(1) رواه البخاري في كتاب الغسل باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس 1/109 رقم 283.
رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله
فقه السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 18 )
دخول شهر رمضان
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)(1).
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له)(2).
هذان حديثان جليلان، يتعلقان بتقديم صيام يوم أو يومين على رمضان، وبرؤية هلال رمضان وشوال، نعرض ما فيهما من الفوائد والأحكام في الوقفات الآتية
الوقفة الأولى: دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- على النهي على تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، جاء في رواية للبخاري - رحمه الله-: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين)(3).
قال الترمذي - رحمه الله- بعد روايته للحديث: (العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ كلامه - رحمه الله- وقال ابن حجر - رحمه الله-: (قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان..) اهـ.
الوقفة الثانية: دل الحديث على أنه يستثنى من هذا النهي من كان يصوم صوماً اعتاد عليه، فإنه يخرج من هذا النهي، كمن اعتاد أن يصوم يوم الخميس مثلاً، ثم وافق بعده رمضان مباشرة، فهذا مستثنى من النهي، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: (ومعنى الاستثناء أنه من كان له ورد فقد أذن له فيه؛ لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء) ا.هـ.
ومما يلحق بهذا الاستثناء أيضاً القضاء والنذر، قال العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما،، فلا يبطل القطعي بالظن.
الوقفة الثالثة: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: وفي الحديث رد على من يرى تقديم الصوم على الرؤية، ورد على من قال بجواز النفل المطلق.
الوقفة الرابعة: ذكر العلماء - رحمهم الله- عدداً من الحكم لهذا النهي، ومنها: التَّقَوِّي بالفطر لرمضان؛ ليدخل فيه بقوة ونشاط، ومنها: خشية اختلاط النفل بالفرض، ومنها: أن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. وهذه الحكم كلها ملتمسة من هذا النهي، وسواء كانت هي الحكم من النهي أو غيرها فيبقى النهي بعدم تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.
الوقفة الخامسة: دل الحديث بمفهومه أنه يجوز أن يصوم قبل رمضان بثلاثة أيام أو أكثر؛ لأن الحديث حدد النهي بيوم أو يومين، فلو صام رجل قبل رمضان بخمسة أيام مثلاً، ثم أفطر جاز، ولا يدخل في هذا النهي، وإن كان قد جعل بعض العلماء النهي يبدأ من منتصف شعبان، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لضعف الحديث الوارد في ذلك، والله أعلم.
الوقفة السادسة: جاء في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-: (إذا رأيتموه فصوموا): أي رأيتم الهلال.
وقال: (فإن غم عليكم): غُمَّ بضم الغين وتشديد الميم، والمراد استتر عنكم بغيم أو غبار ونحوهما.
وقال: (فاقدروا له) قيل فيها معنيان:
المعنى الأول: فاقدروا له بالحساب، بمعنى فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.
والمعنى الثاني: فاقدروا له أي ضيقوا عليه، بمعنى أن اجعلوا شعبان تسعة وعشرين يوماً.
الوقفة السابعة: دل الحديث دلالة صريحة على أن الحكم بدخول شهر رمضان أو شوال معلق برؤية الهلال، فإن رُؤِيَ الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فيحكم بدخول رمضان، وكذا إن رؤي الهلال ليلة الثلاثين من رمضان فيحكم بدخول شهر شوال، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)، وعليه فإذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فلا صيام، ولا يكون من رمضان.
الوقفة الثامنة: كما دلّ الحديث على أنه إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وكان سبب عدم الرؤية غيماً، أو غباراً، أو قتراً، ونحو ذلك، فتوجيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – هنا هو: (فاقدروا له)، وللخلاف في معنى هذا اللفظ اختلف أهل العلم في الحكم على قولين:
القول الأول: أنه يجب صوم ذلك اليوم من باب الاحتياط، وهؤلاء أخذوا بمعنى (فاقدروا له)، أي ضيقوا عليه، فقدروه تسعة وعشرين يوماً. وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله-.
والقول الثاني: وهو رأي جمهور أهل العلم أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه؛ لأنه ليس من رمضان، وهؤلاء أخذوا بأن معنى (فاقدروا له) أي: أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، كما جاء صريحاً فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً)(4)، وهذا القول هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى-.
الوقفة التاسعة: قال في الحديث: (صوموا لرؤيته)، فإذا رآه أهل بلد هل يلزم الناس جميعاً الصيام أم لا؟.
اختلف أهل العلم في ذلك:
فذهب الإمام أبو حنيفة - وهو المشهور عن أحمد- أنه يلزم الناس جميعاً الصيام؛ لأن رمضان ثبت دخوله، وثبتت أحكامه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيتهم؛ لحديث كريب قال: (قدمت الشام، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فأخبرته، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)(5). رواه مسلم.
وذهب الشافعي - رحمه الله- إلى التفصيل، وقال: إن اختلفت المطالع فلكل قوم حكم في مطلعهم، وإن انتفت المطالع فحكمهم واحد في الصيام والإفطار، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-.
الوقفة العاشرة: في هذا الحديث رد على الذين يعتمدون على الحساب دون الرؤية، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – علق دخول الشهر وخروجه على رؤية الهلال الرؤية البصرية المعتادة. وهذا لا يتنافى مع الوسائل الحديثة التي تعين في الرؤية، لكن الحكم المعلق بها.
(1) رواه البخاري 4/127 برقم (1914) كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين. ورواه مسلم 2/762 برقم (1082) كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين. ورواه أبو داود 1/713 برقم (2335) كتاب الصيام، باب فيمن يصل شعبان برمضان.
(2) رواه البخاري 4/113 برقم (1900) كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان. ورواه مسلم 2/759 برقم (1080) كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال. ورواه ابن ماجه 1/529 برقم (1654) كتاب الصيام، باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
(3) رواه البخاري 4/127 برقم (1914) كتاب الصيام، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، ورواه مسلم 2/762 برقم (1082) كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين.
(4) رواه البخاري 4/119 برقم (1909) كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. ورواه مسلم 2/762 برقم (1081) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافرين في غير معصية. ورواه الإمام أحمد 2/454، 456.
(5) رواه مسلم 2/765 برقم (1087) كتاب الصيام، باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال .
رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله
فقه السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 19 )
فضل السحور، وحكم الجنب في رمضان
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (تسحروا فإن في السحور بركة)(1).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه- قال: (تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية)(2).
وعن عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما-:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم(3).
هذه أحاديث تتعلق بشيء من أحكام الصيام نعرضها في الفوائد الآتية:
الوقفة الأولى: قال في حديث أنس: (فإن في السحور بركة) السحور بفتح السين ما يتسحر به، وبضمها أكل السحور، والبركة مضافة إليهما جميعاً.
الوقفة الثانية: دلّ حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه- على الترغيب في أكل السحور، وسمي الأكل في ذلك الوقت السحور إضافة إلى وقته؛ لأنه يؤكل وقت السحر. ومما ورد في الترغيب فيه ما رواه مسلم وغيره عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)(4)، وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر - رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)(5).
الوقفة الثالثة: ذكر أهل العلم أن من بركة السحور ما يحصل به التَّقَوِّّي على طاعة الله تعالى في النهار، فإن الجوع والظمأ يفتر الجسم، ومن ثَمَّ يفتر ويتكاسل عن الطاعة. ومن بركته أيضاً الثواب والأجر؛ لامتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم-، ومن بركته أيضاً أن المتسحر يستيقظ في هذا الوقت الفاضل، فيصحب هذا السحور حمد، وشكر، وذكر لله تعالى، ودعاء، واستغفار، وهو وقت فاضل، ينزل فيه الرب - سبحانه وتعالى- إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله وعظمته؛ لينادي عباده هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟ هل من مستغيث لأغيثه؟ فالقائم للسحور يتعرض لهذه النفحة الكريمة، فلعلها تسبب له مغفرة لذنوبه، وتكفيراً لسيئاته، ورفعة لدرجاته، وتقبلا لطاعته.
الوقفة الرابعة: دل حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه- على استحباب تأخير السحور إلى قبيل الفجر، فقد قال أنس لزيد بن ثابت - رضي الله عنهما- كم كان بين الأذان والسحور قال: قدر خمسين آية.
ومما يدل على أفضلية تأخير السحور ما رواه الشيخان - رحمهما الله- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور)(6)، والحكمة من ذلك – والله أعلم – أنه يراد به التَّقَوِّي على طاعة الله تعالى، فكلما تأخر كان عوناً على ذلك.
ومن هذا يفهم أن ما يعمله بعض الناس من الأكل في وسط الليل، وإذا قرب الفجر ناموا، أنهم بهذا أخطأوا على أنفسهم، وفوتوا عليها أجراً عظيماً، بل ربما تعرضوا للإثم والوزر؛ ذلك أنهم يتعرضون للنوم، وقد لا يستطيعون الاستيقاظ لصلاة الفجر، فهم بهذا جمعوا بين مخالفتين عظيمتين، مخالفة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في عدم تأخير السحور، والمخالفة الكبرى في تفويتهم لصلاة الفجر.
الوقفة الخامسة: دل حديث عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما- على حكم من الأحكام يتعرض له بعض الناس، وهو أن المسلم قد ينام وهو على جنابة بجماع، أو يحصل لهم احتلام أثناء النوم، فيستيقظ جنباً، فيبادر إلى السحور، ثم يطلع عليه الفجر وهو لا زال على جنابة، فعائشة، وأم سلمة تخبرانا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، فدلّ ذلك على صحة صوم من أصبح جنباً من جماع أو احتلام، ولو لم يغتسل، إلا بعد طلوع الفجر........بالذكر، والقراءة، والدعاء، كان أولى...
الوقفة السادسة: دلّ هذا الحديث أيضاً أنه لا فرق بين الصوم الواجب والنفل، ولا بين صيام رمضان من غيره، فالحكم في ذلك واحد.
الوقفة السابعة: استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث أيضاً جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل الفجر، ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)(7).
(1) رواه البخاري 4/139 برقم (1923) كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب. ورواه مسلم 2/770 برقم (1095) كتاب الصيام، باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر. ورواه الترمذي 3/88 برقم (708) كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل السحور.
(2) رواه البخاري 4/138 برقم (1921) كتاب الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ورواه مسلم 2/771 برقم (1097) كتاب الصيام، باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر.
(3) رواه البخاري 4/143 برقم (1925 – 1926) كتاب الصيام باب الصائم يصبح جنباً. ورواه مسلم 2/780 برقم (1109) كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر.
(4) رواه مسلم 2/770 برقم (1096) كتاب الصيام، باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، ورواه النسائي 4/146 برقم (2166) كتاب الصيام باب فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب. ورواه الإمام أحمد في مسنده 4/197.
(5) رواه الإمام أحمد 3/44.
(6) رواه البخاري 4/198 برقم (1957) كتاب الصوم، باب تعجيل الإفطار. ورواه مسلم 2/771 برقم (1098) كتاب الصيام باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه.
(7) سورة البقرة الآية رقم (187).
رد: فقه السنة*** متجدد إن شاء الله
فقه السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 20 )
المفطرات في الصيام
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)(1).
وعنه - رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت. فقال: (ما أهلكك؟)، أو (مالك)؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا. قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟) قال: لا. قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم-، فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، والعرق: المكتل، قال: (أين السائل؟) قال: أنا، قال: (خذ هذا فتصدق به) فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لا بتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: (أطعمه أهلك)(2).
هذان حديثان عظيمان، يتعلقان ببعض المفطرات، نعرض ما فيهما من فوائد وأحكام في الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: دلّ الحديث الأول على أن الأكل والشرب من المفطرات، وهما إيصال الطعام والشراب إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف، أيَّاً كان نوع الأكل والشرب، وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)(3)، ويدخل في حكم الأكل والشرب ما كان في معناهما.
الوقفة الثانية: دل الحديث أيضاً على أن من أكل أو شرب ناسياً فلا يعتبر مفطراً، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)، ويعضد هذا قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(4)، وقوله سبحانه: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)(5).
ومما ينبه إليه أن الناسي إذا ذكر أنه صائم عليه الإمساك فوراً، ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء، وينبغي على من رأى صائماً يأكل أو يشرب أن ينبهه؛ لأن هذا من التعاون على البر والتقوى.
الوقفة الثالثة: جعل بعض أهل العلم الجاهل كالناسي في الأكل والشرب، فمن تناول مفطراً وهو جاهل فصيامه صحيح إن شاء الله تعالى، سواءً كان جاهلاً بالحكم الشرعي، مثل أن يظن أن هذا الشيء غير مفطر فيفعله، أو جاهلاً بالوقت، مثل أن يظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع فيأكل، والدليل على ذلك اجتماع الناسي والمخطئ في قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
الوقفة الرابعة: دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- الثاني على أن الجماع في نهار رمضان لا يجوز، وهو أشد المفطرات إذ رتب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- الكفارة، فعندما جاءه هذا الرجل واسمه سلمة بن صخر البياضي، وصف فعله بالهلاك، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فلم يعترض الرسول - صلى الله عليه وسلم- على هذا الوصف، وبين له ما يخرجه من هذا الهلاك، وهو الكفارة، فدل على عظم هذا الفعل وشناعته، وأنه محذور يجب تركه، والابتعاد عنه، وعد التساهل في ذلك، فيعرض الإنسان نفسه للخطر، وللإثم العظيم.
الوقفة الخامسة: بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث نوعية الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مد من بر، أو غيره.
واختلف أهل العلم في الكفارة، هل هي على التخيير أم على الترتيب؟ والذي عليه جمهور أهل العلم أنها على الترتيب؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- عرضها مرتبة في هذا الحديث.
الوقفة السادسة: استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث أن الكفارة تسقط مع الإعسار؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أذن للرجل أن يطعم التمر أهله. ولكن جمهور أهل العلم قالوا أنها لا تسقط بالإعسار؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- عندما قال الرجل لا أجد - يعني ما يكفر به- سكت، ولم يبرئ ذمته منها. أما الترخيص له في إطعامه أهله، فقد قال بعض العلماء إن المكفر إذا كفر عنه غيره جاز أن يأكل منه، ويطعمه أهله.
الوقفة السابعة: اختلف أهل العلم فيما إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، هل تجب عليه الكفارة أم ليس عليه شيء كمن أكل أو شرب ناسياً؟ فذهب الإمام أحمد - رحمه الله- ومن تبعه في ذلك إلى أن الجماع مفسد للصيام، ولو كان من الجاهل والناسي، مستدلين بأن الحديث في الآكل، والشارب، والناسي فقط، مما يدل على أنه لا يشمل المجامع. وذهب الجمهور إلى أن المجامع الناسي لا يفسد صومه، مستدلين بالعمومات الواردة في أحكام الناسي، مثل قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، وقوله - -صلى الله عليه وسلم-: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-.
(1) رواه البخاري 4/155 برقم (1933) كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً. ورواه مسلم 2/809 برقم (1155) كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر.
(2) رواه البخاري 4/136 برقم (1936) كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر. ورواه مسلم 2/781 برقم (1111) كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه.
(3) سورة البقرة الآية رقم (187).
(4) سورة البقرة الآية رقم (286).
(5) سورة الأحزاب الآية رقم (5).