المختصر المفيد لمعنى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون - من روائع شيخ الاسلام
( قل يا أيها الكافرون ( 1 ) لا أعبد ما تعبدون ( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 3 ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( 4 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 5 ) لكم دينكم ولي دين ( 6 ) )
يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله-( قل يا أيها الكافرون ) الخطاب للمشركين كلهم من مضى و من يأتى إلى يوم القيامة --(لا أعبد ما تعبدون ) -قوله لا أعبد -يتناول نفي عبادته لمعبودهم فى الزمان الحاضر و الزمان المستقبل وقوله "ما تعبدون" يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل كلاهما مضارع,
و قال في الجملة الثانية عن نفسه" ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) فلم يقل لا أعبد بل قال" ولا أنا عابد" و لم يقل ما تعبدون بل قال "ما عبدتم" فاللفظ فى فعله و فعلهم مغاير للفظ فى الجملة الأولى
و النفى بهذه الجملة الثانية أعم من النفي بالأولى فإنه قال ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) بصيغة الماضي فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي لأن المشركين يعبدون آلهة شتى و ليس معبودهم فى كل و قت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى,
فقوله ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) براءة من كل ما عبدوه فى الأزمنة الماضية كما تبرأ أولا مما عبدوه فى الحال و الإستقبال فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون و الكافرون فى كل زمان ماض و حاضر و مستقبل و قوله -أولا - لا أعبد ما تعبدون لا يتناول هذا كله--- فقوله "و لا أنا عابد ما عبدتم" أي نفسي لا تقبل و لا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط و لو كنتم عبدتموه فى الماضي فقط - فأي معبود عبدتموه في و قت - فأنا لا أقبل أن أعبده فى و قت من الأوقات,
ففي هذا من عموم عبادتهم فى الماضي و المستقبل و من قوة براءته و إمتناعه و عدم قبوله لهذه العبادة فى جميع الأزمان ما ليس فى الجملة الأولى - تلك تضمنت نفي الفعل فى الزمان غير الماضي و هذه تضمنت نفي إمكانه و قبوله لما كان معبودا لهم و لو فى بعض الزمان الماضي فقط و التقدير ما عبدتموه و لو فى بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني و لا يسوغ لى أن أعبده أبدا,
و لكن لم ينف إلا ما يكون منه فى الحاضر و المستقبل لأن المقصود براءته هو فى الحال و الإستقبال -و هذه السورة يؤمر بها كل مسلم و إن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها فهو يتبرأ فى الحاضر و المستقبل مما يعبده المشركون فى أي زمان كان - و ينفى جواز عبادته لمعبودهم و يبين أن مثل هذا لا يكون و لا يصلح و لا يسوغ فهو ينفى جوازه شرعا و وقوعا -فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال أنا أفعل هذا ما أنا بفاعل هذا أبدا فهو أبلغ من قوله لا أفعله أبدا و هذا كقوله تعالى:" وما أنت بتابع قبلتهم و ما بعضهم بتابع قبلة بعض"
فهو يتضمن نفى الفعل بغضا فيه و كراهة له بخلاف قوله لا أفعل فقد يتركه الإنسان و هو يحبه لغرض آخر فإذا قال ما أنا عابد ما عبدتم دل على البغض و الكراهة و المقت لمعبودهم و لعبادتهم إياه و هذه هى البراءة,
و لهذا تستعمل فى ضد الولاية فيقال تول فلانا و تبرأ من فلان كما قال تعالى: "إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم و مما تعبدون من دون الله"--
و أما قوله عن الكفار ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) فهو خطاب لجنس الكفار و إن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك فإنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون و إن كانوا منافقين فهم كافرون فى الباطن فيتناولهم الخطاب
و هذا كما يقال قل يا أيها المحاربون و المخاصمون و المقاتلون و المعادون فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة,
و ما دام الكافر كافرا فإنه لا يعبد الله و إنما يعبد الشيطان سواء كان متظاهرا أو غير متظاهر به كاليهود,
فإن اليهود لا يعبدون الله و إنما يعبدون الشيطان لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع و أمر وهم و إن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة و المنهى عنها هو يكرهها و يبغضها و ينهى عنها فليست عبادة,
فكل كافر بمحمد لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرا و الفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع فهو ما دام كافرا لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه و سلم لا في الحاضر و لا فى المستقبل, { لكم دينكم ولي دين } خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد . فدينه قبل الإسلام له كان والمؤمنون بريئون منه وإن غفره الله له بالتوبة منه كما قال لنبيه { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } فإنه بريء من معاصي أصحابه وإن تابوا منها . وهذا كقوله : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون }
وعلى كل تقدير فالخطاب للمشركين كلهم من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة .
وقد أمره الله بالبراءة من كل معبود سواه . وهذه ملة إبراهيم الخليل وهو مبعوث بملته . قال الله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } { وجعلها كلمة باقية في عقبه } .
فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله . وهي ملة إبراهيم . وقد قال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .
وإذا كان كذلك فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم وإذا لم يكونوا على ملته لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم . فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته قال تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } إلى قوله { وهو السميع العليم } فقوله : { قل بل ملة إبراهيم } يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم .
وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم . والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل . قال تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } وقال { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم } الآية .
وقال { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .
وقال الخليل أيضا : { يا قوم إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } . وقال { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } .
وقال لنبيه : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } . فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب . -والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه . قال أبو العالية : رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله وتركوا دين إبراهيم . وكذلك قال قتادة : بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ .
فأما موسى والمسيح ومن اتبعهما فهم على ملة إبراهيم متبعون له وهو إمامهم . وهذا معنى قوله { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } . فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث محمد وبعد مبعثه . وقيل إنه عام قال الحسن البصري : كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضى وممن بقي . وقال الربيع بن أنس : هم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه وكان محمد والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم . وهذا وغيره مما يبين أن اليهود والنصارى لا يعبدون الله وليسوا على ملة إبراهيم .
فإن قيل : فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قول الخليل { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } . فقد استثناه مما يعبدون فدل على أنهم كانوا يعبدون الله . وكذلك قوله { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني } واستثناه [ ص: 573 ] أيضا . وفي المسند وغيره حديث { حصين الخزاعي لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا حصين كم تعبد اليوم ؟ قال : سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء . قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء } .
قيل : هذا قول المشركين كما تقول اليهود والنصارى : نحن نعبد الله . فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا .
وأما قول الخليل ففيه قولان . قال طائفة : إنه استثناء منقطع . وقال عبد الرحمن بن زيد : كانوا يعبدون الله مع آلهتهم .
وعلى هذا فهذا لفظ مقيد . فإنه قال { ما تعبدون } . فسماه عبادة إذا عرف المراد لكن ليست هي العبادة التي هي عند الله عبادة . فإنه كما قال تعالى : " { أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك } " . وهذا كقوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } . سماه إيمانا مع التقييد وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلها آخر لا يدخل في مسمى الإيمان عند الإطلاق . وقد قال { يؤمنون بالجبت والطاغوت } { فبشرهم بعذاب أليم } . فهذا مع التقييد . ومع الإطلاق فالإيمان هو الإيمان بالله والبشارة بالخير . --نفي العبادة مطلقا ليس هو نفي لما قد يسمى عبادة مع التقييد . والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال : إنه يعبد الله وغيره أو يعبده مشركا به . لا يقال : إنه يعبد مطلقا . والمعطل الذي لا يعبد شيئا شر منه . والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة وعبادة المشرك ليست مقبولة .
فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه واختياري به عداوتكم والصبر على أذاكم واحتمالي هذه المكاره العظيمة . بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم وتصفوني بالأمانة وتسموني " الأمين " وتفضلوني على غيري ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان وأني لا أختار لأحد منكم سوءا ولا أريد أن أصيب أحدا بشر . فاختياري للبراءة مما تعبدون وإظهاري لسبهم وشتمهم . أهو سدى ليس له موجب أوجبه ؟ فانظروا في ذلك . ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته مع ما فيها من كمال البراءة منهم .
[ مختصر بتقديم وتأخير بعض المواضع ليناسب السياق - من تفسير سورة الكافرون لشيخ الاسلام] --
رد: المختصر المفيد لمعنى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون - من روائع شيخ الاسلام
.............................
الطبقات الكبرى لابن سعد
اخبرنا محمد بن عمر قال حدثني معمر بن راشد عن الزهري قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام سرا وجهرا فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار قريش غير منكرين لما يقول فكان إذا مر عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب الله آلهتهم التي يعبدونها دونه وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وعادوه .